لقد مرّت الضفة الغربية المحتلة، خلال العشرين سنة الماضية تقريباً، بمرحلةٍ يصح تقييمها على أنها كانت مرحلة «موتٍ سريريٍ» على صعيد الفعل المقاوِم، وعلى صعيد أثرها على الاحتلال وقدرته على الاستمرارية والتمدّد في أراضي الضفة الغربية. لكننا نشهد، منذ فترةٍ، بشائر نهاية هذه المرحلة، ممّا يوجب النظر في التحولات التي تعيشها الضفة، ليس لغرض التحليل فقط، وإنما لِيبنى على الأمر مقتضاه للمرحلة المقبلة. لقد تكوّنت قناعةٌ خاطئةٌ خلال الثلاثين سنةً الماضية عند شريحةٍ واسعةٍ من أبناء الشعب الفلسطيني، لا سيما من أبناء حركة «فتح»، تقول بأنه من الممكن استرداد بعضٍ من الحقوق العربية الفلسطينية المسلوبة عبر طريق المفاوضات. ولقد تكَوّن هذا الاقتناع بسبب مسار «أوسلو» الذي سلكته «م.ت.ف» بقيادة حركة «فتح». وتعدّ هذه القناعة وهذا المزاج من الأسباب الجوهرية لمرور الضفة في حالة «موتٍ سريريٍ»، إذ حرم هذا المزاج المقاومة في الضفة من قسم لا يستهان به من حاضنتها الشعبية.
ومثّلت حقبة محمود عباس ذروة مرحلة الموت السريري ، إذ غدا «التنسيق الأمني» الوظيفة الأولى لأجهزة سلطة رام الله الأمنية، فصارت حماية أمن المستوطنات والمستوطنين، والقضاء على أي فرصةٍ لمقاومة الاحتلال مهما كان شكلها، أهم إنجازات سلطة رام الله، لدرجة أنها تفوّقت على الاحتلال ذاته في تلك الوظيفة.
لكن، نتيجةً لوصول مسار «أوسلو» إلى طريقٍ مسدودٍ كما كان محكوماً عليه منذ البدايات، وظهور نتائجه الكارثية في الضفة، وعلى المشروع الوطني الفلسطيني عموماً، بالإضافة إلى تحوّل سلطة رام الله إلى أداةٍ وظيفيّةٍ في يد الاحتلال، وذلك كمسارٍ طبيعيٍ لوجود أي سلطة حكمٍ ذاتيٍ في ظل الاحتلال كما علّمتنا تجارب الشعوب الأخرى، نتيجةً لكل هذا، بدأ في الأعوام القليلة الماضية ظهور بشائر تحوّل في المزاج العام الفلسطيني في الضفة. إذ بدأت الضفة باستعادة نفَسها الثوري بالتدريج، وبدأت الحاضنة الشعبية للمقاومة بالتوسع وعودتها إلى سابق عهدها تدريجاً، واتّضح هذا من خلال انتفاضات الأقصى المتتالية، ومن خلال عمليات طعن المستوطنين وعمليات الدّهس الأسبوعية تقريباً، والتي تصاعدت بعد ذلك لتصبح بعضها عمليات إطلاق نارٍ واشتباكاتٍ مسلّحةٍ، كان منها عملياتٌ فدائيةٌ وقعت في أراضي 1948 المحتلة.
وعلى أهمية عمليات المقاومة الفردية تلك، إلا أن الضفة قد شهدت في الأشهر القليلة الماضية تطوراً ملموساً في عمليات مقاومة الاحتلال، إذ ظهرت مجموعاتٌ منظمةٌ تُحْسِن استخدام السلاح في ساحات الضفة، كانت طليعتها «كتيبة جنين» في مخيّم جنين، والتي شكّلت التجربة الناجحة الأولى، والتي تتكرّر اليوم في مدينة نابلس من خلال «كتيبة نابلس».
ولا يبدو أن هذه الكتائب الفتِيّة تنتمي إلى فصيلٍ فلسطينيٍ بعينه، إذ يظهر أنها تتشكّل من مجاهدين ينحدرون من خلفياتٍ فصائليةٍ متنوعةٍ، إلّا أن ما يجمع بين هؤلاء المجاهدين الاقتناع بفشل مسار «أوسلو»، وبأن سلطة رام الله باتت جزءاً من أجهزة الاحتلال بصورةٍ فعليةٍ، وفوق هذا وذاك يجمع بينهم إيمانهم بخيار المقاومة المسلحة كخيارٍ أصيلٍ للشعب الفلسطيني، يمكن أن يفضي بصورةٍ واقعيةٍ إلى دحر الاحتلال والتحرير.
وممّا ساعد في تطوّر هذه الكتائب ونجاح عملياتها، كان عدم اعتمادها على الصيغة الهرمية في تنظيمها، حيث صعّب ذلك على كلٍ من سلطة رام الله وقوات الاحتلال ضربها والقضاء عليها، هذا بالإضافة إلى تمتّعها بحاضنةٍ شعبيةٍ أوسع، وذلك جراء التحوّل الذي حصل في المزاج العام عند أكثرية الشرائح التي كانت مقتنعةً بمسار «أوسلو»، بعد تبيُّنها عبثيّة ذاك المسار وعقمه.
ولا يمكن فصل مجموع التطورات التي تشهدها الضفة في العمل المقاوم، وبشائر خروجها من مرحلة الموت السريري، عن السياق العام لتبدّل البيئة الاستراتيجية التي تحكم المنطقة، وأهمّها تراجع فعالية الكيان المؤقت عسكرياً، وذلك بعد إخفاقات معاركه التي خاضها منذ حربه ضد لبنان 2006 وحروبه التي تلتها ضد قطاع غزة من المنظور الاستراتيجي. فتراجع الكيان عسكرياً، بالإضافة إلى ما رافقه من تعاظمٍ في قدرات «محور القدس»، لا سيما فصائل المقاومة في قطاع غزة، قد خلق ظرفاً جديداً في الضفة بما يشبه شبكة أمان لكتيبتي جنين ونابلس. إذ بات الكيان يقيم حساباتٍ دقيقةٍ لتصعيد الوضع في الضفة، خوفاً من انفجار الأوضاع ودخول غزة على الخط. فقد كانت «كتائب القسام» ألمحت سابقاً إلى إمكانية دخولها على خط المعركة، في حال قيام الكيان بتنفيذ اجتياحٍ واسعٍ لمخيَّم جنين على غرار اجتياح 2002. هذا ناهيك عن الحديث المستجد حول وحدة الجبهات بين أطراف «محور القدس» في المعارك المقبلة، ولا بد أن توفُّر ما يشبه شبكة الأمان في الضفة، قد أمَّن بيئةَ عمَلٍ أكثر راحةً لكتيبتي جنين ونابلس.
ولا يغيّر العدوان الصهيوني الأخير في هذا الشهر ضد قطاع غزة على البيئة الاستراتيجية الراهنة، فعدم مشاركة «كتائب القسام» علناً بالقتال يعود لحسابات تكتيكية فرضتها طبيعة المعركة الأخيرة وأهدافها، وذلك لتحقيق الهدف المرجو بأقل الخسائر، سواء أكان في عدد الشهداء أم في البنية التحتية لقطاع غزة.
يمكن إذاً القول بأن الضفة تَفتتِح مرحلةً مغايرةً لسنوات «أوسلو» العجاف، بسبب التحولات الداخلية الفلسطينية في المقام الأوّل، مع ملاحظة الأهمية القصوى للتحولات الإقليمية كذلك. وهذا ما يلقي على فصائل المقاومة في قطاع غزة، مع بقية قوى «محور القدس» عموماً، مسؤولية بناء تكتيكاتٍ مناسبةٍ لتطوير تجربتي كتيبتي جنين ونابلس الواعدتين، لا سيما أنه بات من الواضح تراجع فعالية قبضة أجهزة سلطة رام الله الأمنية في الضفة، مما يتيح فرصاً أكبر لإمداد المقاومين هناك بالعتاد، علماً بأن ما يلزم الضفة من حيث نوعية العتاد أقل بكثير مما تحتاجه غزة بسبب الفروقات في طبيعة الميدان.
وفي حال تجذُّر تجربتي كتيبتي جنين ونابلس، وتطويرهما ليمتدّا إلى مناطق أخرى في الضفة، سيكون الاحتلال أمام واقع استنزافٍ حقيقيٍ مشكوك في قدرته على تحمُّله طويلاً، ليصير حينها الحديث عن إمكانية تكرار الضفة لتجربتي جنوب لبنان وقطاع غزة أمراً واقعياً، تلكما التجربتان اللتان أُجبِر فيهما الاحتلال على الانسحاب من دون قيدٍ أو شرطٍ من الأراضي التي كان يحتلُّها، وهنا تكون قوى المقاومة قد قفزت قفزةً كبرى نحو استكمال تحرير كامل الأراضي العربية الفلسطينية من رأس الناقورة إلى أم الرشراش.
وختاماً، أدعو المتشككين في واقعية هذا الطرح إلى العودة بالذاكرة نحو 15 عاماً، ويقارنوا بين حال فصائل المقاومة في غزة حين ذاك، وبين ما وصلت إليه اليوم من اقتدار، فهل كانوا ليتصوروا حين ذاك وصول فصائل المقاومة في غزة إلى ما وصلت إليه اليوم؟

* كاتب وباحث فلسطيني