تُنبِئنا كتب الفِرَق بأنّ خلافاً وقعَ بين المذاهب الإسلاميّة ومُتَكَلِّميها في حُكم مُرتَكِب الكبيرة. والكبيرة ضربٌ من الذنوب وَردَ بيانها في القرآن الكريم أو في الحديث النبويّ (منها القتل والزنى والسرقة وعقوق الوالدين وأكل الربا والشِّرك) مرفقةً بالوعيد الشديد والعذاب الأليم. ولذا، ميّز المتكلّمون المسلمون بينها وبين الذنوب الأخرى (الصغائر) التي وجدوا أنّها، وإن كانت محرَّمةً، أقلّ عذاباً في الدنيا والآخرة. والمسألةُ، كما هو معروف، من كُبرَيات مسائل الكلام والعقيدة عند المسلمين. والظاهر أنّ أوَّلَ مَن أحدَث الكلام فيها كان بعض فِرَق الخوارج الذين تشدّدوا في عقاب مُرتَكِب الكبيرة وحكموا بِكُفرِه، مَع ما يُصاحِب هذا القول، في أحيانٍ كثيرة، من الحُكم بالقتل أو النفي أو ما شابه من أحكام «الاستِئصال». ولكنّ خصومهم من المُعتَزِلة، وإن كانوا أيضاً في العادة من المتشدّدين في الأحكام –وذلك على العكس من الصورة الورديّة التي تُسبَغ عليهم– وجدوا في حُكم الخوارِج «طَحشَةً» لا تُناسِب مذهبهم (وترقّيهم المطّرد في سُلّم السلطة السياسيّة آنذاك). كما أنّهم لم يستسيغوا الموقف الليّن والسطحيّ لفرَق المُرجِئة، فوافقوا الخوارِجَ على وقوع العذاب الأليم (والأبديّ عند بعضهم) لمُرتكب الكبيرة ما لم يَتُب، ولكنهم عدَلوا عن القول بـأنّه «كافر» إلى القول بأنّه «فاسق». وهذه من مشهورات ما يُحكى عنهم مِن القول بـ«المنزلة بين المنزلتَين» التي تُعدّ من «أصولهم الخمسة».
وقد جاءَ مَن تَندَّر بعدَ ذلك على المُعتَزِلة في حُكمهم هذا فدَعاهم «مَخانيث الخوارج»، لأنّ المعتزلة «لم تَجسِر» على القول بقول الخوارج وهي مع ذلك تدّعي أنّ حكمها في هؤلاء متقدّم على الحكم المتساهل للمُرجئة.
والنُّكتَة التي ها هُنا ليست في التعيير «الجندري»، بل في أنّ «الخُنثى» هو/هي بالضبط مَن يقع في «مَنزِلةٍ بين المنزلَتين»، فلا يُعدُّ في الذكور ولا في الإناث، بل في بَرزَخٍ ما بين الجنسَين. ولا عيبَ في ولادة الإنسان خنثى؛ لكنّ مَن سَخِرَ من المعتَزلة بهذا اللفظ عابَ عليهم أنّهم، مَع قولهم بالاختيار في الأفعال، أبهموا موقفهم من مرتكب الكبيرة بما يجعله، من وجهة نظره، بلا طائل ومجرّد تلاعب لفظيّ بين معاني الكفر والفسق. وهذه الحال في الحكم على الفكر المعتزليّ ليست فريدة، ففي سياق آخر، دُعيَ المُعتزلة أنفسهم، لأسباب شبيهة بما تقدّم، بـ«مخانيث الفلاسفة» أو «مُخنّثة الفلسفة». وانتقل هذا التعييب إلى غيرهم، إذ دُعيَ خصومُهم من الأشاعرة «مخانيثَ المُعتزِلة»، وذلك لأنّهم قصروا عن أن يكونوا معتزلةً كاملين، ومع ذلك فإنّهم لم يمحضوا التَّسَنُّنَ محضاً كما عند جمهور علماء الحديث والسَّلَف.
والحال هذه، فإنّ التشبيه ينطبق على حركات فكريّة وسياسيّة كثيرة نصادفها في واقعنا ونجدها وقد انخَنَثَت مواقفُها على الرغم من ادّعائها الجذريّة والثوريّة والتغييريّة (والمعتزلة كانوا حركة سياسيّة في الحقيقة وليسوا مجرّد مذهب عَقديّ، نعم لم ينجحوا في التحوّل إلى «طائفة»). وعلى سبيل الطرفة، فقد جرى مَثَلُ هذه الكلمة بالفعل في كتابات بعض النقّاد، فرأيت بعضهم قد سمّى عدداً من الحركات السياسيّة المعاصرة بـ«مخانيث الإسلاميّين»، ولولا الرقابة الذاتية لسمّيتهم.
■ ■ ■

وأنتَ لو تصفّحت الوجوه التي بتنا نألف صورها، ولا سيّما على صفحات الفضاءات الافتراضيّة، فإنّك لن تَجِد اليومَ إلّا «المَخانيث» في الفكر والسياسة، والفنّ والعِلم، والفقه والكلام، والفلسفة والتصوّف والعرفان. ولا إشكال في أن يتشرّب المَرء في المعرفة من روافد كثيرة ومتعدّدة، ولكن، كلّما «كُشِفَ عن ساقٍ»، وكلّما ارتُكِبَت «كبيرة» في حيّنا، وجدتَ بعضهم يخرج من بين الصفوف وينأى بجانبه، وقد خَنَّثَ موقفه بما «لا ينصرُ الحقَّ ولا يخذلُ الباطلَ».
وإن شئتَ الاعتبار فاعتبِر بـِ«مَخانيث اليسار» على وجه الخصوص.
وكما أنّني لا أنافح عن الخوارج ولا عن المعتزلة، فإنّني أيضاً لا أعبّر عن وَلَهٍ باليسار ولا عن رغبة بغسله بتنقيته من شوائبه. ولكنّ المرء يشتاقُ فعلاً إلى زمن الوضوح –يومَ كانَ الإسلاميّ يُجالِس الماركسيّ مثلاً ويتجادلان على أرضٍ صلبة. لكن، ليس ثَمَّةَ اليوم إلّا المخانيث. هؤلاء الذين دأبوا على التلفيق في كلّ شيء وهُم ينسبون أنفسهم زوراً إلى اليسار. وحين يشعرُ أحدهم بأنّه قد زلّت له قدمٌ في هذه النسبة، فإنّه يُردف قائلاً ومستغفراً لنفسه: «اليسار الأوروبيّ»! واليسار الأوروبي –أعزّك الله– ليس إلّا المنتج الاستهلاكي (الخالي من الغلوتين ربّما) الذي تروّجه المناهج الغربيّة في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وذلك بعد سنوات من «التكرير والفلتَرة» وتنقية الأدبيات اليسارية من كلّ ما هو ثوري ومناهض للاستعمارية، واستبداله بخطاب الهُويّات القشريّة والمحافظة على البيئة بما لا يضرّ منظومة رأس المال ولا يعارض حملات الغزو والانقلابات الأميركية.
هذا اليسار الذي تسمح به الرقابة الغربيّة بعد أن دجَّنه سقوط جدار برلين وكَوَت وَعيَه نظريات نهاية التاريخ، ثمّ تمظهر لدينا في آلاف الناكثين –«اليساريّين التوّابين» كما يصفهم إبراهيم الأمين– الذين ارتدّوا على أعقابهم بعد فشلهم في مواجهات النكسات والاجتياحات.
وإن تَنزّلتَ إلى المستوى اللبنانيّ وسألتَ بعض اليسار عن رؤيته للبلاد ولا سيّما أننا في أَوج الأزمة، فإنّه سيعاجلك بِتَرجومة «الدولة المدنيّة» أو «العَلمَنَة الشامِلة»، وما أشبه ذلك من تركيبات. تُراكَ عزيزي لَم تَثقَف في هذه الكتب التي تتلوها علينا أيّ ضربٍ من ضروب «الاشتراكيّة»؟ أليس من الغريب أن لا تسمَع مِن تَرِكة الشيوعيّين واليساريّين في لبنان شيئاً عن الانتقال إلى الاشتراكيّة والمجتمع التشاركيّ وحقوق الطبقة العاملة؟ أم أنّك حريص على استرضاء الرفاق والرفيقات من «مُؤَنجَأَةِ» الحمرا؟
«عَقلانيّو» هذه البلاد من يَسارِيّي المنظّمات الدولية وعلمانِيّي الجامعات الأميركية، لا يعرفون أيّ شيء عن مبادئ مثل إعادة توزيع الدخل والثروة، لأنّها ستطاول حُكماً كثيراً من عوائلهم أو ستقضي على أحلامهم في «الاتحاد والترقي» الوظيفيَّين في المنظّمات الأممية. ولم يَرِد في خاطرهم، ولو على سبيل التساؤل، أيّ شيء عن مشاريعَ مثل بناء الجامعة الوطنيّة، لأنّها ستعني أنّه سيكون عليهم أن يلتقوا بطلّاب الأحياء الفقيرة الذين لا يرطنون مثلَهم بالإنكليزيّة وبلكنة أميركيّة، ولا يشاركونهم فهمهم العميق لـ«إدارة المجال».
ولسنا ننتظر منهم أصلاً أن يستحضروا في تفكيرهم الذين قاتلوا إسرائيل في الجنوب، ففي النهاية حساسيّتهم تجاه الإسلاميّين قديمة. ولكنّ الإمبريالية الأميركية لا تُعيي مَن يبحث عن مآثرها في الحروب والدمار. غير أنّ «يسار الاستعمار» لا يعرف عن ذلك كلِّهِ شيئاً، ولا يهمّه اليوم سوى التنظير لـ«إمبرياليّة الصين» (وبعضهم لديه نظريّات حول الإمبريالية الإيرانيّة!)، وليس له سوى التعاطف مع قضايا قومية كئيبة يرضى عنها السيّد الأميركي. أمّا دولة مثل كوبا، فهي حتماً ليست في وارِد أن تكون عندهم مضرب المَثل في النضال اليساري والثوري.
واستحضار «النموذج» ليس مسألةً عابرةً في ماهيّة الحركات السياسيّة. العناوين الرنّانة والرؤى الاستراتيجيّة العريضة لا تدخل إلى وجدان الناس بالمحاضرات (إذا كان هؤلاء الناس ضحايا الرأسماليّة ووظيفتك انتشالهم من براثنها)، بل بالنموذج الذي ستعِدُ الناس به، وبالحياة التي يجدون أنّك تعيشها. ومهما نادَيت بالشعارات، فإنّ طريقة عيشك ومستوى رفاهيتك ومَهوى فؤادك ومهبط أفكارك ومختَلَفَ أَقرانِك أمورٌ كلّها ستفضح «النموذج» الحقيقيّ الذي يدور في خلدك. إن كانت الصين كبيرةً جدّاً لتصلح للمُقايَسة، فهذه كوبا وفنزويلا وبوليفيا بِبابِك. شتم النموذج اللبنانيّ بُكرةً وأصيلاً لن يُسهم في إحداث أيّ فرق جوهريّ، ولا شكليّ. ومراعاة الشعور المرهف لسليل «مَرقد العنزة» الذي ما انفكّ يظنّ أنّه «غريبُ الوجهِ واليدِ واللسانِ» في المشرق، والخوف من تذكيره بأنّه ينتمي إلى شعوب هذه المنطقة لن يعودا على أيّ خطاب يساريّ إلّا بالارتداد إلى أقصى اليمين مِن حيث لا يدري. وربما أسوأ ما في اليسار في بلادنا أنّه بقيَ بأكثريّته «لِبْنانِي»، ونسيَ أو تناسى أُمَميّتَه المدّعاة، لا بل باتَ يعيب مثلاً على المقاومة «إسلاميّتها»، ويريدها أن تجترّ خطابه حول «ائتلاف سلطة الطوائف»، فهذا بزعمه أشدّ جذريّة في صراعها مع الصهيونيّة.
هؤلاء لم يفهموا أنّ «تعبئة الجماهير واستنهاض القوى العاملة وهزّ عروش الأوليغارشيّة» لن تكون إلّا عندما تصارح اللبنانيّين بأنّ عليهم أن يعيشوا، مثلاً، كالكوبيّين والكوبيّات لا كالفرنسيّين والفرنسيّات، وأن معترك الحياة الذي يجب أن يخوضوا فيه، إن أرادوا استبدال الحريريّة السياسية، سيكون أقرب إلى الحال في فنزويلا لا في الإمارات، هذا حتّى لا نثقل على بعضهم فنقول دمشق لا هونغ كونغ، وغزّة لا دُبَي، وإيران لا السويد.
ولكنّنا، أنا وأنت، نعرف أنّ هؤلاء لم يمحضوا اليسار محضاً ولا هم ممّن تَعبَأ الإمبريالية (الحقيرة) بِجَمعِهم؛ فإِن لم يكونوا مخانيثَهُ، فما تراهم يكونون؟
* باحث لبناني