ترسّخت، منذ منتصف القرن السادس عشر، سلطنة الإمبراطورية العثمانية، وأثارت معها تحرّكات أوروبية ناشطة للإفادة من ثروات وأسواق بلدان المشرق، المميّزة المواقع والميول، في ظل الإمبراطورية العثمانية. وكانت الإمارة المتنفّذة آنذاك في جبل لبنان المتوسّعة، بقيادة الأمير فخر الدين الأوّل حينذاك، هي الأكثر استعداداً للانفتاح وطلب العون، من الدولة الإيطالية بداية، للتخلّص من الحكم العثماني. وتشكّل هذا الطلب عبر إقرار مجموعة دول أوروبية صاعدة تتطلّع إلى تركيز حضورها السياسي والاقتصادي في المشرق بحجة حماية مسيحييه واللبنانيين، خاصة الذين سبق أن عانوا من تحيّز ممثلي الإمبراطورية ودعمهم للأمراء الدروز والمسلمين في مواجهاتهم مع الأمراء المسيحيين في أرياف جبل لبنان. وقد استمر الحكم العثماني طيلة أربعة قرون دعم خلالها إمارة جبل لبنان وتوسعاتها متوافقة في إدارتها مع مجموعة الدول الأوروبية منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى نشوب الحرب العالمية الأولى التي انتهت بانهزام حلف الدولتين الألمانية والعثمانية وبفرض إرادة إنكلترا وفرنسا وتقاسمهما لمناطق المشرق عام 1918 إلى دول في ظل تحالفهما.
وكان إقرار الانتداب الفرنسي لاستقلال لبنان عام 1948 محبوكاً بفعل تضامن أساسي بين الدولة الفرنسية، ممثّلة بالجنرال غورو على رأس انتدابها على لبنان، وبين البطريركية المارونية، ممثّلة للأغلبية المسيحية مقابل التمثيل الضروري المحدود للمسلمين الذين تزايد حجمهم على امتداد عقدين بالمقارنة مع المسيحيين. وأدى التميّز السياسي والثقافي والاقتصادي للمسيحيين المتنوّرين، بفضل التعليم الكنسي المتعدّد الرهبانيات اللبنانيات وتلك الوافدة إليه من روما، إلى قبول المسلمين لاحقاً بمشاركة المسيحيين، الأقل عددياً، على الصعيد البرلماني والوظائف الأولى في إدارات الدولة، وكان حجمهم قد تراجع بالمقارنة مع نمو حجم المسلمين ليصل إلى ما يقارب الـ 40% من إجمالي حجم السكان.
لقد ساهم في تردّي إدارات الدولة توسّع قدرات مسؤوليها على تحصين نفوذهم في الأطر الأهلية والمحلية


غير أن اعتماد الإقرار القانوني بالتساوي على صعيد تمثيل الطوائف في الحكم، وما يرتبط به رسمياً من تساوٍ على صعيد التمثيل العالي في الإدارات الحكومية، أدّى، على امتداد 30 عاماً منذ الاستقلال وحتى أواسط السبعينيات، إلى تواصل في تدهور كفاءات متوسطي الموظفين من الطائفتين الذين تراجعت غالباً شروط تعيينهم في العائلات، ولا سيما مع توسّع تعهدات زعماء مناطقهم الداعمين لترشيحهم. وتردّت محاسبة كفاءات المسلمين وأقرانهم من متوسطي المسيحيين، مقابل ما يؤدّونه من خدمات لمصالح زعماء انتخاباتهم بعد أن يصبحوا أكثر ارتباطاً بمصالحهم وأقدر على تجاوز ما تنص عليه قوانين العمل الإداري المعيّنين في ظلها وقد سبق لها أن صيغت في ظل الانتداب والاستقلال لاحقاً.
لقد ساهم في تردي إدارات الدولة توسع قدرات مسؤوليها على تحصين نفوذهم في الأطر الأهلية والمحلية، حيث يحرص التشريع الانتخابي على حصر إجراء الانتخابات البرلمانية في حدود الأقضية التي تختلف بينها أحجام الناخبين المُسجلين فيها المراوحين بين بضعة آلاف وبين بضع عشرات من آلاف الناخبين، والذين تُسجل ولاداتهم ويتأمّن نقل المتحزّبين «الأوفياء» منهم لينتخبوا في أريافهم ويعودوا إلى حيث يعملون ويعيشون بعيدين عن مناشئهم، يواصلون علاقاتهم مع الهيئات الإدارية الريفية المحلية رهينة رضى المسؤولين الإداريين في الأقضية التي ينتمون إليها وإلى زعمائها.
تتجدّد المواجهات بين مرشحي الدوائر الصغرى، حيث يشارك في الاقتراع ناخبون يأتون أحياناً من طوائف متعددة. وإذا كانت أكلاف المرشح لأوّل مرة تقوم على موارده الشخصية، فإن تمويل كبار المرشحين من زعماء الطوائف غالباً ما توفر من مصادر غير معلنة تعود عليه ويصعب تحديدها. ومنها ما تعلنه الزعامات اللبنانية كعادتها من تعهّدات حمايتها لحقوق الطائفة في المناسبات الدينية خلال السنة ولا تتوقف عن القيام بمثل هذه الواجبات وهذا الإنفاق حتى لا تخسر مواقعها في منافسة أي مرشح يجرؤ على التعهد بحماية الروابط الدينية الإيمانية.
وتبرز قلة عدد المقترعين في الأقضية اللبنانية عام 2018، كما ورد في نسبة الاقتراع المُعلنة في مجلة «الدولية للمعلومات»، حيث تضم في 14 قضاء ما يقل عن 100 ألف مقترع في القضاء ولا تزيد عن 158 ألف مقترع في 15 قضاء. حيث تُحصر أعداد الناخبين، وخاصة في القرى، دعماً لمرشحهم أو نكاية لتحزب الجماعة المعارضة التي يحرص أفرادها، نساءً ورجالاً، على إعلان تصويتهم قبل يوم الانتخاب، وهذا ما يجعل من سرّية الانتخاب قلّما تكون مرغوبة في حضور الفريق المُكلف بالرقابة، وتغلب حماسة الفتوة لدى أتباع الناخبين فيباركون النصر المرتجى لمن يحملون أعلاماً قلّما تعلن ما تضمر، آملين منذ قرون بصلوات للأنبياء المرسلين أو بلطميات مستحدثة منذ سنوات تذكر بقدرات المهدي المنتظر في أصفهان المخلّص من جور الزمان.

* باحث في العلوم الاجتماعية