ثقافةُ الشَّهادة ميزةٌ طبعتْ جهادَ المقاومة الإسلامية في لبنان، ومن الطبيعي أن تتحمَّل أيّ مقاومة تبعات مواجهة العدو، وتتحمَّل التَّضحيات، لكنْ أنْ تُصبحَ الشهادةُ ثقافةً وإيماناً متجذِّرين، بحيث يُقبِلُ المجاهدون على المقاومة، راغبين بالحصول على الشَّهادة، فهذا نمطٌ استثنائي، أعطى قوَّةً ودفعاً لمسيرة المقاومة، وأبطلَ تخويف العدو لمن يقابله بالقتل والموت، ما أضعفَ قدرة العدو على تحقيق أيّ إنجاز بالتَّهويل والتَّهديد. الشهادةُ سلاحُ الرُّعب للعدو، وقدرةٌ لا يُمكن إبطالُها ولا تعطيلُها، وعندما يكون الوطن بين خيار الحياة مع الاحتلال، وهو موتُ الكرامة والعزَّة والحريَّة... أي موتُ شعور الإنسان بإنسانيته وحياته، وبين خيار الشهادة لطرد الاحتلال، وهي حياةٌ معنويَّة مستمرة كتاريخ مُشرِّف، وحياةٌ للناس في بلدهم ينعمون بالاستقلال والتَّحرير والسِّيادة.
وحدها المقاومة، وثقافة الشهادة، ألزمتا إسرائيل بالانسحاب في المرحلة الأولى عام 1985، وبالتحرير الكامل عام 2000، باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء اللبناني من قرية الغجر، وذلك من خلال عمليات المقاومة والتفاف شعبنا حولها، وصمود جيشنا اللبناني الوطني في المحطات العدوانية المختلفة. لم تهدأ المقاومة وعملياتها النَّوعية والاستشهادية، ومطاردة العدو في كل مكان في جنوب لبنان والبقاع الغربي، فارتقى شهداء أعزَّة أطهار، أناروا طريق النَّصر، فتحقَّق التحرير الاستثنائي بالمقاومة وثقافة الشهادة.
حزب الله مدينٌ لشهدائه الأبرار بتضحياتهم التي عبَّدت الطريق للنصر، مدينٌ للقادة الشهداء، للسيد عباس الموسوي (قده) بجهاده الذي كان مُميَّزاً في حضوره بين المجاهدين وشهادة زوجته أم ياسر وطفلهما حسين معه. والشيخ راغب حرب (قده) الذي رفض مصافحة العدو وتحدَّاه وثبَّت النَّاس في ساحة المواجهة. والحاج عماد مغنية (رض) قائد الانتصارين. والحاج مصطفى بدر الدين (رض) قائد مواجهات التكفيريين. ولكل الشهداء الأبرار في ساحات المقاومة المتعدِّدة. مدينٌ لقائد محور المقاومة الفريق قاسم سليماني (رض) الذي قدَّم الكثير الكثير وكان الحاضر الدائم في الميدان المباشر. مدينٌ للجرحى والأسرى الذين صبروا صبراً عظيماً لتجتاز مسيرة حزب الله كلَّ الصعوبات. مدينٌ للعوائل وخاصة الأمهات والزوجات والأخوات والبنات اللواتي شكّلن دعماً مُميَّزاً وحضناً دافئاً لمقاومةٍ متألِّقة. الجميع في الميدان القادة وعوائلهم وعلى رأسهم الأمين العام السيد حسن نصرالله الذي قدَّم ولده شهيداً، المنتمون إلى الحزب والمؤدلجون مع عوائلهم، البيئة الحاضنة من الشعب وتعبئته رجالاً ونساءً وأطفالاً، وسرايا المقاومة، ما شكَّل قوَّة مرصوصة واجهت التَّحديات، وهي تزداد قوَّة وعدداً وتصميماً وجهاداً، فالمستقبلُ لها.
حزب الله مدينٌ لشعبه اللبناني الذي يمثل أشرف الناس وأشرف المضحِّين في أصعب زمن وفي أصعب تعقيدات. مدينٌ لدعم الجمهورية الإسلامية في إيران وحرس الثورة الإسلامية وفيلق القدس فيها، وقيادة الولي الفقيه الإمام الخامنئي (دام ظله) على نهج الإمام الخميني(قده). مدينٌ لدعم سوريا في أصعب الظروف. حُلفاء الحزب باحترام وثقة وتشاور وثبات.
وضع حزب الله هدفاً مركزيّاً هو عدم الانجرار إلى الفتن الداخلية، أكانت داخل البيئة الواحدة، أو كانت مذهبية، أو طائفية، أو أيّ شكل من أشكال الفتن والتلهي بصراعات داخليَّة عن مواجهة إسرائيل كأولويَّة.
ابتُلي حزب الله بفتنة الاقتتال مع الإخوة في حركة أمل، ولن نُبرِّر الأسباب في هذه المقالة، وعلى الرَّغم من محاولة الهرب منها عندما اندلعت في الجنوب، فلم يقاتل الحزب بل سلَّم سلاحه، ولكن لم يجد مناصاً من القتال في الضاحية الجنوبية دفاعاً وجوديّاً، وهو يسعى جاهداً للحل. وعلى الرَّغم من الشهداء والخسائر عند الطرفين، لكنَّ توفر إرادة وقف الاقتتال ووأد الفتنة عند حزب الله وحركة أمل، وتدخُّل كل من الجمهورية الإسلامية الإيرانية والجمهورية العربية السورية، كلّ ذلك ساعدَ في طيِّ هذه الصفحة الأليمة عام 1990، ومنذ ذلك التاريخ حتى الآن، بنى الحزب والحركة تحالفاً قويّاً ومتيناً حول المقاومة واستقلال لبنان، ووأدا الفتنة بينهما إلى غير رجعة. بل أصبح التحالف الوثيق بين الحزب والحركة محلَّ تندُّر ومحلَّ حسدٍ من بعض الجهات. والنتيجة المضيئة هي أنَّنا لم نغرق في الفتنة، ونجحنا في القضاء عليها، لمصلحة أولويَّة المقاومة.
كما واجه حزب الله كل محاولات الفتنة المذهبية السنيَّة الشيعية، ومن يُشكل على الحزب أحداث السابع من أيار 2008، يحاول إثارة النقاط ضد الحزب فقط. وإلَّا فإنَّ تعطيل القرار الخطير لحكومة السنيورة في 5 أيار 2008، والذي استهدف ضرب شبكة اتصالات حزب الله، والتي تُعتبر من دعائم المقاومة وقوَّتها ضدَّ إسرائيل، وانهاء الاقتتال في يوم واحد في السابع من أيار، والإسراع في دعوة الجيش اللبناني ليتسلّم الأمن في المنطقة الغربية من بيروت، دليلٌ على نجاح حزب الله في وأد الفتنة.
عمل حزب الله على أحسن علاقة وتنسيق مع الجيش اللبناني الذي رفض الانجرار إلى الفتنة الداخلية، فتلاقت أهداف الحزب مع الجيش في منع التقاتل، ومعالجة كل الأمور بالتواصل والحوار والتنسيق. والحمد لله لم تتهيأ ظروف الفتنة الطائفية الإسلامية المسيحيَّة بعد انتهاء الحرب اللبنانية وعقد اتفاق الطائف.
خلال العقد الأول من تأسيس حزب الله 1982 – 1992، كان اهتمامه الأول والأساس هو: المقاومة، فكلُّ شيء في خدمة المقاومة. الثقافة والتعبئة والإمكانات والخطط والنشاط الاجتماعي... وعلى الرغم من إعلان الرسالة المفتوحة عام 1985 والتي تطرح الرؤية السِّياسية لحزب الله، لكن كان اهتمامنا السِّياسي والإعلامي في خدمة المقاومة. ساعَدَ على مركزة عمل حزب الله حول المقاومة الأولويَّة التي رسمها في تحرير الأرض، وإيمانه العقائدي الذي تمركز في إيجاد البيئة المؤمنة وحماية خيارها، وكذلك ظروف البلد السِّياسية حيث كان لبنان منقسماً إلى منطقتين متنازعتين شرقيَّة وغربيَّة، واقتتال يومي بينهما، وفيهما حكومتان، ولا يوجد حراك سياسي بالمعنى الوطني العام، فالبلد في حالة غير مستقرّة. ولكن بعد اتفاق الطائف أصبح الحزب أمام استحقاقات سياسيَّة داهمة.
لبنان يتَّجه إلى الاستقرار السِّياسي، وستجري أول انتخابات نيابيّة فيه في تشرين الأول 1992، بعد عشرين عاماً من آخر انتخابات نيابيَّة عام 1972. هل يُشارك الحزب في الانتخابات النيابيَّة؟ وهل يُشارك في تشكيل الحكومة؟ وهل ستكون له تحالفات سياسية مع أحزاب في الدَّاخل؟ وما هو موقفه من إدارة البلد؟ وغيرها من الأسئلة التي تتمحور حول العمل السياسي على السَّاحة اللبنانيَّة والمشاركة السياسيَّة في النظام اللبناني، وهي أسئلة لم يكن الحزب قد حسم الإجابات عنها سابقاً، ولم تكن من أولوياته.
هي قفزةٌ نوعية، أن ينتقل الحزبُ العقائدي من دائرة التَّبليغ ونشر الإيمان بين النَّاس، إلى المشاركة في العمل السياسي من ضمن تركيبة النظام اللبناني في مرحلته الجديدة بعد اتفاق الطائف. حصلَ نقاشٌ مستفيض حول كيفية عمل الحزب على السَّاحة بعد عقدٍ من إنشائه. هل يستمر الحزب على الوتيرة نفسها، فيعمل ضمن أولويته ولا يهتم بالأمور الأخرى داخل البلد؟ أم يُجري تعديلاً في مساره ليعمل من ضمن تركيبة الدَّولة والنِّظام في لبنان؟
تطلَّبَ قرارُ المشاركة في الانتخابات تعديلات في هيكلية الحزب


لم تكن الإجابة جاهزة، بل كان الانطباع الأوَّلي أنَّ الاستمرارية على ما كان عليه الحزب أبرأ للذِّمة في ميزان الحلال والحرام. لكنَّ مشكلة هذا الاتجاه أنَّه يجعل الحزب منغلقاً على ذاته، ومعزولاً عن السَّاحة السياسية العامة، وليس معلوماً كيف سيستمر ويحمي مسيرته في الجوانب المختلفة، وهل يمكن أن تقوى المقاومة من دون عمل سياسيّ مع قوى سياسية مؤمنة بها، وفي بلدٍ فيه تحديات داخلية كثيرة تتطلب تعاوناً لتشكيل الرصيد الكافي لتتكامل المقاومة مع الواقع الداخلي؟
رجحتْ كفَّةُ العمل السياسي والمشاركة في الدولة في النقاشات، على أن تكون البداية الواضحة هي المشاركة في الانتخابات النيابية إذا كانت حقيقية وحرَّة، وذلك بعد استفتاء الوليّ الفقيه الإمام الخامنئي (دام ظله) الذي أجاز المشاركة، لأن مسألة المشاركة في النظام من عدمها تحتاج إلى إجازة شرعية بحسب إيمان الحزب والتزامه الدِّيني.
تطلَّبَ قرارُ المشاركة في الانتخابات، تعديلات في هيكلية الحزب، فبينما كان الأساس في اختيار مسؤولي القطاعات في كلِّ منطقة من المناطق اللبنانيَّة الخمسة - بحسب تقسيمات الحزب التَّنظيميَّة- واختيار مسؤولي الشُّعب في القرى والأحياء في كلِّ قطاع، أن يكونوا مسؤولين عسكريين يعملون مع الجسم الداخلي للحزب، بالتعبئة العامة للمنتسبين الجُدد، والإدارة الميدانيَّة للمُنظَّمين. أصبح الحزب بحاجة إلى مسؤولين تنظيميين يتعاطون مع البلديات والمخاتير وعموم النَّاس في قضايا ترتبط بحياتهم ومطالبهم اليومية، ويعطون الوقت الكافي لهذه المسائل، وهو ما أنجزه الحزب بنجاح...
مع حسم مبدأ المشاركة في الانتخابات النيابية، حُسمت قاعدة أساسية في العمل السِّياسي، وهي أنَّ العمل السِّياسي في خدمة المقاومة، وليست المقاومة في خدمة العمل السِّياسي. أي أنَّ المقاومة ستبقى أولوية، ولن نُشارك في أي موقف سياسي أو نتخذ أي قرار سياسي يؤدي إلى إضعاف المقاومة، أو استخدامها لتحسين الشروط السياسيَّة، وبالتأكيد لن يكون أي مكسب سياسي مهما بلغ بديلاً عن المقاومة، فالمقاومة والسِّياسة متلازمتان على قاعدة الأولويَّة للمقاومة.
لم يشارك حزب الله في أي حكومة منذ عام 1992 إلى عام 2005، على اعتبار أنَّ الحكومات المتعاقبة غلبت عليها الأمور الإجرائية في البلد، ولم تكن محلَّ صناعة القرار السِّياسي أو إدارة الخطط المستقبلية للبلد، ولمَّا كان الحزب مطمئنّاً إلى حماية الموقف السِّياسي بسبب الحضور السوري وتأثيره في هذا المجال، وهو مع المقاومة بل ويعتبرها جزءاً من أسلحته في مواجهة المشروع الإسرائيلي. لم تكن لمشاركة الحزب في الحكومة فائدة عملية، وهو سيكون مضطراً للعبة المحاصصة والتسويات في الأمور الداخلية التي لها علاقة بالتعيينات والمشاريع، وهذا ما لا يُرضيه في عمله السِّياسي.
لكنْ بعد إصدار قرار مجلس الأمن 1559 في أيلول 2004، والذي يستهدف المقاومة في لبنان بنزع سلاحها، واستشهاد الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، والذي أحدث هزّة كبيرة في الواقع الداخلي اللبناني، وخروج الجيش السوري من لبنان في 30 نيسان 2005، جرت الانتخابات النيابيَّة التي سيجري بعدها تأليف الحكومة اللبنانية التي ستكون ذات صلاحيات واسعة في اتخاذ القرارات السياسية المصيرية وخاصة في ما يتعلق بالمقاومة، وستكون معبراً لأيّ قرار على مستوى دور لبنان وموقعه في الصِّراع مع إسرائيل، وتحالفاته في المنطقة، ونظرته إلى العلاقات الدَّولية والعربية، إضافة إلى دورها الدَّاخلي السِّياسي والاقتصادي والاجتماعي...
رأى حزب الله - ولأول مرَّة - أنَّ مشاركته في الحكومة ضروريَّة وأساسيَّة، ليكون شريكاً في صناعة القرار السياسي للبلد، ومؤثّراً في مسار تحالفاته وعلاقاته الإقليمية والدَّولية. ‏فإذا لم يشارك فيها، فقد يُفاجأ بقرارات تتطلّب تحركاً وجهداً كبيرين واتصالات وعلاقات... من أجل إبطالها أو تعديلها، فالأوفر جهداً والأقل كلفة والأكثر طمأنينة أن يكون داخل الحكومة، يساهم في صنع القرار من مقدّماته، مع القوى الأخرى في داخل الحكومة، ويطمئن لسياسات وقرارات لا تطعن المقاومة في ظهرها. إضافة إلى ذلك فإنَّ الحكومة ستكون معبراً للسياسات الاقتصادية والاجتماعية والخطط التنموية وهي حاجاتٌ يطلبها الناس، والحزب معنيٌّ بأن يُدافع عن مطالبهم، ويخدم المناطق التي يمثلها من ضمن العمل العام لخدمة الوطن.
بعدها أصبح مطلب حزب الله الدائم عند تشكيل الحكومات، أن يكون جزءاً منها، وأن تكون الحكومة حكومة وحدة وطنية، بصرف النظر عن موقع الأكثرية النيابية أكانت مع حزب الله وحلفائه، أم كانت مع الطرف الآخر. أمَّا وجود حزب الله في الحكومة فقد بيَّناه أعلاه، وأمَّا الحرص على حكومة الوحدة الوطنية، فلأنَّ بلدنا طائفي، ونظامه طائفي، ولا تصلُح فيه الأكثريَّة والأقليَّة، إذ سرعان ما تتحول الأقليَّات إلى طوائف مقهورة من الطوائف الأخرى، وتتحول الأكثرية إلى طوائف تتفرَّد بالبلد ومقدراته ومصيره. أما عندما يكون جميع أو أغلب الأطراف مُمَثلين، عندها تتوزع المسؤولية في إدارة البلد، وحتى ولو كانت الخلافات داخل مجلس الوزراء أكثر، فإنَّها تجد حلولاً بطيئة أو توافقية أو وسطية، ولكن إذا كان عددٌ وازن من القوى خارج الحكومة، فإنَّ المعارضة ستتحول إلى تعطيل من خلال القوانين والمواقف وإثارة النعرات، وسيصبحُ المشاركون في الحكومة تحت وطأة ضغوطات الآخرين، فضلاً عن التباينات بينهم داخل الحكومة.
ليست حكومة الوحدة الوطنية حلاً نموذجيّاً، لكنَّها أفضلُ الحلول المتاحة، وأما الهروب من المسؤولية، وادِّعاء المعارضة، بسبب ضعف التمثيل النيابي لبعض القوى، فقد أثبتت التجربة أنَّ حراكهم – على الأغلب – شعبوي إعلامي مُعيق، ولا يُساهم في تصويب عمل الحكومة.

* نائب الأمين العام لحزب الله