اللغة قناة الاتصال والتأثير في الآخرين أفراداً أو مجتمعات أو دولاً، ويمكن أن تكون كلمة أو صورة أو مشهداً متحرّكاً موثقاً أو مصطنعاً، فقد أصبحت للغة مستويات وأشكال عدة من العمليات الاتصالية، تأثراً بالفن والتكنولوجيا، وقديماً كان هذا، غير أن التحوّل التقني الهائل فرض نفسه الآن. لكن تبقى الحروف والكلمات هي الأساس، هي الأصل الذي تبنى عليه الأشكال الأخرى، وإن كان التخييل أحياناً يعبّر عن الحروف ليصل إلى الفن مباشرةً، إلا أن الفهم في النهاية يمكن وضعه في سياق اللغة، فالعقل يستوعب الخارج من خلال الحروف.تستطيع وسائل الإعلام وأجهزة الحرب النفسية، إذاً، أن تغيّر استيعابنا للوقائع من خلال اللغة، وأن تصنع صورة هادفة ومتأنقة ومهندسة بما يلائم السياسات الحاكمة على تلك الأجهزة، وكلما امتلكت الجهة السياسية التمويل والفن والثقافة والخبرات والكوادر الكافية لهذا المشروع، كلما استطاعت حماية نقاط ضعفها والتعمية عليها، وبناء قوة الجدوة أو ثبات المشروعية والحفاظ عليها لسنوات أو حتى عقود، من دون وجود الأسس الواقعية الكافية لذلك النجاح، وإنما اعتماداً على جدار حديدي من اللغة، يمنع العقول من إدراك نقاط الخلل، فتجلس عاجزة وتتكيّف مع الواقع اللغوي المصطنع.
القوة التحررية في المنطقة العربية/ الإسلامية، وخصوصاً في منطقة النضج، في غرب آسيا، أنتجت مجموعة واسعة من المصطلحات والشعارات والمفاهيم، تماشياً مع زخم اندفاعتها أو لحظات الإنجاز والتحول التاريخي التي حققتها، واستناداً إلى خلفية دينية أو أيديولوجية أو إنسانية عامة، مختلطة ومتداخلة أحياناً. لكنها بالمقارنة مع قوى الهيمنة والدول الجائرة تبقى سلة المصطلحات المتوافرة لصالح فكرة التحرر محدودة، ذلك أن البنى التحتية المعرفية والثقافية والإعلامية العالمية خضعت لوقت طويل للهيمنة الغربية، واستطاعت مع الوقت أن تنضج عدداً لا يستهان به من المفاهيم والشعارات، التي جرى إلزام شعوب وحضارات العالم باستخدامها، باعتبارها أداة الاتصال العالمي شبه الوحيدة، خصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وترسانة المفاهيم الماركسية معه.
بادر مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير أخيراً إلى تقديم مجموعة من المفاهيم المقترحة لوسائل الإعلام ضمن الحالة التحرّرية، ضمن برنامج عمل مستمر، بوتيرة مصطلح شهري، ويقدّم كل مصطلح ضمن ملف خاص به، يشرح خلفيته اللغوية والسياسية وآثار استخدامه بالمقارنة مع المصطلحات السائدة، ويتم نشر هذه المقترحات في البيئة الإعلامية المؤسساتية بشكل أساسي.

«الدول الجائرة»
تم إنجاز أربعة مصطلحات حتى الآن، وهناك برنامج لسنة كاملة يتم العمل عليه والتحضير له بشكل منتظم، ينتهي بإنجاز 12 شعاراً جديداً. كان المصطلح الأول هو «الدول الجائرة»، وذلك مقابل استخدام قوى الهيمنة لشعار «الدول المارقة» الذي يكرس مشروعية وقانونية الهيمنة ويعتبر الدول المستقلة عن نظام السيطرة مارقة ومخالفة ومرتكبة، وكذلك بديلاً عن مصطلحات متداولة في الساحات المختلفة، المؤيدة والمخالفة للهيمنة، ومنها «الدول الكبرى»، «القوى العظمى»، «المجتمع الدولي»، وهي مصطلحات تخدم استمرارية الهيمنة، ويستخدمها الخاضعون للهيمنة والرافضون لها على حد سواء، ما يمثل انتكاسة معنوية وفكرية حقيقية لحالة التحرر، ويعرقل ويعقد مسار التحرر، رغم ضخامة التضحيات والجهود المبذولة.
تستطيع وسائل الإعلام وأجهزة الحرب النفسية أن تغيّر استيعابنا للوقائع من خلال اللغة


«الكيان المؤقت»
المصطلح الثاني، وهو الذي شهد رواجاً واسعاً، نتيجة تبنيه من قيادة المقاومة، وهو «الكيان المؤقت»، الذي أطلق ليكون بديلاً عن مجموعة مفردات يمثّل استخدامها اعترافاً بالكيان الغاصب، ويتم استخدامها من المطبعين أو الرافضين لوجود الكيان على السواء، وإن بدرجات متفاوتة، من قبيل مفردات: «إسرائيل»، «الجانب الإسرائيلي»، «الكيان الإسرائيلي»، «الدولة الإسرائيلية». وكذلك كبديل مكمل عن مفردات تعبر عن الموقف المقاوم والرافض، لكنها لا تعبر عن الأمل بزوال الكيان، من قبيل مفردات «الكيان الصهيوني»، «كيان الاحتلال»، «الكيان المصطنع»، «الكيان الغاصب»، والكثير من المفردات التي تراكمت منذ 1948 وحتى الآن، والتي لم يحمل واحد منها معنى الزوال والأفق المستقبلي المنتظر من الشعب الفلسطيني.

«الأسود المنفردة»
المصطلح الثالث، هو «الأسود المنفردة»، كبديل من المفردة المستخدمة لتوصيف العمليات التي يقوم بها المقاوم الفلسطيني بشكل فردي داخل الأراضي المحتلة، والتي أعطيت في الإعلام المعادي تسمية عمليات «الذئاب المنفردة»، وهي تسمية تعود إلى القاموس الجنائي الإجرامي، وتتعلق بتوصيف أعمال القاتل المتسلسل.

«الإجراءات الاقتصادية العدوانية»
المصطلح الرابع، وهو يعود للمجال الاقتصادي، ويهدف لاستبدال مفردة «العقوبات» التي تستخدمها الولايات المتحدة، وهي مفردة تشرّع كل أعمال التخريب الممنهج للدول التحررية، أو تلك التي ترغب بدور مستقل وهامش تحرك خاص بها ضمن النظام الدولي، ويستخدمها المتعرضون لتلك الإجراءات المدمرة بشكل طوعي، بحيث يعطون للولايات المتحدة المقبولية ويتحركون نحو التكيف مع التحدي الاقتصادي الماثل، من دون الالتفات إلى أن تلك المفردة تقدّمهم كمذنبين ضمن نظام دولي، وتقدّمهم كقوى تعترف بحق الولايات المتحدة والغرب عموماً بالهيمنة والتسلط. البديل الواقعي الذي يصف ما يجري هو «الإجراءات الاقتصادية العدوانية»، وهو الذي يشكل مقدمة للشعوب والدول والقوى التي تتعرض للعدوان الاقتصادي، لكي تتهيأ للمواجهة والرفض والتحرك في كل اتجاه محق للرد على تلك الإجراءات ومكافحتها بالطرق المناسبة.
تبقى هذه المصطلحات مقترحات نظرية، ويبقى على عاتق المؤسسات الإعلامية مسؤولية الاستفادة منها، وتحويلها إلى أدوات فعالة في المعركة التي تخوضها في ساحة الوعي، على أن قضية المصطلحات الإعلامية، تستحق جهداً أكبر، وزخماً كمياً أكبر، إلا أنها تحتاج للتبني ولجهد كبير في الترويج، ولذلك تحتاج هذه النقلة المنشودة إلى الوقت الكافي لتكريس أهمية اللغة أوّلاً، وثانياً لتكريس المصطلحات المقترحة وإعطائها الدور المناسب في تشكيل الوعي والموقف والرأي العام، وبناء قوة واقعية من الأفكار والمفاهيم.
* مدير مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير