منذ أن بدأت الحرب الروسية الأوكرانية، في الـ 24 من شباط الفائت، ودول العالم، ولا سيّما الولايات المتحدة، تضعُ الصين تحت مجهر المراقبة لرصد وتتبع أي موقف قد تتخذه تجاه غزو روسيا لأوكرانيا. غير أن الصين، لغاية تاريخه، اتخذت موقفاً حياديّاً، إن لم نقل وسطيّاً، يمكن مقاربته انطلاقاً من مجموعة مِن المعايير الجيوسياسية؛ قضية تايوان ومعايير أخرى تتمثّل في العلاقات الاقتصادية مع روسيا.
العامل الجيوسياسي

شكّل التقارب الجغرافي بين الصين وروسيا نقطة ارتكاز في تحديد طبيعة العلاقات ونمطها بينهما، فالحدود الدولية بين البلدين تُعدّ سادس أطول حدود دولية في العالم، بما يعادل 4209 كيلومترات، تنقسم إلى قسمين غير متجانسين وغير متقاربين؛ القسم الشرقي، وهو الأطول، يمتد بين منغوليا وكوريا الشمالية، فيما يمتد القسم الغربي بين كازاخستان ومنغوليا.
أدّى الموقع الجغرافي دوراً بارزاً في تعزيز التعاون الاستراتيجي بين الصين وروسيا في مواجهة الهيمنة الأحادية القطب للولايات المتحدة على العالم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، والسعي الدؤوب إلى تشكيل قطب معارض أو نظام عالمي متعدد الأقطاب، كما شكل الركيزة الأساسية في كبح أي تمدّد غربي باتجاه الشرق أي الحدود الصينية والروسية.
واتساقاً مع هذه المبادئ، دعا كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الصيني شي جينبينغ، خلال لقائهما في بكين، شباط الماضي، إلى حقبة جديدة من العلاقات الدولية، ووضع حد للهيمنة الأميركية معلنين «شراكة بلا حدود». كما استنكر البلدان، اللذان تشهد علاقتهما توتراً متصاعداً مع واشنطن، دور التحالفين العسكريين الغربيين، أي حلف شمال الأطلسي وحلف «أوكوس» الذي أُنشئ بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأوستراليا عام 2021 في تقويض الاستقرار والسلام العادل في العالم.

قضية تايوان

إن دعم الصين لروسيا يتعارض مع مبدئها الأساسي الذي اعتمدته منذ عقود، وهو «ضرورة احترام سيادة ووحدة الدول»، كما من شأنه أن يُشكّل ذريعة للولايات المتحدة لدعم الانفصاليين في تايوان تمهيداً للاعتراف باستقلالها، الأمر الذي يُتيح تدخّلها عسكرياً وإرسال الجيوش لمساندتها كدولة مستقلة، وهو ما أقرّه الكونغرس في بيان حول العلاقة مع تايوان في عام 1979، وهو ما يُفسر أيضاً حياديّة الصين من غزو روسيا لجورجيا في عام 2008 ومن ضم جزيرة القرم في عام 2014.
الحرب على أوكرانيا أعادت قضية تايوان إلى بؤرة الاهتمام. فالخلاف بين الصين والولايات المتحدة قائم منذ أكثر من سبعين عاماً نظراً إلى ما تُمثّله تايوان من أهميّة لكلتا الدولتين. بالنسبة إلى الصين، المسألة مسألة سيادة وطنيّة؛ تايوان ليست دولة مستقلّة، بل إقليم منشق عنها يدعمه الغرب، وعلى تايوان أن تعود إلى الصين سواء بشكل طوعي أو بالقوة العسكرية.
إن القناعة الثابتة لدى الاستراتيجيين والعسكريين الصينيين نابعة من أنه لا يمكن الدفاع عن الصين إلا إذا استعادت الأخيرة تايوان والوقائع التاريخية تؤكّد ذلك، فعلى سبيل المثال عندما أرادت اليابان مهاجمة الصين خلال الحرب العالمية الثانية هاجمتها من تايوان، كما أن القوميين الذين انهزموا نتيجة الصراع الذي نشب خلال الحرب الأهلية التي استمرت منذ عام 1946 لغاية 1949، فرّوا إلى تايوان وقاموا بمحاربة الصين عسكرياً واقتصادياً ودبلوماسياً.
وفي السياق نفسه، تبرز الأهمية الاستراتيجيّة لتايوان في كونها تقع على المحيط الهادئ حيث تربط بحر الصين الجنوبي ببحر الصين الشرقي، ما يجعلها تتحكّم بمضيق تايوان الذي يؤدي دوراً حيوياً في مجال التبادلات التجارية ونقل شحنات الطاقة من اليابان وكوريا الجنوبية حليفتَي الغرب إلى العالم.
وغني عن القول إنه إذا استطاعت الصين السيطرة على تايوان فسوف تسيطر أيضاً على المضيق محققةً في ذلك أهدافها الأساسيّة المتمثّلة في الضغط على الولايات المتحدة في تخفيض وجودها العسكري في كل من اليابان وكوريا الجنوبية وإخراجها من دول بحر الصين والمحيط الهادئ وستصبح الصين القوة الأهم في آسيا والعالم.
اقتصادياً، على الرغم من صغر مساحة تايوان البالغة 36 ألف كلم فقط، وعدد سكانها الذي لا يتجاوز 24 مليون نسمة، إلّا أن حجم اقتصادها يعدّ ضخماً، حيث يبلغ حوالي 670 مليار دولار وذلك مردّه إلى أن تايوان هي أهم بلد منتج للتكنولوجيا في العالم وتنفرد بصناعة السلع التكنولوجيّة semi conductor التي تُعدّ الأساس في الصناعات العسكريّة والمدنيّة.
إن ما تقدّم يُشكّل حافزاً قوياً للصين في اتخاذ موقف وسطيّ، إذا صح التعبير، حيال الأزمة الأوكرانية، حيث إن أي دعم تقدّمه لروسيا سيدفع الولايات المتحدة إلى التدخّل في تايوان وهو ما لن تقبل به الصين.

العلاقات الاقتصادية مع روسيا

أبرز ما يجعل الصين تقف موقف المترقّب من مجريات الحرب الروسية الأوكرانية هو العلاقات الاقتصاديّة التي تربطها مع روسيا، من جهة، والدول الأوروبيّة والولايات المتحدة، من جهة أخرى، فالمصالح الاقتصاديّة المشتركة مع الغرب وروسيا، على حد سواء، تدفع الصين إلى التريّث في اتخاذ أي موقف من شأنه أن يهدّد مصالحها هذه. في ما يختص بالعلاقة مع روسيا، فالصين دولة ملتهمة للمواد الأوليّة بحكم اقتصادها الإنتاجي المتنامي ومشروعاتها الاستثمارية الضخمة في القطاعات الاقتصادية كافة، ما يجعلها بحاجة دائمة إلى مصادر لتلبية حاجتها هذه، وبطبيعة الحال تأتي روسيا على قائمة الدول المؤهّلة لهذه المهمة. تُشير المعطيات إلى أن حجم التبادل التجاري بين البلدين بلغ 146 مليار دولار في عام 2021، مسجلاً قفزة نوعية عن عام 2020 حيث بلغ 9405 مليارات دولار وبمعدل زيادة 36%.
وفي تفصيل طبيعة التبادل التجاري ونوعية السلع، نجد أن قطاع الطاقة والنفط يستحوذ على 71%، لتشكّل روسيا بذلك مورد النفط الرئيسي للصين، بعد المملكة العربية السعودية. وعلى الرغم من انخفاض إمدادات النفط الروسيّة إلى الجانب الصيني عام 2021 بنحو 6% من الناحية المادية، إلا أن صادرات الوقود زادت بنسبة 41% من حيث القيمة، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2020.
وفي إطار توثيق التعاون الاقتصاديّ، وقّع البلدان أخيراً عقوداً لتوريد 10 مليارات متر مكعب من الغاز الروسي، إضافة إلى توريد 100 مليون طن من النفط إلى الصين على مدى 10 سنوات. أمّا الفحم الحجري، فقد جرى إبرام عقود بين الصين وروسيا لشراء ما قيمته 20 مليار دولار، فالصين تعدّ أكبر مستهلك للفحم الحجري في العالم وأكبر مستورد للفحم الروسي تحديداً. تكنولوجياً، ووفقاً لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي، فإن روسيا تشتري ما يعادل 70% من حاجاتها إلى أشباه الموصلات من الصين وتستورد أيضاً مكونات السيارات وأجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكيّة. فعلى سبيل المثال، تستحوذ شركات الهواتف العملاقة الصينيّة، مثل «هواوي» و«أوبو» و«شاومي» على حوالي 60% من سوق الهواتف الذكيّة الروسي.
كل ما تقدّم كان قبل أزمة أوكرانيا وفرض العقوبات على روسيا التي تخشى الصين أن تتأثّر هي بها أيضاً. منذ بداية الأزمة الأوكرانية، والولايات المتحدة تُمعن في مراقبة أي موقف قد تتخذه الصين حيالها، وأُجريت محادثات مكثّفة بين الجانبين الصيني والأميركي في 14 آذار في العاصمة الإيطالية حيث أعربت واشنطن عن قلقها البالغ من اصطفاف الصين إلى جانب روسيا، مؤكدةً على أنّ ثمةَ عواقب وخيمة تترتّب على الصين في حال مساعدتها روسيا ودعمها. بدوره، أعرب وزير الخارجية الصيني وانغ بي عن استنكار حكومته من أن تتأثّر هي بدورها جراء العقوبات الغربية المفروضة على روسيا.
تساؤلات عديدة تُطرح حول موقف الصين من العقوبات المفروضة على روسيا والخيارات المتاحة أمامها لمساعدتها. أبرز العقوبات تمثّلت في إخراج سبعة مصارف روسية من نظام المدفوعات حول الحدود (سويفت)، وهو ما أثار مجموعة من الافتراضات حول إمكانية مساعدة الصين لروسيا من خلال استخدام نظام «السيبس» كبديل من «السويفت».
إن أوجه المقارنة بين النظامين تُظهر أن استخدام «السيبس» في التعاملات الماليّة لا يمكنه أن يحل محل السويفت انطلاقاً من اعتبارات عديدة؛ منها أن عدد البنوك المتعاملة مع «سيبس» ضئيل جداً، 75 بنكاً فقط معظمها في الصين مقارنة بـ 11 ألف مؤسسة مالية في «سويفت» يوجد منها 300 مؤسسة في روسيا مقابل 20 مؤسسة فقط تعتمد نظام «سيبس»، الأمر الذي ينعكس على حجم المعاملات والرسائل في كلا النظامين. فعلى سبيل المثال، بلغ حجم المراسلات، وفقاً لـ«سويفت»، في يوم واحد في شهر كانون الثاني، 40 مليون رسالة في مقابل 11513 رسالة، وهو ما يؤشر إلى أن خيار مساعدة الصين لروسيا من خلال استخدام «السيبس» صعب وغير مجدي.
وما فاقم الأمر سوءاً هو خروج مجموعة من البنوك الصينية العملاقة من السوق المالي الروسي تجنباً للمخاطر التي قد تواجهها نتيجة العقوبات المفروضة على روسيا، وهو أمر لا تستطيع الحكومة الصينية منعه من خلال الاشتراط على هذه المصارف الاستمرار في القيام بأعمالها في روسيا.
إن ما أوردناه من مؤشرات اقتصادية رقميّة يطرح تساؤلاً محورياً، هو: كيف ستوازن الصين مصالحها الاقتصادية بين الغرب وروسيا؟ إذا كان حجم التبادل التجاري بين الصين وروسيا قد بلغ 146 مليار دولار في عام 2021، فإن حجم التجارة بين الصين وأميركا سجل 585 مليار دولار، ووصل إلى 532 مليار يورو بينها وبين دول الاتحاد الأوروبي.
بناءً عليه، يُصبح تبنّي المقاربة الاقتصادية من قبل القيادة الصينية أمراً مرجحاً في مقابل المقاربة السياسية، وهو ما يُترجم بالموقف الحيادي الذي اتخذته الصين منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية.
فهل ستحافظ الصين على حياديّتها، أم ستتّخذ موقفاً واضحاً؟ إنّ الوقت، كما مجريات الحرب وتداعياتها، كفيل بالإجابة.

* باحثة لبنانية