في تاريخ الحركة الماركسية، لم يكن لينين مسبوقاً بتلك الأفكار. بالتأكيد ساعدت روسيّتُه في ذلك، حيث إن روسيا آسيوية «بشكل ما»، كما يؤكد لينين، وهي أيضاً وسيط جغرافيّ بين أوروبا وآسيا، وهي كذلك في تركيبها الجغرافي ــــ الديموغرافي مزيج منهما ولهما. وقد كان هو أيضاً، وكذلك ثورة أوكتوبر 1917، ممرّين عبرت الماركسية منهما إلى آسيا، وبالذات الصين التي تأسّس فيها الحزب الشيوعي في عام 1921.
مع ذلك، فإن البلاشفة بعد ثورة أوكتوبر ظلّوا يرون أن السند الذي سيكمل ثورتهم في الغرب، ولم يقتنعوا بما قاله الشيوعي التتري سلطان علييف، في تشرين الأول من عام 1919، عن «الانتظار الباطل لنجدة تأتينا من الغرب»، حتى بعد فشل الثورتين الألمانية والمجرية في ذلك العام. ولكن عندما أتى هوشي منه إلى موسكو في حزيران 1924 لحضور مؤتمر الأممية الشيوعية ــــ الكومنترن الخامس وقال «إن أوروبا لم تعد مركز الثورة» كان لكلامه رنين خاص عند ستالين، خليفة لينين الذي كان قد توفي قبل خمسة أشهر. ستالين، الذي أدرك أن الاتحاد السوفياتي أصبح «قلعة محاصرة»، لذلك اصطدم مع صاحب نظرية «الثورة الدائمة» ليون تروتسكي وطرح ضده نظرية «الاشتراكية في بلد واحد»، وذلك في إدراك منه لما قاله سلطان علييف قبل خمس سنوات وفي مجلة قوميسارية القوميات التي كان ستالين قوميسارها: مجلة «حياة القوميات»، وفي وعي بأن الحصار الغربي للقلعة السوفياتية يجب البحث عن منفذ منه في جهة غير الغرب الأوروبي.
هنا، لم يجد ستالين غير الصين، لذلك ضغط على الشيوعيين الصينيين من أجل، ليس فقط التعاون مع الحزب القومي الصيني ــــ «الكيومنتانغ»، بل للدخول فيه بشكل فردي من دون حل التنظيم الشيوعي، في أمل منه لإنشاء جبهة سوفياتية ــــ صينية مع حزب زعيم ثورة 1911، أي صن يات سين، ثم خليفته شيانغ كاي شيك بعد وفاته في عام 1925. من أجل ذلك، طرح ستالين نظريته الصينية عن «تعاون كتلة الطبقات الأربع: البروليتاريا، الفلاحين، البورجوازية الصغيرة المدينية والبورجوازية الوطنية)، وهو ما مشى الشيوعيون الصينيون على وقعها حتى كانت مذبحة شيانغ كاي شيك للشيوعيين في شنغهاي في نيسان 1927. كان قائد الحزب الشيوعي الصيني منذ تأسيسه، أي تشن دوسيو، مقتنعاً برأي ستالين، ولكن كان هناك شخص من الصف الثاني في القيادة الشيوعية، اسمه ماو تسي تونغ، قد بدأ بتكوين قناعات مغايرة منذ مقالته: «تحليل لطبقات المجتمع الصيني» في آذار 1926، حيث أكد على نظرية ضمنية مضادة لنظرية ستالين الصينية من خلال تأكيده على «تذبذب البورجوازية الوطنية وإمكانية انحراف جناح منها نحو اليمين». إن ماو تسي تونغ، الذي تولّى قيادة الحزب في عام 1935 بعدما أكدت عملية تصادم «الكيومنتانغ» مع الشيوعيين وجهات نظره ضد ستالين وضد قيادة الحزب الشيوعي الصيني التاريخية، خطّ طريقاً خاصاً سمّاه ليوشاو شي في المؤتمر السابع للحزب الشيوعي الصيني (أيار 1945) أنه «الشيوعية الصينية... الماركسية المصيّنة»، التي تؤكد على قيادة الحزب الشيوعي لثورة جسمها فلاحي من أجل التحرر القومي من الأجنبي الإمبريالي ومن أجل التوحيد القومي ومن أجل التنمية والتحديث. وكان رأي ماو، منذ 1926، أن خليفة صن يات سين يمكن أن يتعاون مع الأجنبي ويفرّط بالصين. هو لم يكن يفكر مثل ستالين بتحالف سوفياتي ــــ صيني لتقوية أو حماية الاتحاد السوفياتي أمام الغرب، بل كان يفكر كشيوعي وطني يريد إنقاذ بلده من إمبريالية الأجنبي وبتحريرها منه وفي أن يخطّ طريقاً لها نحو التقدم.
ولكن ماو، الذي لم يكن موافقاً على سياسة التعاون مع حزب «الكيومنتانغ» في فترة 1926-1927 التي ضغط من أجلها ستالين ومن ثم انتهج في فترة 1927-1937 سياسة الدفع بالشيوعيين نحو حرب العصابات والسيطرة على الريف ضد شيانغ كاي شيك، قام باستدارة كبرى بعد الغزو الياباني للصين في تموز 1937، حيث نجده في محاضرته بالشهر التالي المعنونة: «في التناقض»، يقول: «عندما تشن الإمبريالية حرباً عدوانية على بلد... فإن الطبقات المختلفة، باستثناء حفنة من الخونة، يمكن أن تتحد مؤقتاً كي تخوض غمار حرب وطنية ضد الإمبريالية. وحينئذ يصبح التناقض بين الإمبريالية وذلك البلد التناقض الرئيسي، بينما تصبح التناقضات بين مختلف الطبقات... في مركز ثانوي وتابع». هذا أرضى ستالين، الذي كان يحس بالخطر الياباني على الاتحاد السوفياتي وخاصة بعد تقارب اليابانيين مع ألمانيا النازية. وكان القائد السوفياتي يفكر بأن سيطرة اليابانيين على الصين ستكون خطوتها التالية هي سيبيريا، لذلك شجع التعاون بين ماو تسي تونغ وشيانغ كاي شيك الذي تحوّل لثماني سنوات إلى إشغال عسكري كثيف للمحتل الياباني منع طوكيو من التفكير بالامتداد لوسط آسيا في الوقت الذي احتلت فيه جنوبها الشرقي حتى بورما وماليزيا وسنغافورة. بعد هزيمة اليابانيين عام 1945، عاد ماو للتفارق مع ستالين الذي أراد بقاء الوفاق الشيوعي مع حزب «الكيومنتانغ»، وهو الذي كان يراقب نذر متجمعة لنشوب الحرب الباردة مع واشنطن، وكان يريد أن يضمن في وجه ذلك تحالفاً صينياً ــــ سوفياتياً أو عدم انزلاق الكيومنتانغيين مع الأميركان ضد موسكو. ولكن ماو لم يلتفت لرأي ستالين ومضى نحو السيطرة الشيوعية على الصين وطرد شيانغ كاي شيغ وأتباعه نحو جزيرة فورموزا ــــ تايوان في 1949.
عندما التقيا في موسكو في الشهر الأخير من عام 1949، كان وراءهما خلافان كبيران واتفاق واحد. وقد لمّح ستالين في اللقاء إلى خشيته من أن يكون الصينيون مثل تيتو في يوغسلافيا لهم أولوية الوطنية على الشيوعية أو أنهم ينظرون إلى الثانية بنظارة الأولى. وهو ما دفع ستالين إلى حملة مضادة لتلك النزعة في الأحزاب الشيوعية بأوروبا الشرقية إثر الخلاف مع تيتو منذ صيف 1948. لم يكن ماو غير ذلك، لكنه كان أكبر من أن يستطيع ستالين السيطرة عليه. وعلى الأرجح أن نشوب الحرب الكورية، بعد أشهر من لقاء موسكو، جعل ستالين يدرك الحاجة الملحّة للشيوعيين الصينيين الذين قاموا بمجهود عسكري كبير ضد الأميركان في تلك الحرب، إلى إدراك أهمية تحالف موسكو ــــ بكين ضد واشنطن، وهو ما دفعه إلى إغداق مساعدات اقتصادية وتقنية كبيرة كانت الصين في حاجة ملحّة إليها. ربما، وهذا هو المرجح، أن هذا الفصل الودي الجديد بين ستالين وماو هو الذي دفع الصينيين إلى الدفاع عن ستالين بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي عام 1956 الذي انتقد فيه خروتشوف عبادة الفرد عند ستالين، ولم يكن ماو مستعداً لأن يشتغل على جراح الخلافات مع ستالين بفترتي 1926-1927 و1945-1949 ولا على الطريقة غير الودية التي سادت أجواء لقاء موسكو بينهما. بل فكر في أن التجربة الشيوعية العالمية تتطلب تعاملاً آخر مع القادة، وبهذا الصدد فقد كان دينغ سياو بنغ هو رئيس وفد الحزب الشيوعي الصيني للمؤتمر العشرين، وهو الذي اضطهد من قبل ماو وتم إبعاده والتشهير به في فترة الثورة الثقافية 1966-1969، وعندما عاد وتسلّم الزعامة في عام 1978 لم يفكر في أن يتصرف تجاه ماو كما تصرف خروتشوف تجاه ستالين. كانت «مسألة ستالين» هي البذرة مع قضايا أخرى للخلاف الصيني ــــ السوفياتي الذي انفجر في عام 1960، وهو ما كان مؤشراً على انتهاء 43 عاماً من المد اليساري العالمي وأيضاً شكّل منعطفاً جديداً في العلاقات الدولية أتاح لواشنطن بعد التقارب الصيني ــــ الأميركي منذ صيف 1971 تعديلاً تدريجياً لميزان القوى الدولي في الحرب الباردة لمصلحة البيت الأبيض ضد الكرملين، وهو ما ساهم في انتهاء تلك الحرب لمصلحة الأميركان في خريف 1989 وفي تفكك الاتحاد السوفياتي بنهاية 1991.
على الأرجح أن التقارب الروسي ــــ الصيني، الذي تحوّل إلى سياسة منهجية منذ عام 2001 مع تشكيل «منظمة شنغهاي للتعاون»، هو مبنيّ على رؤية دراسة لتجربة العلاقات الثنائية في منعطفات 1925-1927 و1937-1945 و1945-1949 و1950-1960 ثم على مراجعة استفادات واشنطن من الخلاف الصيني ــــ السوفياتي. تقارب عام 2001 مبنيّ على نقطة واحدة هي من أجل إطاحة القطب الواحد الأميركي للعالم القائم منذ خريف 1989. تقاربت موسكو وبكين أكثر بعد أزمة القرم عام 2014 وقد ازداد تقاربهما قبيل اندلاع الأزمة الأوكرانية الأخيرة. لا يمكن حتى الآن الحديث عن تحالف بالمعنى الفعلي للكلمة بين الصين وروسيا، لكن تصرفات واشنطن في أثناء الحرب الروسية ــــ الأوكرانية الراهنة توحي بأن أكثر ما يخشاه الأميركان هو عودة العلاقات بين موسكو وبكين إلى ما كانت عليه بفترة 1950-1960 أو إلى ما يقرب منها.
* كاتب سوري