هذا عرض «التمهيد» لكتاب علي القادري «تفكيك الاشتراكية العربية» الذي تستهلّ بدايته القول: يمكن تصوّر ثقل البنية التاريخية القائمة من زاوية فلّاح معدم في بيت طيني تكلفته لا تتجاوز حفنة من الدولارات، تسقط عليه من السماء قنبلة ذكية أميركية تكلّف الملايين. وبالرغم من عدم عقلانية الحالة لأوّل وهلة، فإن التاريخ له عقل وعقلاني.كلّما ضعفت الناحية الاستعمالية أمام الناحية التبادلية ضعفت قوّة العمل أمام صاحب العمل فيتقمّص التاريخ دور السلعة المستلبة، وللسلع التي تساوت بالتاريخ عقل كامن في قانون تطوّرها ألا وهو التوسّع بأيّ ثمن.
السلعة ــــ التاريخ ليس لها أخلاق ولا جماليات لأنها نفي للإنسان كما الصهيونية التي لا يمكن أن تؤنسن. يقف العالم اليوم، في غياب إيديولوجيا بديلة اشتراكية، كأنه عبد للسلعة. فبيئياً يتطلّب إنتاج السلع استهلاك الطبيعة بأبخس الأثمان، واجتماعياً يتطلّب إنتاج السلع إعادة إنتاج الإنسان بأبخس الأجور. في عملية الإنتاج الرأسمالية، نجد أنفسنا أمام عملية إنتاج تستهلك الإنسان وبيئته على حدّ سواء في دورة انحدارية من دون قرار. ولأوّل مرة في التاريخ، يكون الإنسان مسلوخاً عن تقرير مصيره. والبنية الإيديولوجية التي تزن أطناناً على أكتاف البشر كُيّفت لتسويغ تطوّر السلعة.
هذا الإرث الفكري المتحوّل لتسويغ تطوّر السلعة ذاتياً يتخذ أشكالاً مختلفة، فهو يستقي من التراث والدين تارة، ومن العلوم تارة أخرى، في عملية شاملة لتسليع البشر والإنتاج المعرفي. كان لا بد لعملية إنتاج السلعة أن تنتج الإنسان المسطح الذي يستهلك نفسه بالاستهلاك. هذه الحركة الهدرية الانحدارية مع استثناءات، إن بالحروب أو التقشّف أو الجوع، تزيد أضعافاً على نسبة الثراء المنتج منذ خمسة قرون في ظل حكم العلاقة الرأسمالية. وكلّما سلبت القيمة وتحوّلت إلى نقد، تكونن العالم وتجانس وزادت بذلك عملية الإفراط والتفريط، وهذا الإفراط بالتحديد هو السمة الرئيسية للتاريخ الرأسمالي.

وبما أن النوع الاجتماعي الحاكم هو رأس المال المالي، تصبح دورة القيمة هذه دورة هدرية بأولوية تاريخية. إن هذا بالذات الفارق بين ماركسية غربية (اشتراكية ماركسية) واشتراكية البلدان المتخلّفة أو الاشتراكية العربية العقائدية التي ترفع الشعار الاشتراكي وهي تعبد المال وتعبد العلاقة الرأسمالية، في حين يقول لسان الاشتراكية الماركسية: لم تكن ولا يمكن أن تكون الرأسمالية كحقبة تاريخية تقدّمية، ليس فقط بسبب مجازر الإبادة منذ القرن السادس عشر، إنما بسبب ما بعد الحدث، ألا وهو الأزمة الوجودية التي نعيشها اليوم.
وقد علّق ماركس على قصر فترة الثورات البورجوازية بالقول: «إن الثورة البورجوازية، كتلك التي حدثت في القرن الثامن عشر، تندفع كالعاصفة من نجاح إلى نجاح، وآثارها الدرامية تفوق بعضها بعضاً، ويبدو فيها الأشخاص والأشياء في إطار باهر وهّاج، ويكون كل يوم مشبعاً بالحماسة والنشوة. بيد أن عمر هذه الثورات قصير، فسرعان ما تدرك هذه الثورات نقطة الأوج وتخيم على المجتمع وخمة السكر الطويلة الممضّة، قبل أن يستطيع أن يهضم بتعقل واتزان نتائج فترة الضغط والاندفاع العاصف تلك» (الثامن عشر من برومير). لم تعطِ البورجوازية ثورات 1848 في البر الأوروبي، وخاصة فرنسا، سمتها الديموقراطية، بمقدار ما اكتسبت هذه الثورات سمتها هذه بفعل النضالات السياسية للبروليتاريا الوليدة التي عبّرت عن نفسها سياسياً عبر هذه الثورات؛ أي دشّنت هذه الثورات التحرّكات الديموقراطية للبروليتاريا في البر الأوربي لأوّل مرة.
بما أننا أنتجنا هدراً بيئياً وإنسانياً وسُمّاً سمّم بيئة الإنسان، فإننا أعدنا إنتاج الإنسان بالهدر. وهذا قبيح وغير أخلاقي ومميت. ففي حالة التسليع القصوى، يصبح الهدر مرادفاً للقيمة لأنه يستجيب لفرط الاستهلاك. نحن لا ننتج قيماً لرفاه البشر. نحن نهدر حياتهم ونفسد بيئتهم الطبيعية والاجتماعية بحجة ذلك. هكذا تغدو الطبقة الرأسمالية الحاكمة مُهْدرة وتغدو الطبقة العاملة مهدورة.
أشد أبعاد التراكم بالهدر وأصفاها هو التراكم بالعسكرة، الحالة التراكمية التي تجسّد بالحرب، والحرب منتوجها القتل على نطاق صناعي، وهي الهدر الصافي. يكتب ج. م. البرتيني في كتابه «لفهم الاقتصاد العالمي»: «إن أهمّية النفقات العسكرية قد أثّرت في جميع البلاد الرأسمالية الصناعية، عدا اليابان، لكن اليابان استفادت في ما بعد كثيراً جداً من حروب كوريا وفييتنام. وغدت النفقات العسكرية حافزاً هائلاً للنمو الصناعي. فمن عام 1954-1969، أي من نهاية حرب كوريا إلى حرب الهند الصينية الثانية، أنفقت الولايات المتحدة 450 مليار دولار لغايات حربية، ثم عرفت الولايات المتحدة اقتصاد حرب حقيقياً. إنّ حمولة القنابل التي ألقيت على فييتنام معادلة لزنة القنابل التي ألقيت على الألمان بين 1939-1945. وكان أكثر من 10 في المئة من العمّال يعملون بلا انقطاع، مباشرة أو بصورة غير مباشرة، من أجل الدفاع الوطني. واشترت الدولة الأميركية 93 في المئة من إنتاج الطائرات والصواريخ التي تنتجها الشركات الأميركية و60 في المئة من إنتاج السفن الحربية و38 في المئة من إنتاج الراديو والإذاعة و21 في المئة من الإنتاج الكهربائي».
أمّا بوخارين، فيقول في كتابه المهم «الإمبريالية والاقتصاد العالمي»، الذي كتبه قبيل الحرب العالمية الأولى وقبيل اندلاع الثورة الروسية 1917: «ففي عصرنا الراهن ومع بلوغ الصراعات الاقتصادية درجة غير اعتيادية من التوتر، فإننا نشهد عربدة تسلح مجنون لم يسبق لها مثيل... وهكذا يتضمّن قانون رأس المال المالي كلاً من الإمبريالية والعسكرة، وبهذا المعنى فإن العسكرة لا تقل عن رأس المال المالي في كونها ظاهرة نموذجية تاريخية».
شريحة «الكوكا كولا» وشريحة الحرب كلتاهما تهدّد وتنتج سُمّاً، لكن في التراتب ضمن الكلّية الرأسمالية تبقى الأولوية لشريحة الحرب والعسكرة


يقول القادري: لا قيمة استعمالية للموت إلا إذا كانت هناك شريحة اجتماعية تستهلك الموت! شريحة «الكوكا كولا» وشريحة الحرب كلتاهما تهدّد وتنتج سُمّاً، لكن في التراتب ضمن الكلّية الرأسمالية تبقى الأولوية لشريحة الحرب والعسكرة. الهدر والعسكرة مرتبطان بالدائرة الأولى والأخيرة من دوائر إعادة الإنتاج الاجتماعي الرأسمالي. هناك دائرة إنتاج وسائل الإنتاج والماكينات ودائرة إنتاج السلع الاستهلاكية، لكنهما مرتبطتان بالدائرة الرئيسية ما قبل الأولى وما بعد الثانية، وهما إنتاج الإنسان المنسلخ عن مصيره المستهلك لذاته. وبما أن الاستهلاك بالهدر يمثّل تحقّق جوهر القيمة، فالعسكرة كالهدر الصافي تمثّل الممارسة المفضّلة لقانون القيمة الرأسمالي. فعندما تتحوّل القوى المنتجة إلى سلع ويجري تسليع الناس يعلو معدّل الربح بأكبر قدر من جراء استهلاك الناس الأحياء كقوة عمل في معامل السلاح، حيث الحرب بمكننتها العالية باستغلالها الإنسان الحي لكي تميت يكون الإنسان فيها مدخلاً ومخرجاً ويموت إمّا من هدر طاقته وقوته في ورشات تصنيع السلاح أو يموت في أرض المعركة بقصف أميركي. هكذا يتماثل العمل الحي والميت بأنهما كلاهما هدر للإنسان وطاقاته. الشعوب العربية مطلوبة كمدخل ومخرج بحيواتها في عملية تراكم هدرية، وهي باستهلاك حيواتها تدعم مستوى الأرباح الدولي والريع الإمبريالي.
الشعوب العربية بكل بساطة مدخلة بحيواتها في عملية الإنتاج الكوني المترابطة عضوياً. وكلّما ابتعدت الشعوب عن خيار حرب الشعب، الخيار الوحيد للبقاء، هلكت في هذه الدورة الهدرية التي تهلك البنية المادية والمباني والمعامل والبشر بما في ذلك إرثهم الحضاري، وحتى طبقاتهم الكومبرادورية التي سهّلت أصلاً عملية التبديد. بتعبير مجازي، الإمبريالية تحفّز ربحيّتها باستهلاك الحجر والبشر. العنف عملية إنتاج ملاصقة للإمبريالية في زمن الاحتكار ورأس المال المالي. من دون إعادة صياغة البنية المادية المنتجة والاجتماعية، بما في ذلك المرونة على التكيّف في وجه الهجمة، لن يكون للأمّة العربية وجود. والمعادلة الأساسية هنا هي الإيديولوجيا التي تتحكّم بأنماط التفكير، فالاشتراكيات القومية العقائدية العربية استبطنت الفكر الإمبريالي الرأسمالي قبل أن تتفكّك.
إن جبروت رأس المال مبني على انقسامات الشعوب. الرد يكون بإعلاء الاصطفاف الطبقي الذي يولّد العنف الثوري. لكن ليس كل عنف اجتماعي ثورياً، فأسباب الثورات كثيرة وتسم كل البنى الاجتماعية المفقرة منها والثريّة. معظم الثورات مرتبطة أوّلياً بأزمة الطبقة الحاكمة أكثر من استعدادات الطبقة المحكومة. الثورة الاجتماعية تغيير في موازين الصراع الطبقي يعكس اتجاه البنية ويعيد توجيه التنظيم الاقتصادي للمجتمع. هذه الحركة يتوجّب أن تقودها الإيديولوجيا البديلة التي كما هو شائع تترنّح في أزمة لم تعرفها الإنسانية منذ القرن التاسع عشر. لا تنجح الثورات الاجتماعية في غياب الإيديولوجيا البديلة، إذا ما أخذنا في الحسبان قدرة الإيديولوجيا السائدة المستبطنة لرأس المال على تحريك فئات من الشعب من أجل إنقاذ سلطة رأس المال بثورات ملونة، أو قدرة رأس المال على تحريك الشارع بشكل مضاد لمصالح الشعب، كما حدث في الانقلاب على مصدق في إيران منتصف الخمسينيات من القرن الماضي.
إنّ بإمكاننا أن نضع الأمور في «الربيع العربي» ضمن سياقها التاريخي، أي الحركات المستبطنة لسلطة رأس المال ومقياس هذا الانتكاس هو التهلهل البنيوي الناتج من فقدان الطبقة العاملة حقها في الناتج الاجتماعي وفقدان أمنها وفقدان قدراتها في حرب الشعب والسيادة التي تتلخّص في عملية استبعاد جماعي للشعوب من خلال سلب إرادتها وتدمير دولها. وبما أن الحرب والهدر عملية مترابطة في ذاتها مع عملية الاستبعاد الجماعي، تصبح حركة التاريخ ذات معدّل عنف عال، مع أزمة وجودية انتحارية.
يقول القادري عن كتابه: هذا الكتاب يتعلّق بعلم الاقتصاد السياسي المتّبع للمنهج البنيوي. عندما أذكر حقبة ذلك الرئيس العربي أو ذاك، نحن نتكلم عن حقبة لا عن شخص، الشخص ممكن أن يكون جيّداً ويريد الخير لشعبه، لكن دراسة الشخص تخصّ علم النفس، نحن نريد أن نقيّم البنى المؤسسية والإيديولوجية التي رسّخت أو لم ترسّخ قدرات حرب الشعب.
الإمبريالية لا تخلد إلى الثبات في الوقت الذي يتطوّر فيه العالم المتخلِّف.
ونقول: لو كان غلغامش حيّاً لقال يا ليتنا بقينا على قبض ريح، فالإمبريالية الرأسمالية لوّثت حتى الريح.
* كاتب سوري