مرّت علاقة المثقّفين العرب بمراحل عدة. الذي نشأ في مرحلة الستينيّات والسبعينيّات يستغرب مواقف المثقّفين العرب نحو الأنظمة الخليجيّة. التصنيف الذي أدخله عبد الناصر بين أنظمة تقدميّة وأنظمة رجعيّة كان السائد آنذاك، وكان المثقّفون منضوين في أكثرهم في المشروع القومي العربي- بأنساقه المختلفة (البعثيّة والناصريّة). هذه المرحلة التي نعيشها اليوم تختلف عن سابقاتها كليّاً لأن هناك إجماعاً بين المثقّفين العرب في تأييد واعتناق سياسات أنظمة الخليج، وفي تخوين كل من يعاديها وطرده من العروبة (أصبحت العروبة اسماً حركيّاً لسياسات الخليج التطبيعيّة، والمعارض لها يصبح إيرانيّاً فارسيّاً). يكفي أن تقرأ عميد الليبراليّة العربيّة في جريدة «الشرق الأوسط»، حازم صاغيّة (الذي اختاره مشروع جورج سوروس مبكّراً كنموذج مُحتذى لنشر الليبراليّة في العالم العربي) وهو يقول إن «المصلحة القوميّة العليا» (في لبنان أو في أي بلد عربي) تعلو على حريّة التعبير (لكنه كان واضحاً في أن تحديد المصلحة القومية العليا في لبنان لا تعود لممثّليه المُنتخبين بل للحكم السعودي الذي يحدّد المصلحة القوميّة العليا» لكل بلد عربي). الذين سخروا من جمال عبد الناصر على مدى عقود- وفي صحافة أعدائه في الخليج- بسبب رفع شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» في زمن الصراع مع إسرائيل، وجدوا أن لا صوتَ يعلو على مصلحة النظام السعودي.
شروق أمين (الكويت)

غالط حازم صاغيّة وصحبه عبد الناصر في جعله المعركة ضد إسرائيل أولويّة الأولويّات، فيما وجدوا أن مصلحة محمد بن سلمان هي المصلحة القومية العليا للبنان ولكل بلد عربي. كيف تحوّلت مواقف المثقّفين العرب في عقود معدودة من نقيض إلى نقيض؟ لو تعود إلى جريدة «السفير» في اليوم الذي زار فيه أنور السادات فلسطين المحتلّة في عام 1977، لوجدتَ أسماء كتّاب حاليّين في صحف الخليج وهم يكيلون الشتائم المقذعة ضد السادات، فيما دعا صاغيّة إلى قتله. هل إن التحوّل هو عمليّة أيديولوجيّة محض، يمرّ بها المرء؟ ولماذا تكون التحوّلات دائماً في اتجاه واحد: من معاداة أنظمة الخليج ودعم المقاومة إلى محاباة أنظمة الخليج ومعاداة المقاومة؟ أذكر حديثي مع صحافيّة كانت معروفة بمواقفها الشديدة الحدّة في دعم النظام السوري وحزب الله، وكانت تُصاب بضيق شديد عندما كنتُ انتقد (على فايسبوك قبل أن اُطردُ منه شرّ طردة) الحزبَ أو النظام السوري. ثم انتقلت بخفّة نحو المقلب الآخر وأصبحت من المشاركات في السخرية من النظام السوري ومن الحزب. فسالتُها مستفسراً: أتذكرين عندما كنتِ تعاتبيني على نقدي للطرفيْن؟ فقالت: أتذكّر، لكن التحوّل سمة عادية من النضوج الفكري والسياسي. لكن لماذا لا يحدث النضوج إلا باتجاه واحد، ولماذا دائماً في الاتجاه الأكثر نفعيّة وربحاً في مجالات العمل؟ معقول أن يكون ذلك صدفة من الصدف؟ معقول أنها صدفة أن أحداً لا ينتقل من إعلام دبيّ إلى إعلام مستقل أو حتى إلى إعلام المحور المناهض لآل سعود؟ أم أن عقيدة آل سعود وآل زايد وآل ثاني جاذبة إلى درجة أنه لا يمكن لأي عاقل أن يختار ما يُعارضها؟
تكرّس في الخمسينيّات والستينيّات نمط الكتاب والمثقّفين والفنانين العرب الموالين للمشروع القومي العربي. وكانوا مثل السياسيّين يسيرون في هذا الخط لأن القارئ العربي كان شديد التعصّب للمشروع القومي العربي. سليم اللوزي (يرتبط اسمه اليوم بالولاء لأنظمة الخليج و ب….الصحافة والقلم الحرّ) كان حتى وفاة عبد الناصر من أشدّ المروّجين للنظام الناصري وإن كان يُمرّر خدمات صحافيّة لغيره من الأنظمة. وبلغت حدّة مناصرة اللوزي لعبد الناصر أنه دعا من صفحة مجلّته إلى قتل المحامي محسن سليم لأنه رافع في قضيّة اغتيال كامل مروّة أمام المجلس العدلي. حتى صائب سلام الذي كان- كما كان الحاج حسين العويني- ممثّل النظام السعودي في لبنان كان يحرص قبل كل انتخابات نيابيّة على السفر إلى القاهرة لالتقاط صورة له وهو يصافح جمال عبد الناصر (وكانت الصورة تنتشر على جدران بيروت). المشروع الرجعي العربي لم يكن يجذب الكتّاب والمثقّفين بالرغم من المردود المادي الأكبر له. كان الزمن زمن مبادئ وعقائد والاختيار الحرّ. كانت الصحف والمجلاّت تبيع وتكسب من ريع المبيع: تصوّر أن مجلّتي «الشبكة» و»الحوادث» كانتا تبيعان أكثر من مئة ألف نسخة أحياناً، وكان عدد السكّان أقل بكثير من اليوم (لا تبيع الصحيفة في لبنان اليوم أكثر من عشرة آلاف نسخة). وكان هناك تنوّع في تشكيلة الأنظمة العربيّة وكان بعضها سخيّاً في الإنفاق الإعلامي. وكانت أجنحة النظام الواحد تتنافس في تمويل المجلات والصحف (كانت أجنحة متنوّعة في النظام العراقي تموّل مجلاّت لبنانيّة مثل «الوطن العربي» لوليد أبو ظهر و»الدستور» لعلي بلّوط فيما انفردت المخابرات العراقيّة بتمويل «التضامن» لفؤاد مطر، الذي انتقل من سخاء النظام العراقي إلى سخاء النظام السعودي بعد 1991).
من سخروا من عبد الناصر بسبب رفع شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» وجدوا أن لا صوتَ يعلو على مصلحة النظام السعودي


وعندما كانت الصحافة تعتمد على المبيعات كانت أكثر تعبيراً عن الرأي العام العربي لأن تأييد الصحف كان عملاً ديموقراطيّاً مثل الاقتراع. لم تكن هناك هويّة خاصّة بجريدة «الأنوار» إلا أنها نافست جريدة «المحرّر» في تأييد جمال عبد الناصر. وجريدة «الشعب» لمحمد أمين دوغان اشتهرت بأنها بزّت الجميع في العناوين المثيرة المؤيّدة لعبد الناصر. الصحف كانت تعبّر عن الرأي العام العربي ولهذا كانت حكومات الغرب، خصوصاً بريطانيا وأميركا، تعوّمُ عدداً هائلاً من الصحف والمجلاّت في بيروت فقط لمنافسة المد الناصري واليساري. لو أذكر اليوم بعض أسماء صحف ومجلاّت من تلك الفترة لما تبيّنها أحد من القراء. السخاء الغربي والخليجي في البروباغندا لم يكن يقابله سخاء سوفياتي. قلّة من المفكرين والمثقّفين التحقوا بصحف الخليج. قدري قلعجي (شيوعي سابق) كان من تلك القلّة ولهذا كانت خدماته موزّعة على عدد من صحف الخليج، وهناك من موّلَ له دار نشر رجعي خاص به لذمّ اليسار والشيوعيّة (يروي إبراهيم سلامة في مذكراته، «غداً سندخل المدينة»، عن دور قلعجي في حمل حقيبة مال للتجوال على الصحف للتأثير في موقفها من النزاع العراقي- الكويتي في أوائل الستينيّات). من الذي جال على المحطات اللبنانيّة الثلاث هذه السنة؟ من الذي حوَّل محطة «الجديد» من بوق مبتذل للمقاومة إلى بوق مبتذل لأميركا والإمارات؟
والمثقّفون العرب كانوا منخرطين في المشروع القومي يساهمون فيه من دون مقابل، وعن حماسة شديدة. هذا زمن هجر فيه «أبو عمر» (حنا ميخائيل) منصباً أكاديميّاً مضموناً في أميركا كي ينخرط في صفوف الثورة الفلسطينيّة (عن «أبو عمر»، راجع كتاب «غُيِّبَ فازداد حضوراً: حنا إبراهيم ميخائيل (أبو عمر)» من إعداد جهان حلو). الأكاديمي اللبناني جورج حجّار لم يهجر الجامعات الأميركيّة: طُرد من جامعات أميركا وكندا. لم يتسع فضاء الحريّات المحدودة له، والجامعات العربيّة لم تنسجم مع ثوريّته- لا في الجزائر ولا في العراق- عندما كان النظام يزعم أنه كان ثوريّاً. (أذكر الطلاب الفلسطينيّين الجامعيّين في الكويت كيف كانوا يأتون في فصل الصيف للتدرّب على السلاح في مخيمات التدريب في لبنان). إدوار سعيد وهشام شرابي وإبراهيم أبو لغد كلّهم فكّروا جديّاً قبل الحرب الأهليّة في هجرة جامعات أميركا للالتحاق بصفوف مراكز البحث الفلسطيني في بيروت بعد أن استوطنت المنظمّة هناك إثر «أيلول الأسود». المثقّفون العرب كانوا متطوّعين في حركات مقاومة وأحزاب يساريّة وقوميّة عربيّة. لم يكن هناك من مراكز أبحاث تؤوي مثقّفين غير «مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة» و»مركز الأبحاث الفلسطيني». خيرة المثقّفين العرب أرادوا العمل في «مركز الأبحاث» وإدوار سعيد عتبَ زمناً على وليد الخالدي لأنه لم يضمّه إلى مجلس أمناء «مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة». الخليج لم يكن وارداً كمشروع جذب للمثقفين العرب.
كانت أنظمة الخليج في زمن عبد الناصر في موقع الدفاع لأن نقد عبد الناصر لهم كان موجعاً، وكان يبرع في السخرية منهم. قارن وقارني بين وصف جورج قرداحي للحرب السعوديّة-الإماراتيّة على اليمن بـ»العبثيّة» وبين وصف عبد الناصر للملك السعودي بـ»ملك الجواري والحريم» (من خطاب له في 23 ديسمبر 1962، بحسب ما يعلمني كمال خلف الله الطويل). الذي يستمع لتفاعل الجمهور العربي مع خطب عبد الناصر يفهم، قليلاً، لماذا عمَّر الحقد الخليجي ضد عبد الناصر كل هذه العقود. كان هناك بعض الأساتذة العرب يعملون في الخليج، خصوصاً في الكويت، لكن كان نشاطهم في خدمة القضيّة الفلسطينيّة أكثر مما كان في خدمة الأنظمة كما هي الحال اليوم. كان الأكاديمي اللبناني، هاني فارس، وزملاؤه في جامعة الكويت يضخّون مفاهيم الثورة والتحرّر في المنهاج المقرّر في الجامعة. لم يكن يمكن للمثقّف العربي أن يحظى باحترام لو أنه التحق بالمحور الخليجي. صحيح أن شارل مالك في الجامعة الأميركيّة في بيروت رعى تشكيل خندق يميني رجعي وكانت جريدة «النهار» رائدة في نشر نتاج هؤلاء وفي الترويج لهم. كانت جريدة «النهار» تروّج لكمال صليبي عندما كان رجعياً انعزالياً، ثم تخلّت عنه بعد أن حاد عن الخط وأيّد المقاومة الفلسطينيّة بعد نشوب الحرب الأهليّة (أو قلْ، هو نبذ اليمين الانعزالي، وبتأثير من صديقه الفلسطيني، أسامة الخالدي).
موت عبد الناصر لم يحوِّل كل المثقفين العرب فجأة نحو أنظمة الخليج، ولا هذا حوَّل الصحافيّين نحوهم. سليم اللوزي كان الأسرع بينهم في الالتحاق بالركب الخليجي وأصبحت المجلّة ناطقة باسم مشروع خبيث تمثّل فيه بيار إدة كما تمثّل فيه مستشارو حكّام الخليج الذين رابطوا في مكتب اللوزي (لكن ولاءه الأوّل كان للأمير فهد). لكن السبعينيّات شهدت بداية تمويل سخي من ليبيا والعراق للمجلاّت والصحف، ليبيا أنشأت في بيروت أوّل مركز أبحاث عربي من نوعه، «معهد الإنماء العربي»، الذي جذب مثقّفين عرباً جمعهم المشروع القومي (وزيادة على رواتب الجامعة اللبنانيّة والجامعة العربيّة). وكان إنتاج المركز غنيّاً وملتزماً بالمشروع القومي العربي. لكن النظام الليبي يئسَ من المشروع القومي العربي عندما أعلن القذافي زعامته على القارة الأفريقية برمّتها. كما أن رحيل منظمة التحرير عن بيروت حرم لبنان، لا بل العالم العربي، من مركز ثقل ثقافي وإعلامي كان يفرض أولويّات في الاهتمام العربي. هناك عدد هائل من الكتاب والرسامين والمثقّفين الذين حاموا حول مشروع منظمة التحرير في لبنان. وكان وجود المنظمة بقوّتها العسكريّة (القليلة الفعالية إزاء إسرائيل) رادعاً للأنظمة الخليجيّة ومؤثّراً في تصنّع الالتزام بالقضايا العربيّة من قبل تلك الأنظمة (أذكر جريدة «الشرق الأوسط» عندما عنونت عن زيارة استجمام للأمير سلمان إلى إسبانيا وقالت إنه يزور البلد لبحث القضيّة الفلسطينيّة). رحيل منظمة التحرير عن بيروت أزال رادعاً قويّاً أمام مضي أنظمة الخليج في سياسات المهادنة ثم التحالف (السري قبل العلني) مع إسرائيل. لكن الرادع الأخير سقط بهزيمة نظام صدّام حسين في عام 1991. النظام العراقي كان يخيف أنظمة الخليج، مع أن صدّام اتبع في أواخر الثمانينيات سياسات جد مهادنة نحو إسرائيل، وقاد مبعوثه، نزار حمدون، حملة محاباة الصهيونيّة في قلب واشنطن.

تموضع المثقّفين والكتاب العرب بات محصوراً بين قطر من ناحية وبين النظاميْن السعودي والإماراتي من ناحية أخرى


كانت بداية «الشرق الأوسط» أنها الجريدة العربيّة الوحيدة المجانيّة والمطبوعة حول العالم. تجدها في كل المكتبات الأميركيّة مثلاً. وكانت هي و»الحياة» بعد ابتياعها من قبل خالد بن سلطان أولى المنابر العربيّة في الترويج للصهيونيّة. وكان الإعلام الصدّامي وإعلام منظمة التحرير وإعلام القذّافي تشكّل رادعاً ضد الاتجاه نحو السلام مع العدوّ تحديداً. لكن الإجماع الثقافي العربي حول أنظمة الخليج بدأ بالتشكّل بعد غزو الكويت من قبل صدّام. لم تعد هناك محاور عربيّة بين الأنظمة ولا محاور إعلاميّة. عندها تشكّل إجماع الثقافة والفن في العالم العربي. في العهد الناصري، كان هناك شبه إجماع لكنه كان حرّاً من دون مقابل. كما أن شعبيّة عبد الناصر، كما تظهر صور ملايين الجماهير في جنازته، غير مدفوعة بعكس شعبيّة صدّام وشعبيّة أمراء وشيوخ النفط والغاز. أصبح الكاتب والمثقّف والفنان العربي يجدون أن الطريقة الوحيدة لنيل دخل إضافي يكون في الانصياع لهذه الأنظمة. وعندما كانت مصلحة أنظمة الخليج تقتضي تصنّع التعاطف مع شعب فلسطين، رضخ كل هؤلاء المثقّفين وطلعت «روتانا» السعوديّة بمغناة «الحلم العربي» (وهي أقرب إلى النواح الجنائزي منها إلى المغناة، وهي تنسجم مع رؤية حمد بن جاسم الذي اقترح ديبلوماسية «التوسّل» طريقاً وحيداً لحلّ القضيّة الفلسطينيّة). الإجماع في الثقافة العربيّة تراه في كل مكان. هناك إجماع بين مثقّفي لبنان ضد مقاومة إسرائيل، وإجماع ضد حريّة التعبير (كتب إلياس خوري في «القدس العربي»، جريدة للنظام القطري، قبل أيّام أن أزمة قرداحي لا تمتّ بصلة لحريّة التعبير، فيما الأزمة ليست إلا غضبة سعودية وخليجيّة ضد حق أي لبناني في انتقاد الحرب الوحشيّة في اليمن أو في معارضة آل سعود). وهناك إجماع في لبنان على أن دول الغرب وحدها تشكّل «المجتمع الدولي» وأن الاشتراكيّة مستحيلة (نالت مقالة عن استحالة الاشتراكيّة في «الشرق الأوسط» شرف الترشح في جوائز دبي للصحافة قبل أيام).
هناك أفراد، كتّاباً ومثقّفين، معادون للسياسة الرجعيّة التي يمثّلها النظامان السعودي والإماراتي وحتى القطري. لكن هؤلاء المؤيّدين للمقاومة قليلو التأثير، خصوصاً أنهم محرومون من المنابر الإعلاميّة التي تصل إلى أكبر عدد من الناس. ينحصر وجود هؤلاء بوسائل إعلام غير خاضعة للتأثير الخليجي وهي تشكّل نحو 5 في المئة من وسائل الإعلام العربية. وهؤلاء، خصوصاً الإسلاميّين منهم- سنةَ وشيعة- متعوّدون أو متدرّبون على مخاطبة الذات وليس مخاطبة الآخر مما يقلّل من حجم التأثير، تضخّ وسائل الإعلام الخليجيّة عدداً هائلاً من الكتاب والمثقّفين (البعض من خلفيات يسارية والبعض من خلفيات إسلامية والبعض من خلفيات وحاضر رجعي محض) وهؤلاء يخاطبون الجميع ولديهم القدرة. كان المثقفون يتوزّعون بين وسائل إعلام متصارعة لكن الأنظمة لم تعد متصارعة بعد رضوخ كل الأنظمة العربيّة- بما فيها الجزائر التي تبدو متمرّدة، وعن حق، إزاء فرنسا- للمشيئة السعوديّة. حالة الإجماع بين المثقّفين هي التي تقيّد مساحة التعبير في العالم العربي، وبأمر من حاشية الأمير والشيخ. والإجماع يطال النخب الثقافيّة والفنيّة مما يجعل المعترض أو المُعارض أو المُختلف في موقع الأقليّة. وحملة الشهادات الجامعيّة الغربيّة هم دوماً في الطليعة، ودوماً في طليعة الدعوة الرجعيّة العربيّة. وهؤلاء يؤثّرون في الجيل الجديد أكثر من تأثير المُخالفين.
لبنان بلد متنوّع طائفيّاً وسياسيّاً لكن الطبقة الأكاديمية والإعلاميّة والثقافية والفنيّة متراصّة في اتفاقها وتوافقها حول مشروع رفيق الحريري وحول معاداة حركات مقاومة إسرائيل. طبعاً، هؤلاء لا يمثّلون أنفسهم وإنما يمثّلون مصالح أنظمة الخليج المرتبطين بها. تلك الأنظمة توفّر لهم رواتب إضافيّة (خياليّة في حالات استثنائيّة- أخبرني في حينه كاتب في جريدة «الحياة» في لندن كيف أن أروقة التحرير كانت دائماً تعود إلى قصّة منح خالد بن سلطان منزلاً في «نايتزبريدج» في لندن لجهاد الخازن. أي أن للطاعة والامتثال ثمارهما عند آل سعود). كيف نفسّر إجماع النخبة الثقافيّة في لبنان- بلد كان يعبّر في كتّابه عن آراء متنوّعة في العالم العربي؟ كان هناك عند كتّاب لبنان تمثيل لكل العقائد والأيديولوجيّات. انتهى عهد التنوّع وساد عهد الإجماع الحديدي.

منح الخلاف القطري- السعودي مساحة للاختلاف لكن في نطاق ضيّق جداً. النظامان في عزّ اختلافهما الأخير لم يختلفا حول إيران (كثيراً) أو حول لبنان أو حول سوريا أو حول اليمن أو حول الاقتصاد والثروة النفطية أو معاداة الديموقراطية أو الثورة. الخلاف تمحور حول دور قطر وإعلامها وحول التدخّل في مصر وليبيا، لكن النظاميْن تنافسا- ولا يزالان يتنافسان- على التقرّب من الحكومة الأميركية والحصول على شرف استضافة قوّات أميركيّة. لكن تموضع المثقّفين والكتاب العرب بات محصوراً في المسافة بين قطر من ناحية وبين النظاميْن السعودي والإماراتي من ناحية أخرى. ليس من مظلّة أخرى. ليس من نظام عربي في وارد المنافسة. على العكس، هناك ظاهرة تفريخ مواقع «إعلام جديد» عربيّة تحظى بتمويل حكومي أوروبي وأميركي، وهي تنقل نفس الخط العام الذي يمثّله الإعلام الخليجي. يجهل إلا من يتابع الإعلام الغربي مدى تطابق تغطيته لمنطقتنا مع توجّهات الإعلام الخليجي. والمراسلون الغربيّون في بلادنا نراهم على تويتر ينقلون ما يكتبه إعلاميّو وإعلاميات الخليج. والتوافق في السياسة الخارجيّة بين مواقع التمويل الغربي والإعلام الخليجي يخلق مساحة ضيّقة ينضوي فيها معظم الكتاب والمثقّفين العرب.
هذه أزمة لأن لا فكاك منها قبل حصول انشقاق في النظام العربي الرسمي أو بروز محور مضاد للنظامين السعودي والإماراتي. ليس من بوادر لذلك والأنظمة العربيّة لا تقوى أو لا تريد إغضاب الحاكم السعودي النزق. تجربة لبنان مع جورج قرداحي بليغة في دلالاتها. هي درس للكتاب والإعلاميّين والمثقّفين العرب: من يجرؤ من الإعلاميّين أو الفنانين أو المثقّفين العرب على معارضة آل سعود في سياساتهم في المنطقة؟ الامتثال والإذعان سيسودان أكثر فأكثر. والثقافة الإسلاميّة المتزمّتة لا تجذب إليها إلا المؤمنين بعقيدة الحزب والإعلام الموالي له، مما يخلق مساحة لا مجال فيها للكاتب أو المثقّف المستقل، إلا لوحده. الحيّز الثقافي العربي بات موحشاً جداً لغير المنتمي. وهو موحش أكثر للذي يرفض الانضواء في مظلّات خليجيّة. نحن نجد صعوبة في التنفّس ولسنا نغرق تحت الماء، مثل عبد الحليم حافظ.
* كاتب عربي ــ حسابه على تويتر
asadabukhalil@