يأخذ مصطلح البيئة في القاموس العربي معاني كثيرة يحدّدها السياق كما يبدو مصطلح علم البيئة (Environmentalism) بكونه محافظة على الثروات الطبيعية وحماية الحياة البرية والكفاح ضد التّحلّل والتجزئة غريباً بعض الشيء عن مجتمعاتنا لكونه مستورداً، وإن راج أنّ الحضارات لم تسئ إلى بيئتها الطبيعية إلاّ عند ظهور المدن في المجتمعات الغربية، مثالاً على ذلك مدينة باريس الّتي كانت تنبعث فيها روائح كريهة بسبب مياه الصرف الغير مهيّئة وسراديب الموتى، فكانوا يزرعون الورد للحد من تلك الرّوائح إلاّ أنّ الاهتمام بحماية البيئة يعود إلى سنة 256 قبل الميلاد بإقرار الإمبراطور أشوكا في الهند لمراسيم حماية الحيوان، تلتها بعد قرون ظهور أوّل محمية طبيعيّة برّية في سيريلانكا حتّى صدور أولى قوانين حماية الطيور في جزيرة فارنا سنة 676 م.
غريغ سيغل (الولايات المتحدة، من مشروع «7 أيام في الزبالة» - 2014)

لقد مثّلت تحركات مئات القرويّين ضدّ جنود مهراجا جودبور لمنع إزالة الغابات سنة 1720 في الهند أولى الاحتجاجات في سبيل الطبيعة ويعتبر هنري دافيد ثورو (1817-1862) أوّل عالم للبيئة نظّر للكفاح من أجل المحيط الطّبيعي والاهتمام بالمسألة الإيكولوجية.
في عام 1864 نشر جورج مارش كتاب «الإنسان والطبيعة» تطرّق فيه إلى تحليل منهجي للانعكاسات المدمّرة للبشر على الطبيعة والذي صار بعد ذلك مرجعاً للتّحركات من أجل البيئة، ولم يمرّ عامان حتّى ظهر مصطلح «إيكولوجيا» على يد عالم الحيوان الألماني أرنست هيكال، كما تلمّست الجمعيات طريقها إلى هذا المجال وكانت في البداية تحمل طابعاً محافظاً فظهرت جمعية المساحات المفتوحة وحماية الأرصفة سنة 1815 في المملكة المتّحدة، ثمّ جمعيّة التّأقلم لعلم الحيوان في فرنسا سنة 1854، ويعتبر نادي سييرا أول منظّمة غير حكومية لحماية الطّبيعة في عام 1892 في أميركا.
وكان بنيامين فرانكلين سبّاقاً إلى توقيع أوّل عريضة رفقة أهالي مقاطعة بنسلفانيا الأميركيّة سنة 1739 ضدّ صب فضلات المدابغ. وبينما اعتبرتها المؤسسات هضماً لحقوقها كان هو ينادي باحترام الحقوق العامّة للمواطنين.
أمّا في إنكلترا الحديثة، يعتبر قانون مكافحة تلوّث الأنهار أوّل بادرة لمراقبة تلوّث المياه إذ يمنع إلقاء مياه الصّرف في مجاري المياه السّليمة في 1876، كما مثّلت سنة 1948 تأسيس الاتّحاد الدّولي لحماية الطبيعة والّذي يقع مقرّه في سويسرا. وارتفعت الأصوات في الولايات المتّحدة الأميركيّة في السّتينات مندّدة باستعمال مبيد الـ «د.د.ت» والأنشطة النوويّة الصناعيّة منها والحربية، تلى ذلك تحركات لعدم احترام حظر صيد الحوت وظهور منظّمة السلام الأخضر.
يؤمن المدافعون عن المحيط بمختلف تيّاراتهم باتّباع أساليب ديمقراطية مطالبين بتضمين المسألة الإيكولوجيّة إلى برامج التّعليم وتنظيم حملات تُعنى بالاستهلاكية والتّصرّف في النفايات، لكن مشكلة البيروقراطية وبطء الإجراءات يحول دون ذلك، وأمام تجاهل المعنيين تجد هذه المجموعات نفسها تدفع لعصيان مدني «سلمي» كتعطيل عمليات التوسع على حساب مناطق خضراء وعمليّات إزالة الغابات.
يعتبر الفيلسوف النروجي آرني ناس (1912-2009) مؤسس الإيكولوجيا العميقة أنّ للطبيعة حقوقاً على الإنسان أن يحترمها كما عليه أن يُعيد التفكير في حقوقه على نطاق أوسع.
أمّا التيار الفوضوي الإيكولوجي (Green Anarchy, Eco Anarchy)، فيؤكّد على ضرورة تخلّي الإنسان عن محاولة السيطرة على الطبيعة. وقد ارتبطت معركتهم في بداية القرن العشرين بالعودة إلى الطّبيعة بعيداً عن المجتمعات التي قام نشاطها أساساً على الصناعة. يرفض هؤلاء مبدأ مركزية الإنسان (Anthropocentrism)، وبذلك ينادون بالتناغم بين الإنسان وقوى الطبيعة معتبرين القرى الإيكولوجية المكان الأكثر ملاءمة للعيش.
لقد دأب الناشطون الإيكولوجيّون على رفضهم الإنتماء إلى خطّ سياسي، كذلك كان الخضر في ألمانيا في سبعينات القرن الماضي معلنين ذلك في شعاراتهم «لا يمين، لا يسار، إلى الأمام» (Nicht rechts, nicht links, sondern vorn) وإلاّ أنّ معظم التقدّميّين منهم يميلون في الغالب إلى اليسار وينبثق هذا الرّفض من موقفهم المُدين للإنتاجيّة وآلياتها رأسماليّة كانت أو إشتراكية.
في مقالات كتبها في المجلّة الفرنسية «ماريان»» تحت اسم ميشال بوسكيت يُمعن أندري غورز في نقده للمجتمع الرّأسمالي منطلقاً من اعتراضه للإنتاجيّة قائلاً «الرأسماليّة النّامية انتهت. الاشتراكية النامية الّتي تشبهها كأخت لها تعكس صورة مشوّهة ليس عن مستقبلنا بل عن ماضينا. الماركسيّة بكونها «أداة للتّحليل لا بديل لها فقدت قيمتها التنبّئيّة». هذا الرّفض للإشتراكية النامية الّذي يدعّمه بالطريق الذي انتهجه الاتحاد السوفياتي من أجل التصنيع والذي كان مدمّراً للبيئة.
ما أحوجنا اليوم إلى نشر الوعي بمخاطر التلوث والاحتباس الحراري الذي صار قريباً منا أكثر من أيّ وقت مضى، بعيداً من غوغائية الأحزاب وقرارات السّلطة التي تعكس لهفة رأس المال الصناعي


في كتاب «وداعاً للبروليتاريا ـــ ما وراء الاشتراكية» (1980)، يستمرّ المؤلّف في نقده للماركسيّة ويضمّ صوته للمدافعين عن البيئة: الثورة الإيكولوجية القادمة لن تمرّ بالبروليتاريا بل ستكون ضدّها.
أمّا مع سقوط المعسكر الاشتراكي وما وصلت إليه الرّأسماليّة من تغوّل وما نحن عليه اليوم، فقد لا تكون هذه الفكرة قائمة بعد - على الأقلّ في مجتمعاتنا. إنّ الجماهير التي تُكافح من أجل لقمة العيش في ظلّ تدهور الاقتصاد وغطرسة شركات التصنيع وتغلغلها في دواليب الدول متلاعبة بمسالك المراقبة مغلّبة بذلك المصلحة الشّخصيّة، تجد نفسها تُدافع بيدين عاريَتين عن بيئة سليمة للعيش مقابل قرارات السّلطة اللاّمبالية.
يظهر أنّ ما بدأته القوى الاستعماريّة على أرضنا من صناعات استخراجيّة ونهب للثروات استكملته لاحقاً الشركات بطرق أكثر فظاعة. ففي دول المغرب العربي عامة وفي تونس خاصة نجد أنفسنا أمام مشهد مأساوي لشواطئ انعدمت فيها الحياة البحرية. وحُرم الناس من زيارتها بسبب تلويثها بالمواد الصناعية، كذلك حال كيلومترات من شواطئ خليج قابس في الجنوب التونسي الملوّثة بمادّة الفوسفوجيبس. كذلك المشاهد المشابهة أينما وُجدت المصانع، فيصبح المشكل تصنيع دون رقابة وسلطة فرّطت في بيئتها في سبيل استثمارات جنت منه الفُتات أمام استفحال الفساد.
وقد ظهر على السطح مؤخراً ملفّ النفايات الإيطاليّة والذي اتّهمت فيه شبكة تونس الخضراء السلطات التونسية بمحاولة إخفاء القضية معتبرة أنّ ما قامت به وزارة البيئة إرهاب بيئي. ليس ذلك غريباً عن منظومة نخر فيها فساد اللوبيات النافذة حتّى لامس العظم، معتمدين على تقنية الرّدم الّتي تتبعها الدّولة التونسية للتخلّص من النفايات المنزلية. لا يغيب عن المتابع للشّأن أنّ شركتان تحتكران مجال ردم النفايات وتمتصان بالتالي مال الدّولة. ولو لم يصل الموضوع إلى الرّأي العام، لما كان التعامل جاداً مع المسألة بل كانت الدّولة ستسلك الطرق الدبلوماسية مع الغموض الذي شاب الموقف الرّسمي من إعادة النفايات الإيطالية المخالفة للمعايير الدّولية، علماً أنّ إيطاليا عرضت على شركة تونسية مختصّة حرق النفايات.
ها نحن لا ننتهي من مسألة حتّى تظهر لنا أخرى، وإن كانت النفايات مصيرها الردم فإنّ مساحات من شجر البلّوط والصنوبر أتت عليها النيران بأشكال متفاوتة بين دول المغرب العربي. وخسرت تونس وحدها 1100 هكتار من المساحات الخضراء متسبّبة بتهجير 19 عائلة وإن كان سبب الحرائق طبيعياً لارتفاع درجات الحرارة أو عملاً تخريبياً في سبيل زرع الفتنة فإن مصير هذه الأراضي واضح: تغيير صبغتها من أراضٍ زراعيّة إلى أراضٍ صالحة للبناء تُقام فيها المنتجعات السياحية والمناطق السكنية. ولمَ لا الصناعية أيضاً؟ فينتعش مالكوا النّزل ويزيد رجال الأعمال مراكمتهم لرأس المال. ولا يخفى أنّ السّلطات قامت العام الماضي بقطع 400 شجرة بلّوط أثناء فترة الحجر الصحي في منطقة عين سلام الواقعة بعين دراهم في الشمال الغربي لتونس.
وفي نفس السنة خاض أهالي منطقة الهوايدية بريف طبرقة معركة ضد الرّأسمال الاستخراجي في سبيل البقاء، أقاموا خلالها اعتصاماً دام خمسين يوماً مطالبين السلطات بغلق مقطع للحجارة تسبّب في تلويث عين الماء الطبيعية التي يشربون منها ويسقون منها مزروعاتهم وحيواناتهم بسبب مواد زيتية تسربت إلى المائدة الجوفية من آلات الشركة المستغلّة للمقطع كما أقرّت به المعاينة.
يأتي ذلك مع غياب واضح لتصورات لحلول جذرية قائمة على تحاليل علمية من قبل الأحزاب، تلك التي بالكاد تطرّقت إلى مسألة البيئة أثناء الحملة الانتخابية سنة 2018، فقلّة هم من قدّموا موقفاً من استخراج الغاز الصخري وتحلية مياه البحر والتغيّر المناخي.
من يشكّل الخطاب البيئي؟
ما أحوجنا اليوم إلى نشر وعي جمعي بمخاطر التلوث والاحتباس الحراري الذي صار قريباً منا أكثر من أيّ وقت مضى بعيداً عن غوغائية الأحزاب وقرارات السّلطة التي تخفي ورائها لهفة رأس المال الصناعي إذ إنّ الدولة نفسها التي تطرح المشاكل البيئية في برامجها التعليمية تنتهك الثروات الطبيعية، كما يوجد في تونس أكثر من 20 جمعية تُعنى بمسألة البيئة بالكاد نعرف بعضها أو نسمع عن أنشطتها. على الشباب أن يحمل على عاتقه مسؤولية حماية مستقبل محيطه استناداً إلى آراء علمية مرتكزين على تحليل مشكلات التغير المناخي والأزمة الإيكولوجية منحازين إلى قضايا الطبقات، أولئك الذين يدفعون الثمن الأعلى. وإنّ من الضروري أن تصدح الحناجر أعلى مطالبة بمنظومة اقتصادية وآليات إنتاج لا تسيء إلى الطبيعة في ضغط على الحكومات للاعتراف بخطورة الأزمة الإيكولوجية والتقليص من الانبعاثات الغازية والإيقاف الفوري للاستغلال المجحف للطبيعة في سعي إلى خلق تناغم بين الكفاح من أجل البيئة والمطالبة بالعدالة الاجتماعية والعيش الكريم. يجب أن تعمل التنظيمات الّتي تنشط سياسياً واجتماعياً على المطالبة بتمكينهم من حق مراقبة الأنشطة والمؤسسات الصناعية والفلاحية (توريد للبذور، الاستعمال المفرط للأسمدة). إنّ تحويل الاحتجاج إلى نويّات منظمة كامتداد له يجعل منها قوّة فاعلة لها ثقلها أثناء اتخاذ القرارات.
أخيراً، يبقى الرهان الأسمى هو التطلع إلى التحوّل من الإنتاج التقليدي للطاقة إلى خلق آليات مستدامة وصديقة للبيئة من أجل غذاء سليم ومن موارد طبيعية سليمة بدل أن تنهبها شركات الاستعمار الحديث، هي نفسها الشركات التي تمطرنا بحلول واهية من أجل جني أرباح أكثر. نحن في حاجة إلى عقول تفرض تغليب المصلحة الجمعية بعيداً عن نزوات السوق.
*باحث تونسي