قبل أيام توفّي المرجع الديني محمد سعيد الحكيم في النّجف الأشرف، وهو المجتهد المتبحّر في علوم العقل والنّقل، والمعروف بإبداعاته في علوم الرياضيات والحساب والهيئة، ولعلّ تغييبه لعقدٍ في سجون نظام صدّام قد حرم الأمّة الكثير من عطاءاته العلمية والفكرية، زرت هذه الشخصيّة الإسلامية في بيته المتواضع عام 2003 قبيل الغزو الأميركي، واستفدت من نصائحه ومواعظه، وإرشاداته فيما يتعلّق بالوحدة الإسلامية، ودور المرجعيّة الشيعيّة كتبتها ضمن مذكّرات لم أنشرها بعد.
وما لفتني بالأمس عقب دفنه «ره»، قيام أسرته وأعضاء مكتبه بكسر (ختمه الخاص) وهو تقليدٌ يجري بعد وفاة المرجع الديني لدى إخواننا الشيعة الجعفرية، وفيه دلالاتٌ عميقة تفتقر إليها المذاهب الإسلامية الأخرى ومنها: أن التقليد في الأحكام الشّرعية الفرعيّة يجب أن يستمر في المجتهدين الأحياء العارفين بزمانهم، وانتفاء الحاجة لاستعمال الختم في التوثيق كالحصول على الحقوق الشرعيّة وإعطاء الوصولات، وقطع الطريق على أي استغلال محتملٍ لثقة الناس بالمرجع الرّاحل، وهي نزاهة وعفّة يدٍ عزّت هذه الأيام بين أبناء الطوائف والأديان، تذكّرني ببيان المرحوم السيد أحمد الخميني عقب رحيل والده مفجّر الثورة الإسلامية في إيران، حين أعلن إغلاق مكتب والده، ووقف أنشطته، وأن على المؤمنين وعشّاق الإمام الراحل التّوجه إلى المراجع الأحياء الجامعين للشرائط.

كسر الختم يعني أيضاً أنّ المنصب الديني لا يورّث، فلا يمكن للورثة من عائلته استخدام المكانة العلمية لآية الله الراحل في شكلٍ من أشكال التسلّط على أتباعه ومحبّيه (وإن كان هذا الخلل قد حصل للأسف في بعض البيوتات العلمية).

ومن الواضح أنّ المرجعيّة الشيعيّة تتميز ببُعدها الإسلامي العالمي فيمكن أن يرأسها العربي أو الفارسي أو التركي أو الباكستاني، بخلاف مشيخات الحواضر العلمية الأخرى كالأزهر فلا بدّ أن يكون مصرياً، وهكذا المرجعيّة السلفيّة السعودية، ولا استقلالية لهذه المؤسسات الدينية عن نظام الحكم، وتأثيرات السياسة عليها حتى في الفتوى والأحكام الدينية.

في مدرسة أهل البيت وحاضرتيها العلميّتين (النجف الأشرف وقم المقدسة) الأصل عدم تقليد الأموات فباب الاجتهاد الفقهي مفتوح بعد أن أغلقته الطوائف الإسلامية، في قرار مؤسف فرضته السلطات الحاكمة في المجتمع الإسلامي قبل قرون، أدّى بالعقل الفقهي إلى الجمود على مذاهب أبي حنيفة والشافعي ومالك والحنبلي وبعض آخر قليل الانتشار، يتبع كل مذهب أحد الفقهاء المتوفّين قبل مئات السنين، فيما إبقاء باب الاجتهاد بشروطه مفتوحاً يساهم في إعظام دور العقل، وفهم وتفسير النصّ الديني، وكذلك القدرة على مواكبة الأحداث والتّطورات والمتغيّرات، وهو ما تعرّفت عليه أكثر في ذاك اللقاء العزيز مع الراحل الكبير (السيد الحكيم) الجامع لشرائط الاجتهاد والفتوى.


*صحافي فلسطيني