إن السياسة في لبنان هي من نوع السهل الممتنع، فهي بقدر ما تُضفي تعقيداً على الحياة السياسية، فإنّها تفصح على نحو جليّ عن عللها. وأول ما يعنينا هو بنية النظام السياسي، المسؤول الأول عن كل أمراض السلطة.الديمقراطية في لبنان لا تحقّق معناها، أي التداول السلمي للسلطة، وتالياً تبدّل الوجوه، والأسماء، والقوى. فمنذ الطائف حتى اليوم، تعيد الانتخابات إنتاج الوجوه، والأسماء، والأحزاب نفسها. ببساطة، لأن أحزاب السلطة هي شمولية في بنيتها، وتكوينها، وممارساتها، حتى وإن كانت تعمل في ظل نظام ديمقراطي.
إميليو فيلّالبا (الولايات المتحدة)

تمدّ أحزاب السلطة أذرعها الى مجمل نشاطات المجتمع المدني، وتخترق المجال العام، فلديها حضور كثيف في العمل النقابي، والمهني، والثقافي، والفني، والرياضي، والديني، والمالي، والأمني... هي السلطة في شكل حزب، وهي الأحزاب ـ الدول داخل الدولة. بكلمات أخرى، كل حزب من أحزاب السلطة هو يقوم مقام الدولة، ويمارس وظائفها، ويقوم مقامها، وهذا يضمر نزعة وصائيّة لدى هذه الأحزاب على جماعاتها، وأيضاً على الدولة.
هل يُنبئ ذلك عن تناقض بين البنية السلطوية والبنية الحزبية؟ بتاتاً، لأن الديمقراطية التوافقية في لبنان مصمّمة لتخليد النظام الطوائفي، أي توزيع الغنائم بين الأحزاب المشاركة في السلطة. والأحزاب في لبنان تأخذ خصائص العشيرة، وما المحاصصة إلا خاصيّة جوهرية في بنية الحزب والسلطة معاً. في أحد وجوه الأزمة السياسية والدستورية البنيوية، أن التوافقية في لبنان لا تنتج، كما في سويسرا، توزيعاً عادلاً للثروة والتنمية المتوازنة والعادلة، والتمثيل المتكافئ، بل هي مصمّمة لتوزيع السلطة (بكل مسارب الفساد فيها) على الأحزاب المشاركة فيها.
ومن نافلة القول أن الديمقراطية التوافقية نشأت في الأصل على خلفية أزمة، أو على نحو أدقّ من صليل الصوارم المضمّخة بالدم. ولا عجب أن تكون الدساتير في العالم، هي، في الأغلب الأعمّ، دساتير حروب، أي كُتبت بالدماء، من غالبين ومغلوبين على السواء. وفي محتويات موادّ كل دستور يمكن أن نستحضر أرواح الذين سقطوا في ساحات الوغى، حيث يحصد المنتصرون مغانم المعارك: سلطة، وامتيازات، وحقوق، وصلاحيات، وحدود...
في وقت مبكر من القرن العشرين، خلص أوتو هينتز الى أن: كل دستور الدولة هو في الأصل دستور حرب، أو دستور عسكري. ويجزم هينتز بأن تنظيم الدولة كان في الأصل تنظيماً عسكرياً أُعّد من أجل شن الحروب. وأن مجاميع كبيرة من الناس توحّدت في بنية أكثر تماسكاً للدولة، من أجل، بدرجة رئيسة، أغراض دفاعية وهجومية. ومن هذه المنظمة العسكرية طوّر القائمون عليها أولاً حكومة مع سلطة قسرية على الأفراد وزادت قوّتها كلما شنّت الحروب على نحو متكرر.
لم يكن لبنان استثناءً في أي يوم، بل يتصدر دستوره الصادر في 23 أيار (مايو) 1926 قائمة الدساتير التي صيغت تحت دوي المدافع، وكذلك التعديلات الطارئة عليه في أعوام 1927، 1929، 1943، 1947، 1989، 2004. في مواد الدستور وتعديلاته ما يشي بالتوتّرات الكامنة بين الطوائف، والتي تكشف في إحدى صورها عن عمق التنازع على الصلاحيات بين، على سبيل المثال، الرئاسات الثلاث وما دونها ...
مع الاسترسال في السياق نفسه يمكن القول إن دولة الطائف وما بعدها هي هدنة مفتوحة، أو ما اصطلح عليه بـ «ربط نزاع»، وهي كذلك، فالسلطة في حد ذاتها موقع تعاهد فيه المحاربون السابقون على تقاسم حصصها. يخطئ من يعتقد أن التحذير من العودة إلى الحرب الأهلية تهويل أو استحضار لتاريخ يتوهّم كثيرون أن صفحات الحرب فيه طويت إلى غير رجعة. إذا كان الأمر كذلك، ما بال رحى عمليات «التسليح» و»التدريب» و»التخزين» على الأراضي اللبنانية لا تكفّ عن الدوران!

الشعب بين الحزب والسلطة
في حراك 19 تشرين الأول (أكتوبر) 2019 كان المحازبون هم الكتلة الشعبية الأكبر في ميدانَي الشهداء ورياض الصلح وسط بيروت. وأن شعار «كلن يعني كلن» لم يكن اختراعاً بريئاً وعفوياً، بل كان من صنع أحزاب السلطة نفسها، بمعنى آخر أن ما جرى في ذلك اليوم وما بعده، أن صراع أحزاب السلطة انتقل الى الشارع بعد أن كان داخل البرلمان، والحكومة، والإعلام، والنقابات ... ومن قطع الشوارع هم محازبون تابعون لأحزاب السلطة ...
دلالة واحدة تكفي: أن الشعب بمكوّناته الطائفية هو جزء جوهري من معركة السلطة نفسها، فالقواعد التي تهتز في الشارع لا تفعل ذلك من دون أمر عمليات من أعلى.
قلّة نادرة كانت مستقلة، ثوريّة، نزيهة، غير حزبية، أو حزبية سابقة. لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً لانفراز الخطوط الحزبية داخل الحراك الشعبي، ولم تخف الأحزاب «الضالعة» في الثورة هويتها، ولا دورها، عبر قطع الطرقات، والتحريض الإعلامي، والتمويل، والارتباط الخارجي ... في وقت أصيب فيه الثوريون الحقيقيون بخيبة أمل، ليفضي ولاحقاً عن انسحاب كامل من ميادين الثورة وشوارعها، بفعل اختطاف أحزاب سلطوية لحراكهم، بعد أن أصبح ألعوبة وسلاحاً في معركة السلطة نفسها. في المقابل، كان القسم الآخر من أحزاب السلطة يتصدى لما يصفها بالمؤامرة الخارجية. من دون ريب، ثمّة فصل من فصول الثورة على صلة بالسفارات الأجنبية والقوى الدولية (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وصولاً إلى الكيان الصهيوني)، ولكن هل يعقل أن فقر الناس وجوعهم وفساد الطبقة الحاكمة، ونهب المال العام من قبل قادة أحزاب السلطة مؤامرة أيضاً؟
يحيل ما سبق إلى حقيقة أخرى في بنية المنظومة الطائفية وهي: في لبنان، لا فصل بين المجتمع والسلطة، فالجميع، باستثناء قلّة نادرة وغالباً مبعثرة، مندكّ بصورة كاملة في براثن السلطة، وإن التقسيم المفتعل، بخلفية ذرائعية/تبريرية، بين أحزاب السلطة وأخرى خارجها، يشوّه الواقع ولا يفسّره.
إن هذا التشويه ليس مرتبطاً بعقم السلطة وفشلها، مع أن ذلك توصيف صحيح في ذاته، ولكنّ التشويه ينطوي على محاولة فرز على مستوى المسؤوليات، وهنا يُطنب المحازبون ـ شركاء السلطة، في أحاديث الحلقات المفرغة بثنائياتها المملّة والمقرفة: قلنا وقلتم، فعلنا وأحجمتم، حذّرنا وفشلتم، سبقنا وتأخرتم. والنتيجة: هوى لبنان إلى القاع وحيداً فريداً.
ليس هناك من يجاري أهل السلطة في «المشاطرة»، فقد أدمنوا القلق على الفساد، والتضليل، وإضاعة البلد. هنا، وليس في مكان آخر، تجد المدجّج فساداً شاهراً سيفه ضد أشكال الفساد كافة، يحاربها علانية، ويعاشرها سرّاً، ويتقدّم الصفوف لتسجيل اسمه في صدارة المحاربين الأوائل للفساد، حتى يرغم من «توهّم» بتحقيق نصر في هذه الحرب بنقل ملف الفساد إلى، حيث تموت العدالة، أي أدراج القضاء المؤدية إلى «سلة المهملات» أو «فرّامة الورق».
ولسوء حظ حزب الله، وخطأ مقاربته في ملف الفساد، وحسن حظ زمرة الفاسدين جميعاً، أن دشّن معركة الفساد بالضد الطائفي (فؤاد السنيورة)، بدلاً من فتحها في داره، وفي بيئته، ومع حلفائه. في المحصلة، نجح السنيورة في الإفلات من العقاب بتسديد ضربة تحت الحزام، بتمترسه الطائفي، والاختباء خلف المفتي (السنّي) لتأمين النصاب المذهبي وتالياً السياسي. أحسن السنيورة استغلال فوبيا الفتنة لدى حزب الله، وأسقطه في حبائل فوبياته. بطبيعة الحال، لم ينقص السنيورة العتاد القانوني والبيروقراطي لإفساد الطبخة، فقد أعدّ لنفسه «كومة» فواتير مضادة لتقويض جملة المزاعم الموجّهة ضده في فساد عهده ومصير الـ 11 مليار دولار التي اختفت بقدرة فاسد. نجا من هذه الجولة كل الفاسدين في لبنان، واطمأنوا إلى أن معركة الفساد بحدودها المعلنة لا تخيف أدنى موظف في أدنى دائرة رسمية، ولينم الفاسدون قريري العيون، بعد أن أُسدل الستار على الفساد.
ما ظهر جلياً، أن الفساد على قدر من التعقيد الذي أجهض، على نحو عاجل، مقاربة على قدر من السذاجة، إذ تتزايد الحاجة إلى مقاربة متعدّدة الأبعاد. والنتيجة كانت: أن من أعلن الحرب على الفساد صار، شاء أم أبى، شريكاً فيه إما صمتاً أو خوفاً أو تواطؤاً، في أسوأ الحالات. وذلك كله لأن الدفاعات المناعية في مواجهة تهمة «الضلوع» في الفساد ضعفت بمرور الوقت، وصار الخيار هو التقهقر الهادئ، وكان مبرر ذلك (إيذاناً بالانسحاب من المعركة) أن الملف صار في عهدة القضاء!
ومرة أخرى نكرّر أن الفساد في لبنان ليس، كما يتصوّر البعض، عرضاً طارئاً على النظام الطائفي، على العكس، هو خاصية لصيقة به، وقد وُلد معه في لحظة واحدة. ولا غرابة في اندياثه وتغلغله في خلايا المجتمع، إذ يعمل كمونياً كما لو أنه تقليد اجتماعي، أو مكوّن أصيل في الثقافة الأهلية.
أصل مشكلة السلطة في لبنان هو في تضامنات شركائها، على قاعدة «الحكّ المتبادل»، وهذا التضامن غالباً ما يكون على حساب الناس


وأسوأ ما في الفساد، حين يخيّل أنه قانوني، أو يتلبّس صفة القانون، لمجرد تفشّيه في كل مفاصل الدولة وأجهزتها وانتشاره في البيئات الاجتماعية قاطبة.
خرق القانون في لبنان ليس مشكلة، بل هو سرها. وهناك من يتفلسف بالقانون ويتسلّح به، بل ويعيش عليه، لأنه لم يكن مصمّماً لتحقيق العدالة، بل اغتيالها. نستذكر هنا مقولة ماكلوين: «إن القدماء كانوا يتحدثون عن القانون بلغة السياسة، أمّا اليوم فإنّنا نتحدث عن السياسة بلغة القانون». في لبنان، تُتقن الطبقة السياسية في لبنان من المشارب الإيديولوجية والسياسية والطائفية كافة، تظهير مواقفها السياسية بلغة قانونية، وهذا ما يزيد أزمة المنظومة السلطوية تعقيداً.
جعلت الطبقة السياسية اللبنانية من خرق القانون بمنزلة ملح الأرض. وإن أول ما تتخلى عنه هو القشرة الأخلاقية التي تكسو الخطابات الشعبوية الفارغة، لتبدأ طاحونة الهراء تدور على وعود واهية. أتعلمون ماذا يفعل أولئك الذين نذروا أنفسهم زعماً للمصلحة العامة؟ إنهم يستجيرون بالقانون لتبرير تقاعسهم وفشلهم، ولسان حالهم: لقد أدّينا ما علينا، ويبقى على القضاء تحمّل مسؤوليته! هل ثمة عاقل يجهل حقيقة كون القضاء، إلا ما رحم ربي، جهازاً معمّداً بالفساد من الرأس حتى أسفل القدم؟ وببساطة أيضاً، إن القضاء جزء من لعبة السلطة وأحزابها.
يجادل راتستنغر بأن مسؤولية جعل السلطة تحت وصاية القانون إذ يطلق السؤال الفيصل: كيف يقوم القانون وكيف يمكن التوصّل إلى القانون لكي يصبح مركبة للعدالة وليس امتيازاً للذين لهم سلطة تطبيق القانون؟ رأي فصل يرسم بداية خط سير الحل، أي تحرير القانون من قيود السلطة وعفنها. وفي نهاية المطاف، يحدّد هذا السؤال وجهة الديمقراطية، بل وشكل النظام السياسي وجوهره.
في لبنان، هناك فائض من المكر على أشكاله، الذكي نادراً، والغبي كثيراً، والأحمق غالباً. والذين مردوا على فن التحصّن بالقانون جعلوا التشريعات مبتذلة إلى القدر الذي سمح للفاسد بالتفلسف في القانون، وإلقاء دروس في كيفية تطبيق القانون ... يقول إدغار موران بأن أقدس شيء ليس الحرية، بل هو لعبة الحقيقة، حتى لو كانت ملعوبة بطريقة سيئة، بكثير من أنواع الغش، والخداع، والحيل، والمعلومات الزائفة. وفي لبنان، ثمة فائض من الحرية ولكن قليل جدّاً من الحقيقة، لأن من يشتغل على طمسها، وتشويهها هم أركان السلطة نفسها بكل الترسانات الإعلامية الخاضعة تحت تأثير خطاباتهم وكاريزمياتهم المتكلسة، وهؤلاء جميعاً يتحدثون باسم الدولة والحفاظ على هيبتها، ومرجعيتها، ونهائيتها.
ولأنّ من غير المنطقي الحديث مع الشعب باسم الحزب أو الطائفة، فإنّ الدولة وحدها العاصم من الغرق السياسي، ولا يمكن للدولة أن تتطلّب أي أداء ولا تفرض أي قيود، ولا يمكنها أن تأمر رعاياها بأي شيء ولا تمنعهم من أي شيء، إلا على أساس وصفة قانونية. وترى الفاسدين جميعاً وأشتاتاً يهلّلون ويكبّرون باسم الدولة، والقانون، ومصلحة الوطن والشعب ... من التفاهة، أن أسهل شيء في لبنان هو التماهي مع الدولة إلى حدّ خنقها ونهبها، وفي الوقت نفسه الانقلاب عليها والبراءة منها (لنقرأ خطاب الحريري ما قبل الاعتذار وبعده). وهذا ما يضعنا، دون تردّد، في مواجهة حاسمة مع السؤال الفارق: لبنان ـ الوطن نهائي لمن؟
سؤال يبدأ مع علاقة أحزاب السلطة بلبنان الوطن والدولة. نقول ذلك، لأن الأحزاب تعيش ضمن محميات بشرية، تتّكل عليها في المنافسة على السلطة، وفي «العراضات» الشوارعية، وليس على خدمة المجتمع ورفاهه. وقد أوقع الحظ العاثر المحازبين في قيادات تنفق القليل وتجني الكثير.
الحزبي، لا يمثّل بالضرورة طائفته فضلاً عن شعبه، لأن التوجيهات الحزبية وفق التجربة اللبنانية تتناقض، جوهريّاً ومآلاً مع المصالح الوطنية والشعبية. وهنا تبدو الأنانية في تجلّياتها القبيحة، حيث يكرّس الحزبي نفسه للغايات الخاصة (والشخصيّة) باسم الطائفة أولاً، لينتهي به المطاف إلى الذات متجاوزاً الحزب ومتعالياً على الطائفة دع عنك الوطن والدولة.
في معركة تقاسم الحصص، وعلى وجه الخصوص في أوقات توزيع الحقائب الوزارية، يستحضر المتنافسون طوائفهم كأوراق قمار. لا يكترث المقامرون للحرائق التي تشتعل خارج قلاعهم الحصينة (والمكيّفة بالهواء البارد)، ولا يعنيهم، بتاتاً، ما يصيب أبناء طوائفهم من فقر، وجوع، وموت على الطرقات وإذلال على محطات الوقود، ونقص الدواء، وجنون الأسواق والأسعار، وجشع المصارف والصيارفة (وهم ليسوا شيئاً آخر غير النسخ الضوئية من الطبقة السياسية الحاكمة). وللمرة العاشرة، لا يخشى الغارقون حتى أخمص الأقدام في وحل الفساد من تطبيق القانون، فقد تأبّطوه، وتساكنوا معه، ودجّنوه حتى صار درعاً واقياً، ووسام شرف للداعين إلى تطبيقه ... وهذا، في حد ذاته، يجعل آليات النظام السياسي في لبنان غير ديمقراطية، فهي تستخدم لوأدها والعبث بها على نحو مقرف ...
أوغسطين في «مدينة الله» استعار الفكرة الأفلاطونية في الدولة، وحدّد أولى مهامها في تحقيق العدالة، ولفت شيشرون في كتابه عن «الجمهورية» إلى أنّ العدالة هي أساس القانون ... فبغير عدالة لن توجد حكومة أو فكرة حقّة عن الصالح العام. ولذلك، افترض منظّرو الدولة بأن الدستورية شرط أساسي من شروط سيادة القانون، وأن الدستور هو الناظم للمجتمع، والرادع للفوضى. ومع ذلك، فإن الدستور وفق تجارب كثير من الدول تحوّل إلى مجرد عملية تجميلية.
يتسابق المتنافسون على الغنيمة في شرح مواد الدستور وبيان أسراره، وخباياه، وتطبيقاته، ولكن في النتائج، يبدو الدستور مجرد وثيقة جوفاء، لا هيبة لها، وتُستحضر فقط في أوقات الصراع على الحصص.

من يغيّر القدر في لبنان؟
ما حصل في عام 1989 لم يضع نهاية سعيدة لحرب أهلية طويلة نسبياً، ولم تحقق «وثيقة الوفاق الوطني» هدفها المعلن (على الرغم من الصلاحية المنتهية لعدد كبير من بنود الاتفاق)، بلحاظ الألغام المدسوسة فيها لجهة بنود إلغاء الطائفية السياسية، التي تلطّت وراء ثنائية السلطة (المسيحي ـ الإسلامي)، وما تناسل منها في هيئة ثنائيات فرعية طائفية في كامل الجهاز البيروقراطي، لتصبح الدولة بكامل تجهيزاتها أسيرة التجاذبات الطائفية، وأخيراً بما يؤسّس لضروب فساد لا حصر لها.
إن الإصرار على التمسّك بالنص الكامل لاتفاق الطائف هو إصرار على الذنب والخطيئة. كل ما أصاب اللبنانيين هو نتيجة اعتصام أحزاب السلطة بكل بنود هذا الاتفاق، كخاتمة للفصل العسكري من الحرب الأهلية وبداية الفصل المدني منها، إذ يعاد إنتاج نظام طائفي يتقاسم فيه لوردات الحرب الغنائم بالتساوي، على حساب اللبنانيين جميعاً من كل المكوّنات. والمآل الكارثي الذي بلغه لبنان هو النتيجة الحتمية لسلطة الطائف، وأن أحزاب السلطة ما هي سوى التجسيد الأمثل لعقم الاتفاق، الطائفي بامتياز، عن ولادة دولة بكامل الأوصاف الوطنية.
الهزّات الخفيفة التي تضرب القواعد نتيجة تفاقم الأزمة المعيشية قد لا تزيح طبقات الأرض، ولكنها نذير باحتمال وقوع زلزال مدمّر. إن الرهان على أنّ هذه القواعد ملتزمة (شرعياً، وطائفيّاً، وسياسيّاً) يملي قراءة علميّة وواقعية لمسار حركة القواعد على مدى الثلاثين سنة الماضية ... بالأمس ظهرت أولى رسائل التحوّل في المجتمع اللبناني، أعني نتائج انتخابات نقابة المهندسين، حين خسرت أحزاب السلطة مجتمعة وربح خصومها. وهذا، في حد ذاته، نذير لما يمكن أن يكون عليه المشهد الانتخابي (البلدي والنيابي)، في الدورات القادمة ...
مع إلفات الانتباه هنا إلى نقطة جوهرية على النحو الآتي: ليس في لبنان معارضة سياسية بالمعنى الحرفي والتقني للكلمة، فالأحزاب جميعاً منخرطة في السلطة، وكل ما كان خارجها في سنوات سابقة (حزب الله والتيار الوطني الحر على وجه التحديد) بات في صلبها، ويعمل وفق آلياتها، السليم منها والسقيم، والعقيم أيضاً. إن الاعتصام بذريعة ثنائية (داخل وخارج) حريم السلطة لا يعفي في النتائج أحداً، لأن الوافدين المتأخرين قد أمضوا نصف المدّة لسلطة الطائف (1990 ـ 2005 ـ 2021)، وسؤال الشارع: ماذا تغيّر؟ ولسان الحال: «لو كان لبان».
التشكيلات الحزبية الجديدة، وهي لا تزال في مرحلتها الجنينية، لم تحقق بعد شروط المنافسة الكاملة مع أحزاب السلطة، ويخشى على بعضها الإصابة بأمراض السلطة، بتقديم نفسها بديلاً عن الأحزاب الحاكمة، لتكون هي أحزاباً بديلة، وهذا أخطر ما يمكن أن يفكّر فيه أي حزب يعمل، في الظاهر، من أجل استعادة حق الناس في السلطة لا أن يكون بديلاً عنهم ليضاف إلى أحزاب السلطة حزبٌ آخر. وهنا تتأكّد الحاجة إلى التغيير من أسفل، من الناس، المالك الحقيقي للسلطة، وصاحب السيادة. كانت الأحزاب على مدى عقود تحتل مركز السلطة، وبات على الناس استعادة هذا الحق أولاً بالوعي به، ومن ثم إعادة تنظيم صفوفها في مؤسسات مدنية مستقلة عن الأحزاب، والأهم من ذلك كله استقلالها المالي والتنظيمي/الإداري عن الخارج الإقليمي والدولي، وإلا وقعت فريسة مصيبة أعظم من فساد السلطة وأهلها. حينئذ يكون الارتهان لقوى دولية بدلاً من قوى محلية، وما أبشع أن تكون مناضلاً بهوية أميركية أو أوروبية أو حتى إسرائيلية.
في الأخير، إن فوبيا الفتنة التي يجري، على الدوام، استحضارها سابقاً للتحذير من السقوط في الهاوية الاجتماعية/الأمنية، أي في الفوضى، كان لها مفعول سحري، طالما أن الخبز والدواء، في الحد الأدنى، مكفولان دون عناء، وقهر، وذل. تبدّل الحال على نحو كارثي منذ بداية السقوط الحر لقيمة الليرة، وتالياً انهيار قلاع التابوات الحصينة، الذي استدعى استنفاراً من الأحزاب، قبل غيرها، لتحصين قواعدها الشعبية عبر تفعيل الجهاز المناعي، والإفراط في الرعب من الفوبيات على ضروبها بمساحيقها الدينية والثقافية والاجتماعية والطائفية.
معادلة اليوم ليست كما الأمس، أي لم تعد المعادلة الفتنة والفوضى، بل الفتنة والهلاك/الجوع/الفقر/الموت. لا تطرب الناس لخطاب تمجيد الذات وتنزيهها حين يكون الفقر النصب الماثل أمامهم كالظل. وسوف تبقى صرخة الصحابي أبي ذر الغفاري في قرى جنوب لبنان بعد نفيه في عهد الخليفة عثمان: «إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر خذني معك».
الدعوة إلى مؤتمر تأسيسي، لإخراج لبنان من محنته، نبيلة في ذاتها، ولكن بوجود الطبقة السياسية الحاكمة تعيده إلى الحلقة المفرغة، وتجعل الدعوة بمنزلة فرج لأقطاب السلطة، لأن المخرجات سوف تطابق وتعيد، حكماً، إنتاج الواقع الفاسد القائم وليس تغييره.
لا يذهبنّ العقل الارتيابي بمن يرى في نقد ما سبق دعوة ضمنية إلى تدويل الأزمة، لأن التدويل صنو الفساد بكل أشكاله. والحل في البدء والخاتمة يجب أن يُمهر بـ «صنع في لبنان».
ليس من قبيل المجازفة والقفز على حقائق الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني الدعوة إلى قلب الهرم، أي أن تضطلع القواعد الشعبية في أحزاب السلطة كافة بقيادة المرحلة، بثورة من نوع مختلف، أي من الأسفل، لا يكون فيها لقادتها دور التوجيه، والتضليل، والتعطيل. ولنا عودة هنا الى معادلة المجتمع والسلطة، لأن بقاء القواعد رهن إشارة قادتها، الشركاء المتضامنين في السلطة، يحصر الترتيبات والتسويات (والسرقات أيضاً) في القيادات السياسية على حساب قواعدها الحزبية والشعبية، التي تتقاسم الغرم فيما تتقاسم القيادات الغنم.
التحصّن بالدولة (=السلطة) لتحصيل الحماية استوجب ضمنياً وتقنياً حماية السلطة، وفي نهاية المطاف أصبحت السلطة عبئاً على المجتمع وخطراً عليه. والحاصل، أن من يحمي السلطة صار في نظر المقهورين جزءاً من فسادها. ولا يعاب على الناس أحكام انفعالية في ظل الانهيارات المتعاقبة والشاملة الاقتصادية والاجتماعية والصحية والغذائية والمعيشية والتجارية والأمنية ...
السؤال المعلّب دائماً: ماذا في مقدورنا أن نعمل؟ سعينا بكل ما أوتينا من إمكانات، وموارد مالية وبشرية ومؤسسية من أجل منع الفساد والانهيار، ولكن هذا لبنان!
بقدر ما يبطن السؤال اعترافاً بالعجز والفشل، فإنه يحمل إجابته معه. وهل عدم القدرة يُعفي من مسؤولية من هو في موقع المسؤولية؟ وهل يؤتى إلى هذا الموقع إلّا من كان على قدر المسؤولية؟
بديل العجز ليس في إدامة الحال، بل في إخلاء الموقع لمصلحة آخر، قادر وكفء ليس فقط لتحمّل المسؤولية، لأن الجميع يدّعي حملها على أكمل وجه، ولكن للقيام بها مع الناس، وليس بالتعاون مع حلفاء آخرين، هم أعجز، وأكثر فساداً.
أصل مشكلة السلطة في لبنان هو في تضامنات شركائها، أي على قاعدة (الحك المتبادل)، وهذا التضامن غالباً ما يكون على حساب الناس. لا المناوشات السياسية والإعلامية العبثية تبدّد قلق الناس، ولا تقاذف القرف والزيف، فكل ذلك لا يحمل تباشير فرج للخروج من الجحيم، لأن العيون كلها مصوّبة على السلطة وفسادها.
من مهاترات السياسة في لبنان، أن السلطة المسؤولة عن إفقار الناس، وتجويعهم، وإذلالهم، تناضل بأركانها الراسخين في الفساد من أجل إبقاء رؤوسهم فوق مستوى الوحل، بإعلان البراءة مما أصاب الناس بسببهم وبأيديهم. هم مع السلطة حين يتكسّبون باسمها، وباسم الشعب والوطن والأمة، وهم براء منها حين تفلس، وتجفّ ينابيعها، وتيبس عروقها.
المستوى القاعي الذي وصل إليه حال الناس أثبت حقيقة واحدة وهي باختصار: فشل أحزاب السلطة كافة في النهوض بالدولة والمجتمع. لقد بلغت الأزمة حدّاً خطيراً بما يجعل «هرم ماسلو» (maslow pyramid) للاحتياجات الإنسانية خارج النقاش، لأن في قائمة الحاجات الفسيولوجية، وهي أدنى الهرم، ما أصبح مفقوداً (الطعام والماء)، وتحصيلهما يتطلب جهداً وتضحية، وقد يصل يوم لا يبقى فيه للناس سوى الهواء، وحتى الهواء يمكن تسميمه.
يقف المرء حائراً، وأحياناً عاجزاً، أمام الهوّة السحيقة التي بلغها لبنان، بفعل حسّ المسؤولية المعدوم، أو العقيم لا فرق، لدى الطبقة السياسية، فيما ينشغل المثقفون ونخبة لبنان من الطوائف كافة بصبّ اللعنات على الزمن الرديء الذي يعيشون فيه، لتبرير استقالة جماعية كانوا في غنى عنها لو أحسنوا تنظيم صفوفهم في إطار فوق طائفي ومناطقي لإخراج لبنان من قبضة ساسته.
* كاتب عربي