هذه الكلمات قد تكون سبباً في إثارة شهية كثيرين لاستهدافنا بانتقادات لاذعة واتهامات مُغرضة، مبنية على الأوهام، تخدم الأهداف المشبوهة التي تحاصر بلدنا وأمتنا، ولكن لا بدّ أن تقال إبراءً للذمة، وإيماناً بفسحة الأمل المرجوّة والمرتقبة.أين الخلل؟ ليس الخلل الآن في ما نحن بصدده، من المرجعية المسيحية، بكركي، وليس عند الأب أنطوان ضو، الذي جمعتنا به مناسبات عديدة أثبت خلالها أنه واسع الاطّلاع، حريص على العيش الواحد والسلم الأهلي، بل ولعله من أجدر من يعطي بأن يعطي صورة مميزة عن رجل الدين الماروني اللبناني في حرصه على مقتضيات التواصل مع المسلمين خلال كلّ المراحل.
الخلل في الشكل الذي تقدمه السعودية للإسلام: وفي موقفها الملتبس من قضايا الأمة الرئيسية:
ونرى أن الخلل يكمن في عدة أمور منها:

أولاً: لقد أُنشئت المملكة العربية السعودية على أساس الولاء المطلق لحكومة (جلالة الملك) جورج الملك البريطاني، آنذاك، كما تنص الوثيقة المشهورة التي وقّعها الملك عبد العزيز والتي ختمها بقوله (حتى صياح الساعة)، ثم بالتوافق الكامل مع السياسة الأميركية في المنطقة الذي تكرس بتاريخ 14 شباط 1945 على متن البارجة كوينسي خلال اللقاء «التاريخي» بين الملك عبد العزيز والرئيس الأميركي روزفلت في البحر الأحمر الذي تم خلاله القبول بإنشاء الكيان الصهيوني الذي سيضم «المساكين» اليهود، حسب تعبير الملك عبد العزيز بن سعود، وقتها، ولقد وقع الاحتلال الصهيوني لفلسطين بعد حوالى ثلاث سنوات من ذلك اللقاء.

ثانياً: لقد كان الحاكم الفعلي للسعودية هو شركة أرامكو التي قدّمت سعراً أفضل بكثير للنفط السعودي من الشركات البريطانية، حيث أثبت «الاستعمار» الأميركي أنه أذكى بكثير من الاستعمار البريطاني الذي بدأ بالأفول في تلك الفترة.

ثالثاً: لسنا في صدد انتقاد المملكة العربية السعودية في الجانب العبادي في هذا السياق، حيث تقدم خدمات جليلة للحجيج وتنفق مبالغ طائلة على تطوير وتحسين المناسك، كما أن حرص السلطات السعودية على إعمار المساجد ورعاية المصلين وإطلاق دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، (قبل رؤية 2030، طبعاً)، إضافة إلى رعاية جانب الأخلاق المتعلق بسلوك المرأة وسترتها، أمور ينبغي التنويه بها، وإن كان كل ذلك بحاجة إلى حوار بين المسلمين جميعاً للارتقاء بهذا الجانب بعيداً عن التعصّب المذهبي واحتكار الفتوى من جهة واحدة.
نعم نحن هنا لسنا مع كثير من التفاصيل، ولكننا مع المبدأ العام.

رابعاً: إن الكلمات التي أُلقيت أثبتت الجانب النفعي الذي أشرنا إليه أكثر من مرة، فليس (أمين الريحاني) إلا متكسباً أراد الانتفاع من أعطيات الأمراء والملوك العرب الجزيلة، هذا دون أن ننكر أهمية ما كتبه وأسبقيته، ودون أن نهمل روحه النقدية الساخرة، مروراً بأميل البستاني كرمز للمهاجرين اللبنانيين الذين راكموا ثروات هائلة من المشاريع المرتبطة بالنفط استخراجاً وتصنيعاً وتوريداً... الخ، وصولاً إلى العاملين اليوم الذين قد يتجاوز عددهم المئة ألف.
إن كل ذلك يؤكد ما ذكرناه سابقاً في رسالتنا المفتوحة لغبطة البطريرك: إن السعودية بالنسبة إلى اللبنانيين، أو إلى الكثير منهم، ليست أكثر من مصدر رزق، وإن ما يقال عن دور سياسي أو ثقافي أو إنساني، إنما يقال للحفاظ على هذا المصدر المالي الغزير والعزيز والمتجدّد.

خامساً: إن الحديث عن أن السعودية لم تسبب حرباً أو حروباً في لبنان ولم تعرقل الديمقراطية فيه ولم تتدخل في شؤونه وأنها فهمت دوره ... كلام غير صحيح ... وغير مقبول.
إن الدور السعودي واضح في كثير من مراحل الحرب الأهلية البشعة، وتشهد على ذلك أسلحة مدموغة بطابع الجيش السعودي وُجدت بين أيدي الميليشيات، بل وماذا كان يفعل السفير علي الشاعر في طائرة الهليكوبتر فوق (جونية) حيث تم إطلاق الرصاص على الطائرة واضطرت للهبوط (...)، وكان ذلك في أوائل الحرب عام 1975، مروراً باحتجاز الرئيس سعد الحريري وإجباره على الاستقالة وتوجيه الإساءات الجسدية والمعنوية إليه، ثم وصولاً إلى رفض تشكيلة للحكومة الحالية لأسباب سعودية أكثر مما هي أسباب متعلقة بأية مصلحة لبنانية مفترضة.
أليس كل ذلك اعتداء على السيادة اللبنانية وتدخلاً في الشؤون اللبنانية وغير هذا كثير لا يُحصى؟، وكذلك دعمها السخي لجهات لبنانية أقل ما يقال فيها إن أيديها ملطّخة بدماء اللبنانيين جميعاً، من جميع الطوائف والمذاهب والمناطق.
ولن نذكر كل شيء، مؤكدين أن مقتضيات المجاملة واللغة الدبلوماسية لا ينبغي أن تدفعنا إلى تزوير الحقائق.

سادساً: إن هذه الاحتفالية وهذه الكلمات يمكن أن تُلخص بكلمات قليلة، تقديس المال الذي أدانه سيدنا المسيح عليه السلام: (لا تستطيعون أن تعبدوا ربّين الله والمال) إنجيل متى (24:6). وليس بعيداً عن ذلك ما ورد في القرآن الكريم في سورة النحل { وَقَالَ اللهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) }.
كما أنها محاولة جديدة لاتهام المقاومة بأنها انحرفت بلبنان عن دوره التاريخي الذي يفترض أن يبقى خدمة رأس المال والثروات وأن يبقى مكاناً فسيحاً ترتع فيه أجهزة المخابرات على أنواعها وأشكالها، دون أن ننسى المتاجرة بالأعراض ككلمة مخفّفة عن رعاية الدعارة وتشريعها كجزء لا يتجزأ من الخدمات السياحية.
لقد نقلت المقاومة لبنان واللبنانيين من هذا الدور "اللطيف والناعم" الملوّث بالأموال المشبوهة وبالفساد على أنواعه إلى دور تاريخي عظيم، لقد تمّت مواجهة أكبر مشروع استعماري في التاريخ الحديث، (الكيان الصهيوني) وما يشكله من خطر على القيم المشتركة بين الإسلام والمسيحية وبقية الشرائع التي شهدتها البشرية.
إن الإشارة إلى المفاضلة "المستورة" بين الدور السعودي ودور المقاومة أمر مرفوض ومدان، وإن كل محاولات الإساءة إلى المقاومة وما منحته للبنان من عزة وكرامة وحرية وريادة، لن تضير المقاومة ولن تغير من واقع حال تحاول شياطين العالم كله أن تحاصره أو تحاربه أو تسعى إلى تشويهه.
وهنا يأتي دائماً الكلام عن العروبة في مقابل الانتماء إلى محور المقاومة، ويا ليتهم كانوا يتكلمون عن العروبة عندما كانت تعني وحدة الأمة والعدالة الاجتماعية والسعي لتحرير فلسطين، وعندما كان المطران مكاريوس، ولومومبا، وأحمد سوكارنو وجواهر لال نهرو وغيرهم أصدقاء طبيعيين للعروبة، باعتبارها دعوة للتحرير من الاستعمار وللحياد الإيجابي، كانوا وقتها يدينون العروبة ويعتبرونها نقيضاً للإسلام، اليوم عندما رفع لواء المقاومة إيرانيون أو (فرس) وأبدعوا في حمله أصبحت العروبة نقيضاً لإسلام المقاومة.
وكما قلنا دائماً: عليكم أن تحددوا ، هنالك عروبة أبي جهل وأبي لهب، تقابلها عروبة محمد صلى الله عليه وسلم والإسلام، فعليكم الخيار: التعميم هنا ... لا يجدي ...
حتى عروبة ما قبل الإسلام : منها عروبة عنترة بن شداد، التي تعني الشجاعة والمروءة ، وعروبة السموأل (وهو يهودي) وتعني نصرة المظلوم والوفاء بالعهود، وعروبة حاتم طي الذي يمثل قمة الكرم والجود (كان ابنه (عدي) مسيحياً وأسلم ولم يثبت أنه كان كذلك)، كما أن هنالك عروبة الأصنام والتفاخر الفارغ بالأنساب وبالقوة الظالمة والعدوان على الآخرين والغزو، كما أن هنالك التبعية لفارس والروم في ذلك الوقت، التعميم عند الحديث عن العروبة هو محاولة فاشلة لتضييع الموضوع، فالعروبة وعاء يمكن أن تملأه بما تريد، وقد وصلت الوقاحة ببعضهم إلى التفاخر بالتطبيع كأحد مقتضيات العروبة.

سابعاً: المشكلة أكبر من كتاب واحتفالية وكلمات، المشكلة في الصورة التي يقدمها المسلمون جميعاً عن الإسلام، فلو أننا وجهنا انتقاداتنا اللاذعة إلى النموذج السعودي، فهل ثمة نموذج آخر نقدمه بديلاً جاهزاً؟، بكل ألم نقول: لا نملك هذا الخيار، ولقد حصلت تجارب «إسلامية» كثيرة لم تستطع أن تكون بديلاً عن كل الأنظمة التي تعتبر الإسلام ديناً رسمياً أو ترفع لواءه أو تزعم أنها تطبق شريعته.
نعم... لقد قدمت الجمهورية الإسلامية في إيران نموذجاً متقدماً في مواجهة السياسة الأميركية الظالمة وفي دعم المقاومة، قدمت تجربة متقدمة جداً للدور السياسي والريادي للإسلام، وسيبقى الخلاف المذهبي سبباً رئيسياً يمنع تعميم هذا النموذج الفريد، فقليلون ممن يعارضون إيران، صادقون في "خوفهم" من التشيّع ، أما الأكثرية الساحقة فإنما تعارض إيران لدورها الرائد في مواجهة الهيمنة الأميركية في المنطقة ودعمها للمقاومة.
وإن دور الإسلام بعد عبادة الله مباشرة هو مواجهة الطواغيت، وأي طاغوت أكبر من الأميركي والصهيوني؟
قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ... (36) (سورة النحل)... كما أن المسلمين يتفاخرون بأن ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ترافقت مع اهتزاز عرش كسرى وانشقاق عرش قيصر ... الخ.
المشكلة هنا إذاً ليست عند المسيحيين بل عند المسلمين الذين يريدون تقديم الإسلام والمسلمين كجزء مسالم مهادن، بل تابع للسياسة الأميركية في المنطقة على خلاف التعاليم الإسلامية.

ثامناً: هل الدور السعودي واحد؟ هل موقف الملك فيصل رحمه الله خلال حرب تشرين 1973 وقطع النفط عن أميركا وما تلا ذلك من أحداث وصولاً إلى ارتقائه شهيداً كما كان يتمنى، في 25 آذار 1975 ،هل هذا الدور، ودور الملك عبد الله خلال فترة السين – سين، والمصالحة بين سعد الحريري وبشار الأسد، كل ذلك يشبه أدواراً أخرى لعبها ملوك ومسؤولون سعوديون في مراحل مختلفة؟؟ .
لم يشهد تاريخ الحروب العبثية العربية والعلاقات البينيّة بين الدول العربية أبشع من هذا العدوان المستمر على اليمن منذ ست سنوات ونيف، كما لم تشهد الأروقة الدبلوماسية جريمة أبشع من جريمة اغتيال جمال الخاشقجي، أما عن دعم الفوضى والدمار في سوريا وما أُنفق عليه من أموال طائلة، فبحث يطول.
إذن ... رويداً رويداً ... الحديث عن العلاقة السعودية – اللبنانية وعن الدور السعودي بشكل عام يجب أن يستثني مرحلة (محمد بن سلمان) حيث إن دوره يختلف عن كل الأدوار السابقة، نعم ... البعض يعتبره إيجابياً بل تجرّأ البعض بأن يقول إن محمد بن سلمان يرتفع بالسعودية ارتفاعاً عمودياً، فيما نحن نرى مختلفاً جداً ولا يقارن بأي مرحلة من مراحل الحكم السعودي، حتى لو كنا معارضين طوال تلك الفترات كلها ...

أيها المحتفلون الكرام، هذا الكلام الذي نكتبه كردّة فعل سريعة نؤكد من خلاله أن أي حلف أو علاقة مع لبنان يجب أن يحترما دوره كرائد للمقاومة في أمتنا، كما يجب أن يريا الأمور بعينين مفتوحتيْن وذهن متوقّد، أما التبعية العمياء فلن توصلنا إلى أي مكان، ومن هنا، وحتى نجد البديل عن الواقع المؤلم نؤكد بعيداً عن كل الذي ذكرناه، أن هذا الحفل يضم كثيراً من أصحاب النوايا الطيبة، ولكن بالمقابل ثمة عدد أكبر يريد أن يرتكز على هذه الفكرة المميزة واللافتة: (علاقة بكركي بالسعودية) ليصل إلى أهداف مشبوهة مقلقة ومثيرة للريبة.
نبكي على حالنا وعلى لبناننا بحالته المزرية وما ترتكبه الطبقة السياسية، تماماً كما نحمّل المؤامرة الأميركية – الصهيونية الجزء الأكبر مما وصلنا إليه.

ختاماً، ما وظيفة هذا المقال؟ وهل نحن مضطرون لإثارة ما يصعب على الكثيرين فهمه؟ نعم إنه تعبير عن موقف، وإن الواقع المؤلم الذي لا نملك من خلاله أداة للإصلاح وللتغيير لا يمنعنا من أن نرى العالم الإسلامي ولبنان من منظور آخر، من منظور الانتصارات التاريخية في لبنان كما في غزة وسائر فلسطين، كما في سقوط المشروع الأميركي – الصهيوني في سوريا.
إن المستقبل سيكون أفضل بكثير من الواقع المرير الذي نعيشه بإذن الله ...
عندما قال جبران خليل جبران: «لكم لبنانكم ولي لبناني»، كان يعني كثيراً من مظاهر التخلف التي تعيق التقدم اللبناني، ولم تكن هنالك مقاومة، اليوم كثيرون يردّدون مع جبران هذه المقولة، كثيرون وأكثر من خمسين بالمئة من اللبنانيين لا يروْن لبنان دون المقاومة والكرامة والعزة التي اكتسبها من هذا الدور الرائد.

* رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المقاومة