الوجهة التي يأخذها مسار رفع الدعم في لبنان تؤكّد الفكرة القائلة بأنه ليس فقط اقتصاد مديونية، بل أيضاً اقتصاد تُدار الأزمة فيه لمصلحة الأقلّية، حتى حين تنضب الثروة، ولا تعود ثمّة استفادة فعلية من السيولة الباقية بالدولار. تركيز ما تبقّى من دولارات في يد الأقلّية هو ما يحكم سياسات مصرف لبنان حالياً، حيث تبدو تعميماته المتعلّقة بالسياسات النقدية الخاصّة بإطفاء الخسائر بالدولار، مكمِّلة للمنهجية التي يدير من خلالها عملية رفع الدعم التدريجي عن السلع الغذائية والمشتقّات النفطية. فنَقْلُ الخسائر من الدولار إلى الليرة عبر التعميمات النقدية هو بمثابة انتقال للثروة نفسها، أو ما تبقّى منها من حَمَلة الليرة إلى حَمَلة الدولار، عبر اعتماد معادلة حسابية تُوهِم من لا يحمل الدولار، أو من يحمله بنسخته اللبنانية، أنّ الربح بالليرة ليس خسارة، بدليل ما يمكن تعويضه من خسائر بالدولار عبر تعظيم الكتلة النقدية بالليرة، وفقاً للتعميم 158.
تعديل الدعم لمصلحة الأقلّية
الأمر نفسه تقريباً، ينطبق على السياسة الخاصّة برفع الدعم عن السلع، وخصوصاً عن المشتقّات النفطية. اعتماد سعر المنصة الخاصّ بالمصارف لتوريد البنزين، على أثر انقطاعه من السوق، لا يرفع سعر الصفيحة فحسب، بل يضع الدعم بعد تقليصه إلى الحدّ الأدنى في مسار مشابه لمسار التقنين في دفع الودائع، من خلال معادلة التعدّدية في أسعار الصرف. حين يرتفع سعر الصفيحة بفعل اعتماد السعر الجديد للتوريد يقلّ الطلب عليها من الفئات التي تحمل الليرة أو الدولار اللبناني(أو ما يسمّى باللولار)، ولأنّ هؤلاء هم أكثرية المستهلكين للبنزين فإنّ الحاجة إلى استيراد المزيد منه تنتفي، وبالتالي يتحقّق غرض مصرف لبنان بالحدّ من الطلب على الدولار، حتى بعد تخفيض سعر دعمه للبنزين. عادةً، وفي اقتصادات لا تتداخل فيها أزمة العرض والطلب بانهيار العملة أو المديونية العالية، تتسبب قلّة الطلب على مادّة أساسية بزيادة العرض، وهو ما يؤدّي فوراً إلى هبوط في الأسعار. ولكن هنا، تتداخل عوامل عديدة لتجعل من الفائض الذي تتسبَّب به قلّة الطلب، والذي يُفترَض أن يفيد الأكثرية من المستهلكين عالةً عليها. الأمر لا يتعلّق فقط باحتكار المادة تجارياً أو تخزينها حين يرتفع سعرها، بل بأصل العملية كلِّها، حيث تبدو سياسة التسعير الخاصّة بالتوريد بعد تحريك السعر مصمَّمة لخدمة الأقلّية نفسها التي استفادت من التعميمات الخاصّة بالودائع. الطلب على البنزين سيكون محصوراً، على الأرجح بالفئات القادرة على شراء الصفيحة بالسعر الجديد، وفضلاً عن كونها ليست أكثرية، لجهة أنّ حصولها على المادة سيصبح بمثابة امتياز على حساب باقي الفئات، فهي أيضاً صاحبة الاستثناء الأكبر الخاصّ بعدم الاقتطاع من الودائع وتهريبها. وهو ما يجعلها في الحالتين، ليس فقط الفئة المدلَّلة لدى النموذج بل أساساً الفئة التي يعمل هذا الأخير لحسابها.
حتى لو كان ثمّة فائض من البنزين أو سواه من المواد الأساسية نتيجة قلّة الطلب، فمعادلة العرض والطلب ستؤدّي إلى إعادة تركيز الثروة في يد الفئات الأوليغارشية


تغيير معادلة العرض والطلب
ثمّة أمرٌ آخر متعلّق ببنية العرض والطلب التي ستختلّ حُكماً لمصلحة هذه الفئات. استثناء هذه الأقلّية من إطفاء الخسائر بالدولار، سيجعلها الأكثر استحواذاً على ما تبقّى من الثروة الدولارية في البلاد. وفي ظلّ انهيار سعر الصرف الحالي فإنها ستكون أيضاً الحامل الأكبر للسيولة بالليرة حن يتعلّق الأمر بالطلب على السلع والخدمات والمشتقّات النفطية، ومنها البنزين. هذا يعني أنه إن كان ثمّة فائض من البنزين أو من سواه من المواد الأساسية نتيجة قلّة الطلب عليه من حملة الليرة أو الدولار اللبناني فسيذهب بأكمله لمصلحة الأقلّية، على اعتبار أنّ معادلة العرض والطلب ستدخل بدورها في لعبة إعادة تركيز الثروة في يد الفئات الأوليغارشية. إلى درجة أنه حتى إذا حصل انخفاض في الأسعار (وهو أمر مُستبعَد نظراً إلى الاختلال الحاصل في عملية العرض والطلب لمصلحة هؤلاء) فستستفيد وحدها منه لأنها حالياً الحامل الوحيد للثروة والسيولة بالدولار وبالليرة. عادةً ما تختلّ معادلات العرض والطلب نتيجةً لسيادة الاحتكار وقلّة المنافسة في السوق، أي حين يتعثّر الاقتصاد الرأسمالي بعض الشيء، ولكن هنا التعثّر ليس في آلية عمل السوق، بقدر ما هو في بنية الاقتصاد نفسه وفي آلية التراكم التي صُمِّمت منذ البداية لخدمة الأقلّية، سواءً حين كانت تستهلك أكثر أيام البحبوحة أو حين «تستهلك أقلّ» الآن في أوج الانهيار.

أُفُق الانهيار
في الحالتين فإنّ «النموّ» يحدث لمصلحة هذه الفئات، ولكن حين كانت الثروة مُتاحة، حتى لأصحاب الدخل الأقلّ، أي العاملين بأجر والمياومين و...الخ كان التفاوت محصوراً بالدخل نفسه أي «بالربح» الحاصل من النموذج وليس بالخسارة كما هي الحال الآن. حين يَنقُل النموذج التفاوت، بعد مضاعفته، سواءً في العمليات النقدية أو التجارية من الربح إلى الخسارة نكون إزاء استحالة حقيقية في الاستمرار ما لم يحصل انكسارٌ ما في المعادلة، أي في النظام الذي يدير من خلاله مصرف لبنان عملية الإفلاس. هذا لم يحدث إلى الآن، ليس بسبب استحالة الانكسار نفسه، أي خروج الأكثرية على نظام الإفلاس، بل لأنّ تلويح المصرف المركزي بما تبقّى من ربح لهؤلاء، سواءً في ما يتعلّق بالودائع أو الاستفادة من الدعم لا يزال يردعهم عن احتمال الخروج النهائي من النموذج. النظام يبدو مُحكَماً, لجهة سدّ آفاق هذه الاحتمالات جميعها، ولكن مع وصول التفاوت إلى حدّ امتلاك الأقلّية، ليس فقط كلّ ما تبقّى من الثروة، بل أيضاً سُبُل الإنفاق، بما في ذلك الخسارة نفسها لجهة الدعم وسواه، تنغلق أمام الأكثرية حتى إمكانية الحياة والبقاء، وبالتالي يصبح احتمال الانكسار ممكناً. على أنّ ذلك إذا حدث، لن يكون بوجهة محدّدة لأنّ الإدارة الأوليغارشية الحالية لم تترك مجالاً سوى لأمرين: إما استمرار النموذج كما هو، حتى وهو ينهار أو انفجاره من دون وجود بديل فعلي، بعد انحسار حراك 17 تشرين وإجهاض خطّة حكومة دياب لتوزيع الخسائر.
* كاتب سوري