عندما أنذر محمد الضيف «إسرائيل»، وحدد لها ساعة لتوقف الممارسات الوحشية في باحات الأقصى، وباب العامود، والعيسوية وسلوان، والشيخ جراح وواد الجوز، وجبل المكبر... التقط العرب أنفاسهم. هذا إعلان خطير يضع صدقية الشعب الفلسطيني على محكّ تاريخي. كل الذين خاضوا معارك شعبنا كافة ضد العدو، أو واكبوها، لم يمرّ عليهم إنذار من هذا النوع. [اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
التصريحات التي أدلى بها القادة حول المعارك، ودفاعاً عن شعبنا، كانت تصريحات تتحدى العدو، وتعبر عن استعداد قوات الثورة للتصدي له. لكن لم يحصل أن أنذر قائد القوات الثورية العدو المحتل بالويل إن هو لم ينفّذ ما تطلبه قيادة الثورة! وهذا ما كان. وقف فوري للاعتداءات الهمجية على أهل القدس، ومواقع العبادة المقدسة، وأحياء البلدة القديمة، وأحياء القدس خارج الأسوار العتيقة، وإلا... الأمر يتطلّب حسابات دقيقة.
لو لم يكن الضيف متأكداً من قدرة المقاومة على خوض المواجهة، والرد على العدوان بأفظع منه، وشل قوات العدو، لما خاض هذا الرهان! ولما ربطه بأمره شخصياً كقائد، وكرئيس أركان غرفة العمليات المشتركة. كان يعرف كم صاروخاً تمتلك فصائل المقاومة، وليس القسام فقط. وكان يعرف أنواعها ومدياتها وقوتها التفجيرية، وكان يعرف نسبة الصواريخ الدقيقة. وكذلك كان ملماً بأنواع الأسلحة الأخرى من مدفعية، ومضاد درع موجه، وبحري وغيره...
تخيّلنا محمد الضيف يدقق في خريطة عسكرية مكبرة لفلسطين، وليس فقط للقطاع. ورأينا علامات بارزة في العديد من المواقع، وقد رسم فوقها سهماً أحمر. ورأينا إلى جانب الخريطة ملفاً كبيراً يحتوي على أهم أسرار القيادة العسكرية، وهو مواقع إطلاق الصواريخ، وإلى جانب ذلك الملف كانت أوراق عديدة تحتوي كل واحدة منها على أمر إطلاق يحدّد نوع الصاروخ، وهدفه مع الإحداثيات والساعة والدقيقة والثانية لإطلاق صاروخ، أو خمسة، أو رزمة صواريخ... وفي أسفل كل ورقة تحتوي على أمر مدروس بدقة من كل النواحي، دونت ملاحظات للأخذ في الاعتبار حول تكتيك القصف، وذلك بعد أخذ مواقع القبة الحديدية بالحسبان. ما أجمل الدقة، والإتقان، والعلم، والإيمان! «إن الله يحب إذا قام أحدكم بعمل أن يتقنه».
كثيرون بيننا كانوا على ثقة من فعالية الصواريخ المقاومة وقدرتها. الجميع يعلم أن الصواريخ هي بالأساس صواريخ إيرانية، وأن «المشاغل الفنية الفلسطينية» قامت بتطوير المحركات لقطع مسافات، وبتطوير الهيكل لحمل عبوات تفجيرية أكبر. إذ أن مدى الصاروخ يزداد إذا خفت حمولته والعكس صحيح. لكن هذه الأبحاث التي تحول بعض نتائجها إلى التنفيذ العملي، وتم تجريبها بإطلاقها نحو البحر كانت تحتاج للتفكير بتكتيك يمكّنها من تجنب اعتراض القبة الحديدية، وتمت دراسة طريقة عمل القبة الحديدية، ونقاط الدخول إليها لتعطيل فاعليتها.
يتطلب الأمر معرفة عدد البطاريات، وعدد الصواريخ في كل بطارية، ومعرفة الفارق الزمني بين ظهور صاروخ المقاومة على الرادار، وإطلاق صاروخ القبة المعترض، وكم من الوقت يحتاج لبلوغ صاروخ المقاومة. يتطلب الأمر أيضاً معرفة كيفية تشغيل البطاريات: هل تطلق صواريخها دفعة واحدة أم على دفعات؟ وتبين أن بالإمكان تزريق صواريخ المقاومة، وإفشال القبة من خلال إرسال كمية منها لتستنزف ذخيرة بطارية القبة، ثم تطلق بقية الصواريخ من دون اعتراض. وحتى إذا كان على درب الصاروخ الفلسطيني أكثر من قبة، فإن عدد الصواريخ المنطلقة يمكن أن يستنزفها فاتحاً الطريق أمام باقي الصواريخ.
ما يُحاك الآن من خطة للفصل بين غزة والضفة، واعتبار القدس «إسرائيلية»، هو وسيلة العدو لخلخلة وحدة الشعب


لقد أثبتت المقاومة جدارة عسكرية عالية، وقدرة على ضرب الأهداف المعادية. إضافة إلى التخطيط لمدفعية الهاون الثقيلة والمتوسطة، وهي أنجح سلاح ضد أفراد جيش العدو، يستخدم عندما تلوح فرصة لضرب تجمع جنود أو آليات. وفي اللحظات الأخيرة قبل وقف إطلاق النار أدخلت المقاومة للمعركة سلاحاً أذهل العدو الذي ما زال يجترّ فجيعته الجديدة. لقد أرسلت المقاومة طائرة استطلاع مسيرة صورت مواقع جيش الاحتلال، ثم عادت إلى قواعدها سالمة. لقد سجّلت المقاومة هدفاً في هذا المجال الذي تعتبره «إسرائيل» حكراً عليها.
اليوم بعد إذلال العدو، ودفعه إلى طلب وقف المواجهة... ترتسم أسئلة مقلقة: ما يُحاك الآن من خطة للفصل بين غزّة والضفة، واعتبار القدس «إسرائيلية»، هو وسيلة العدو لخلخلة وحدة الشعب التي كرّسها «سيف القدس». هناك أيضاً مسألة إعمار غزة الذي سيتسلل عبره العدو من خلال الراعي الأميركي، لتحويله إلى مشروع تجسسي استراتيجي على كل مؤسسة في غزّة، عسكرية كانت أم مدنية. المطلوب اليوم التحكم ببنيتها التحتية، وأبراجها ومبانيها. كما أن العمل جار لإعادة الشرخ بين السلطة في رام الله، والثورة في غزة، والضفة، والقدس، والداخل الفلسطيني... مواجهة هذا المخطط تكون بالوعي والحزم في آن معاً.
البناء على إنجازات سيف القدس، يفترض أيضاً بناء أوثق الجسور مع الشعوب العربية. وخوض المعركة الدبلوماسية والحقوقية. مثلاً عبر تحريك جبهة المحامين العرب، والنقابات العربية، لملاحقة مجرمي الحرب، والتصدي ليس فقط لقيادات العدو، بل لإدارة بايدن التي تحمي هذا الكيان بكل الوسائل. إن «بشاعة أميركا»، ظهرت بوضوح أكبر من خلال بايدن. الرئيس الأميركي يعتبر غارات إسرائيل الوحشية وتدمير المنازل على رؤوس العائلات، وقتل الأطفال والنساء، وتدمير المستشفيات، حقاً شرعيّاً لـ «إسرائيل» في الدفاع عن نفسها. أما وقوف المقاومة في وجه الهمجية، والعنصرية، والتطهير العرقي فليس إلا «أعمالاً إرهابية».
ثم، أليس من المنطقي أن نستغرب هذا الاندفاع الأميركي لإعادة إعمار غزّة، وتوجه بايدن إلى الأمم المتحدة مطالباً التعاون للإسراع بتأمين مساعدة سريعة تسبق التمويل الكامل. لكن بايدن حدد التخوم، فقد استبعد «حماس» من عملية إعادة الإعمار كونه يعتبرها «تنظيماً إرهابياً». وهو لا يعترف إلا بالرئيس محمود عباس! وهذا يعني إخضاع عملية إعادة البناء للولايات المتحدة التي ستحرص على القيام بذلك عبر شركات تعمل بيد واحدة مع أجهزة المخابرات. يريدون بناء غزّة من جديد تحت الأرض وفوق الأرض بما يتناسب مع مصلحة «إسرائيل»... بحيث يصبح استخدام أي مبنى أو مكان من قبل المقاومة معروفاً ومراقباً... وبحيث يتسنى للعدو أن يعرف مواقع كل مؤسسة، وتركيبتها الخرسانية.
لكن «نصر غزّة» ضربة قاسية لسياسات التطبيع، إذ يحاصر أنظمة الخيانة العربية ويفضحها ويحرجها أمام شعوبها وأمام التاريخ. وكذلك، فإن زمن الوصاية الأميركية ولّى في العالم العربي بشكل عام، وفي أرض فلسطين التي تحرق الغزاة، على وجه الخصوص. بعد إنجازات «سيف القدس» باتت العودة إلى الوراء مسألة في غاية الصعوبة!
*كاتب وسياسي فلسطيني.