ورد في فصل من مقدمة ابن خلدون منذ ستة قرون ونيِّف قوله إن «أكثر ما يوجد الرفق في الغُفّل والمُتغفِّل وأقل ما يكون في التيقظ لأنه يُكلِّف الرعية فوق طاقتهم لنفوذ نظره في ما وراء مداركهم واطّلاعه على عواقب الأمور في مبادئها بالمعية فيهلكون...» (ابن خلدون، المقدمة، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، لا تحديد لسنة الإصدار، ص. 189 وص. 304). فأي رفق ينتظره معوزو اليوم المتغفِّلون في لبنان من شُطّار السياسة وإعلامييهم القادرين على ترويج تعفُّف أولياء نعمهم عبر التغريد في الإذاعات والصحف. ولا يغيبون لا عن مباركة الحكومة لدعم الخزينة لمعظم حاجات الأغنياء مقروناً بدعم حاجات صغار الأجراء ممن أُوقفت أغلب مداخيلهم، ولا عن إغفال حكومات التحاصص لإغراق الإدارات بتعيين زبائنهم أو دونما تدقيق في ترقيهم وبينهم خاصة من يشغلون مواقع في القضاء والتعليم العالي إغفالاً قد يُطيح بالمبادئ والخبرات التي يُفاخر أركان الوزارات باستقائها من دول المواطنة في الجمهوريات الأوروبية وبتلاؤمها مع مقاصد التحاصص في «الميثاق». هذا الميثاق الذي صيغ في «مؤتمر الطائف» الذي انعقد عام 1989 لإنهاء الحرب الأهلية وشارك في عقده المملكة السعودية وسوريا بحضور النواب اللبنانيين ممن يظل يصح لدى أغلبهم « تهديد» ابن خلدون منذ أكثر من ستة قرون بأن «دولتهم تفسد وإن دام أمرهم ... فسُدت العصبية لما قلناه...» (ابن خلدون، المقدمة). ‬وهذا ما حصل وظل يحصل في انتقال اللبنانيين من غلبة العصبيات في حكم ما قبل الاستقلال إلى حكم في ظل جمهورية تتوافق عليه في بناء الدولة. وظل هذا التهديد يتجدّد حتى أواسط السبعينيات من القرن الماضي وحتى حصول الارتفاع المُضاعف لأسعار نفط الخليج من 3 إلى 4 دولارات إلى حوالى 15 دولاراً إلى أن حمل هذا الارتفاع معه توسعاً في عوائده على مداخيل إمارات الخليج ودوله التي تحولت إلى التخلي عن وساطات الأسواق اللبنانية التجارية والخدماتية وحتى السياحية. وانتهى هذا التخلي الذي لم يُعوض عنه إنفاق منظمة التحرير الفلسطينية التي تدخّلت في حكم لبنان بعد نجاحها في التفريق بين زعامات الطوائف والقوى السياسية وبفعل عسكرة وجودها وعلاقاتها التي قادت إلى حرب أهلية استمرت 15 عاماً وأسهمت هذه الحرب في تدهور الاستثمارات في ما سبق وشهد نمواً في التصنيع المتوسط والخفيف وفي تدهور فرص تشغيل خرّيجي الجامعات العريقة الأجنبية واللبنانية المقصودة إقليمياً. ولم يبق أمام خريجيها سوى الهجرات إلى الخليج وأوروبا والولايات المتحدة وكندا وسواها. ‬
ولم يبق في ظل هذه التدهورات أمام الحريصين لتجديد طاقات الكيان وأسواقه سوى التحول الصعب عن مفاهيم الشطارة المتوارثة لدى الإدارة السياسية باتجاه الخيارات الصعبة للإنتاج المُنافس في الأسواق المفتوحة في المشرق وخارجه. وهو تحول يفترض اعتماد سياسة التخطيط لسنوات تنتظم بها مراحل إعادة الإعمار في ظل تشريع تتعهّده حكومات تنتج لرعاياها بالشراكة مع جامعات ونقابات وأحزاب ترعى ضرورات التحول خدمة لرعاية الإنتاج بدل الريوع المُفسدة. سياسة تتكامل من خلال اعتمادها ما سبق لابن خلدون منذ أكثر منذ ستة قرون، أن اعتمده من مبادئ جاء في طليعتها مبدأ «السياسة العقلانية» التي قال: «إنها توجب انقيادهم إليها ما يتوقعونه من ثواب الحاكم بعد معرفته بمصالحهم». وهنا يُلمِّح ابن خلدون قبل ستة قرون ونيِّف إلى «ضرورة معرفة المصالح» أو ما يُسمى اليوم بعلم الإحصاء الذي يقوم عليه تخطيط وبرمجة التنفيذ رابطاً ضرورة مرضاة الله مع ضرورة نجاة العباد في الآخرة. ولم يكتف بضرورات الإحصاء والتنفيذ مرضاة لله ونجاة العباد وحسب، وهي ضرورات يوفرها أهل المصالح والإحصائيون والمنفذون مرضاة لله بل وقد ذكّر منذ ستة قرون بمواقع وأدوار وأخلاق أفراد المجتمع المعنيين بما يُسميه القوانين والمُراعاة في ما يسميه «السياسة المدنية» والتي يتحفّظ الكثير من زعامات الطوائف من تسميتها حتى لا تتعارض مع ما يقوم عليها فرض مرشحي كتلهم على أشواك عصبياتهم. وإذا كان ابن خلدون قد ركّز على أهمية السياسة العقلية إلاّ أنه رأى في اعتمادها وجهاً ثانياً تُراعى فيه مصلحة السلطان و«يستقيم لـه المُلك مع القهر والاستطالة وتكون المصالح العامة في هذه تتبعاً» «ملك تارةً يكون حكمه مستنداً إلى شرع منزل من عند الله يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب العقاب... وتارة إلى سياسة عقلية ومدنية...». حكم رأى ابن خلدون أنه من ضرورات العمران البشري القائم على عقلانية وإيمان أهل البلاد، ممن تفرعت بهم السُّبل فعرضوا بلادهم لاحتلال الإمبراطورية العثمانية في مطلع القرن السادس عشر على امتداد أربعة قرون انتقلت بعد عام 1918 إلى ما يُسمى الانتداب الفرنسي وخرج منه عام 1943 إلى استقلال عصبيات لا يستقر توافقها على تقاسم الحكم إلا برعايات خارجية لزعاماتها المتوارثة. عصبيات عاجزة عن التعامل مع السياسات والخيارات الاستقلالية الصعبة التي تُمكِّن من التعامل مع قوانين الأسواق الدولية تفاعلاً يفرض النجاح فيه تجاوز أسواق الريوع والانتقال إلى أسواق الإنتاج القادرة على المنافسة إقليمياً وحتى دولياً.‬

* باحث في علم الاجتماع.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا