يجهد الطامحون إلى دور روسي متقدّم في المنطقة في محاولاتهم لتظهير حسنات هذا الدور في مواجهة النفوذ الأميركي المزمن والمتمكن من تفاصيل الوقائع السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية على تعقيداتها الطائفية والمذهبية والقبلية والعشائرية. لذلك، فإن فهم حيثيات هذا الدور يستوجب الابتعاد عن الدخول في توصيف وتحليل الظروف الموضوعية التي أنتجتها التحولات السياسية في الاتحاد السوفياتي السابق ومعه كتلة الدول الاشتراكية، بدءاً من زمن «البيروسترويكا»، مروراً بانفراط عقد هذا الاتحاد، ومعه الكتلة أيضاً، وتشرذمهما إلى دول وكيانات طائفية ومذهبية، وصولاً الى رسوّ هذه التحولات على توسع أكبر للنفوذ الغربي الأميركي ــــ الأوروبي في قلب الكتلة الاشتراكية السابقة وعلى أبواب روسيا التاريخية المستعادة. ذلك أن ما يمكن تسميته بزمن «فلاديمير بوتين» في تاريخ روسيا الحديثة بُنيَ على قطيعة سياسية مقصودة مع الماضي بهدف التحلل من الالتزامات السوفياتية السابقة على صعيد العلاقات مع الدول والشعوب إبان الحرب الباردة.
لذلك كان الهدف الأول والأهم لبوتين وفريقه، ولا يزال، إعادة بناء المقوّمات الذاتيّة للدولة المنحلّة، إنما على أسس انفتاحية تمنع النفاذ الى داخل المجتمع الروسي من بوابة محاولات التشبه بالمجتمعات الغربية، وهو أمرٌ يلمسه أي وافد إلى روسيا.
ولذلك أيضاً كانت السياسات الخارجية الروسية دفاعية، وفي الكثير من الحالات متماشية مع المسارات التي كانت تقودها الولايات المتحدة الأميركية، ومعها حلفاؤها في مجلس الأمن. والشواهد كثيرة على ذلك، ومنها تمرير موضوع العقوبات على إيران سابقاً، والموقف من حصار العراق، والتخلي عن ليبيا، في مرحلة موجة ما سُمي «الربيع العربي»، إلخ.
التحول الأول والوحيد في مسار هذه السياسات كان القرار الاستراتيجي الذي اتخذته القيادة الروسية في الدخول في الحرب على الإرهاب التكفيري في سوريا، وهو تحوّل كانت دونه محاذير كثيرة لولا التشجيع الإيراني المباشر.
تقول مصادر إقليمية مطّلعة إن اللقاء الأول الذي جرى بين الرئيس بوتين والشهيد القائد قاسم سليماني، كان عبارة عن مراجعة تقدم بها سليماني حول احتمالات توزع النفوذ في المنطقة، انطلاقاً من التوازنات التي ستفرضها نتائج المواجهات الميدانية في سوريا. لم يكن سهلاً إقناع صاحب القرار الأوحد في موسكو، وهو الحاسوب الدقيق لتداعيات الإقدام على أي خطوة عسكرية في رمال المنطقة المتحركة، وخصوصاً أن هاجسه الضاغط، كان ولا يزال المحيط «الإسلامي السُنّي» وما يختزنه من حركات أصولية وتكفيرية.
بناءً على ذلك، كان بوتين واضحاً بأن خوض هذه المواجهات للحفاظ على الدولة السورية، سيحتمل تفسيرات أخرى تتعلق بانحيازه الى جانب إيران وحزب الله والمنظومة الإسلامية «الشيعية» التي تقاتل في سوريا. وبالتالي، فإن «روسيا ستعمل على تعزيز علاقاتها مع نظامَي السُنّية الحاكمة في السعودية وتركيا، وأن على إيران أن تتفهم مغزى هذه العلاقات».
بالنسبة إلى إيران، كان الأمر بديهياً، وخصوصاً أنها لم تقطع حبل مصلحة مع تركيا بعد تفجر علاقاتها مع السعودية نتيجة العدوان على اليمن.
لم تكن تلك المعادلة الدافع الوحيد لدخول روسيا أتون العدوان على سوريا، بل تعدّاها الأمر الى تحقيق مصلحتين أخريين: الأولى، النفاذ الى ما يسمى منطقة الشرق الأوسط من بوابة الحليف «التقليدي» تاريخياً. والثانية، الاستفادة من الغياب السياسي الأميركي نتيجة اعتماد نهجَي التوحّش والتأرجح في مقاربة إدارة دونالد ترامب السابقة لأحداث هذه المنطقة.
اليوم، وبعد الخمود القسري لنار الحرب في سوريا، عاد الروسي ليقف على أبواب توازناتها، مستكشفاً إمكانية الاستثمار السياسي فيها، بناءً على التحالفات التي صاغها خلال مرحلة قتاله في سوريا، آخذاً بعين الاعتبار المتغيّرات التي سيفرضها الحضور الأميركي «الديموقراطي» الجديد الذي يفقه جيداً حدود تلك التوازنات.
انطلاقاً من ذلك، كانت الدعوة التي وجّهتها القيادة الروسية لحزب الله لزيارة موسكو، والتي كانت محطة أساسية في الانتقال بين الطرفين، من العلاقة الميدانية العسكرية الى محاولة توحيد القراءات السياسية للمنطقة بما يتجاوز بكثير الساحة اللبنانية.
لذلك كانت سوريا على رأس أجندة المباحثات، وخصوصاً ما يتعلّق فيها من استمرار الاعتداءات الإسرائيلية، الى جانب مستقبل الوجود الأميركي هناك. كذلك شملت تلك المباحثات أوضاع اليمن والعراق وفلسطين المحتلة وحتى السعودية.
وهو سياق لا يتصل مباشرة بالزيارات السابقة، أو تلك التي ستلحق لمسؤولين لبنانيين إلى موسكو. ذلك أن عقلانية حزب الله في مقاربة الموضوع الحكومي اللبناني المتعثر، كانت موضع ثناء القيادة الروسية وتفهمها. مع الإشارة الى أن موسكو لا تطرح مبادرة ولا تمتلك رؤية محددة حول كيفية تجاوز هذا التعثر. وبالتالي، فإن اعتقاد بعض المسؤولين اللبنانيين بإمكانية استغلال هذه الزيارات لبيع أوهام للشعب اللبناني كسباً للوقت، هو اعتقاد في غير محله، بل يمكن القول إنه مخاطرة ستؤدي الى تضييق الخناق الدولي أكثر فأكثر على رقاب المُعطلين.
لكن السؤال الأهم يبقى: ماذا لو عادت واشنطن لترمي بثقلها السياسي والاقتصادي والعسكري في المنطقة، قبل اكتمال تجميع موسكو لأوراقها؟ هذا إذا تجاوزت تردّدها الدائم في الإقدام على خطوات شجاعة تنقل من خلالها معركة حصارها أوروبياً الى ملعب آخر.

*المدير العام السابق لوزارة الإعلام

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا