لماذا التحالف الاجتماعي؟ لأنّه محاولة لاختراق جدار الاصطفافات الانغلاقية سواء كانت طائفية، حزبية تقليدية أو حالات شللية «مدنية». كما أنّه محاولة تستهدف طرح الحلول الأكثر استجابة لمصالح أوسع فئات الشعب اللبناني بهدف الخروج من نفق أزمة النظام السياسي - الاقتصادي - المالي - والمؤسساتي الذي أنتج الأزمة المعمّمة التي تعصف بلبنان وبأوسع فئات شعبه.
- كيف ترتسم حظوظ هذا الاختراق في مواجهة الاصطفافات الصلبة، الطائفية الهوى والهوُية بالأخص؟ إنّها ترتسم من خلال طرح نقديّ هادف إلى تلمس وجهة نفاذ من النظام المنهار وصولاً إلى نظام مدني ديموقراطي ركيزته العدالة الاجتماعية. أمّا قاعدته فتضمّ أوسع تكتّل شعبي خارج الاصطفافات العمودية من كل الأنواع سعياً لبناء هوية وطنية جامعة وغير تمييزية.
pow.photos

- هل يساعد ظرف الأزمة المعمّمة للنظام بخروقات بنيوية في صلبه؟ الجواب، مبدئياً، هو بالإيجاب. إذ إن أزمة النظام الحالية لم تعُد تطال فقط طريقة اشتغاله أو انفصامه البنيوي بين بعده الطائفي من جهة، أو ارتكازه فقط إلى نهب الموارد العمومية والخاصة (الودائع المصرفية لصغار المودعين) من قِبل قلة تتموضع في صلب النظام المالي - الريعي من جهة أخرى. إنّه نظام مأزوم بكل مكوّناته ولم يعُد بإمكانه الاستمرار إلا بتعظيم الأزمة عن طريق زرع الفتن والانصياع إلى مشيئة الخارج الإقليمي منه والدولي.
هل يمكن للقوى الشعبية، بمكوّناتها المختلفة النقابية والمهنية والطلابية والنسائية وكل من يعتاش من أجره أو عمله ومهنته ووظيفته وزرعه كما المعطّلين من العمل وأصحاب الحاجات الخاصة، أن تتجاوز انقساماتها العمودية التي عمل النظام تاريخياً على تعميقها بين اللبنانيات واللبنانيين؟
الجواب هو نعم. فالأزمة المعمّمة الحالية برهنت بشكل قاطع أنّ أصحاب النظام، من ممثلي الطوائف والرأسمال المصرفي والمالي - الريعي والمحتكرين وقوى «الأمر الواقع»، الذين مارسوا أوسع عملية نهب للموارد العمومية وانتهوا إلى وضع يدهم على موارد المودعين الصغار، لا خيار لديهم سوى ممانعة أي حلّ يُلزمهم بتسديد كلفة ما تسببوا به مالياً وسياسياً وجرمياً. ولذلك فهم يمانعون بطرق شتى يتمثّل أبرزها بافتعال استقطاب طوائفي ومذهبي ومناطقي، فينتهي الأمر إلى «انفجار» يصبح هو «الحدث». وبدل تحديد المسؤوليات وإكراه المنظومة على تسديد الحساب يصبح «إنقاذ» البلد، وليس النظام فقط، هو المسألة الملّحة.
- إذن، ظرف الأزمة المعممة ينطوي على أخطر الاحتمالات التي سيحاول النظام الطوائفي - الريعي استخدامها بغية التملّص من دفع ثمن فعلة أصحابه المدمرة، بحيث يصبح الثمن الذي سيكون على «غير المحظيين» دفعه مضاعفاً. وهكذا يرتسم أفق صريح الوضوح بالنسبة إلى اللبنانيات واللبنانيين ممن يتوقون إلى وطن يُعاد تشكيل النظام فيه على قاعدة نظام سياسي - مدني موّحد يواكبه نظام اقتصادي منتج ونظام تعليمي يرتكز إلى التعليم العام في كل مراحله. نظام تعليمي يكون داخلي الوجهة أولاً ومنفتحاً على التعامل مع الحاجات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمهنية والتقنية والفنية. كما يكون الوصول إليه بمتناول كل من يملك المؤهّل الضروري للتكوين العلمي والمهني. كل ما تقدم تختزله عبارة تتمثل في سيادة الحقوق المدنية والحق بالعمل والخبز مع الكرامة وبعدالة اجتماعية لا تستثني أي مواطن من شمولها. والطريق إلى ذلك كله صريح وواضح. إذ هي تتمثل في إقصاء من ارتكب الجريمة بحق الوطن واللبنانيات واللبنانيين. فيحاكم ويجازى على فعلته. هذا من جهة. وفي انتخاب ممثلات وممثلين للشعب من طريق قانون يعتمد النسبية على قاعدة لبنان دائرة واحدة قوامها المواطنة المدنية، من جهة ثانية.
- إنّ ما تقدم يُبرز أمرين. الأول، أنّ ثمة أزمة معممة يسأل عنها ويحاسب «زعماء» الطوائف وشركاؤهم الممسكون بالمال والاقتصاد. والأدلة على جرائم هؤلاء ساطعة ومؤكدة. ومع ذلك لم تجد المؤسسة الموكل إليها السهر على تطبيق القانون وحماية المواطنات والمواطنين الذين تعرضوا للإفقار كما للسرقة الموصوفة، أي القضاء المختص، نفسها معنية بإنزال أشدّ العقوبات بالمرتكبين، ما عدا استثناءات تثبت القاعدة. فبقيت محاسبة هؤلاء واسترجاع المنهوب من المال العام وأملاك الدولة تُقيم في الأدراج المقفلة بانتظار حركة شعبية حاسمة في مواقفها ومطالبها.
- الثاني، إنّ كل مؤسسات هذا النظام اللاديموقراطي والفاسد تستدعي إعادة التكوين خارج العلاقات الزبائنية. كما إنّها مؤسسات لا يمكن أن تعمل خارج الرقابة الديموقراطية التي يؤمّنها قانون ملائم وشفافية تسمح للبنانيات واللبنانيين بمساءلتها عند الضرورة بالطرق القانونية الملائمة كما بالضغط الشعبي المباشر.

التحالف الاجتماعي وشروط نجاحه في زمن الاستقطابات العمودية والعنفية:
- الأزمة الاقتصادية - المالية وحدود تأثيرها في «إعادة» تشكيل الوعي «الجماهيري». حتى الآن برزت نتيجتان: الأولى، إعراض الشعب عن التجاوب مع الجو التعبوي الطائفي في المناطق اللبنانية عموماً. الثانية، التفكك التدريجي للنظام، وفي معيته تفكك الحكم في أبرز مواقعه بحيث أصبحت آلية القرار فيه مرهونة بمحدّدات لا تتصل بالمسؤولية الرسمية (الوطنية) بل بتمثيل متحزّب أو طائفي، كما أظهرته مؤخراً مواقف بعض الوزراء ومسؤولين في الدولة والقطاع العام.
- هل يسمح ذلك بالاستنتاج بأنّ أزمة النظام الطوائفي المعمّمة تحيل إلى تبلور أوضح في إمكانية الاستجابة لتجربة مدنية و«اجتماعية» مواطنية يمثّلها «التحالف الاجتماعي»؟
- هل يقود إطباق الأزمة المعيشية والبطالة المعممة إلى بروز تيارات أميَل للجذرية تخرج عن الاصطفافات الطائفية؟
- أم أن كثافة اللحظة «الإيديولوجية» ستُبقي الطائفة في مركز الجاذبية الأهم سياسياً في المدى المنظور؟
- سيساهم تفاقم أزمة النظام المالية - النقدية والسياسية في عملية التفكيك الإيديولوجية. ولكن عدم توفر طرح أميل ما يكون إلى التكامل برنامجياً يحلّل أزمة النظام العامة ويطرح، في الآن عينه، حلاً ديموقراطياً تغييرياً عماده الشرط المواطني المدني في التشريع وفي قانون للانتخابات يعتمد لبنان دائرة انتخابية واحدة على قاعدة النسبية من جهة، وفي البدء بتحقيق العدالة الاجتماعية بالاستناد إلى إعادة توزيع الثروة من خلال الضريبة التصاعدية وباستعادة المال المنهوب وبتعميم الحماية الاجتماعية سيصعّب مهمة «التحالف الاجتماعي للتغيير».

ما هي عدة التحالف كي يتمكن من «الاختراق» والانتقال إلى إسماع الصوت بفعالية واستعادة حالة جماهيرية فاعلة وحازمة؟
ثمة بعض المؤشرات السلبية التي يلزمنا التوقف عندها:
- المسار الأفقي وحدوده: التغيير بصفته قضية مؤجلة (القصد من الاصطفافات الطائفية قطع الطريق على أي محاولة لليسار أو التيارات العقلانية والإصلاحية لخرق أبراج الطوائف).
-الوزن الإيديولوجي للتحالف الذي لا يمتاز بالصلابة سيكون عليه أن يقترح حلولاً لأزمة النظام من باب الإصلاح. أي إصلاح يمكن اقتراحه؟
- الوزن السياسي للتحالف تحمله مبادرات تلاقي الصدى المرجو جماهيرياً من حيث المبدأ. هذا يعني أن مكوّناته عليها أن تكون على السوية نفسها، بعد بنائها بتأنٍّ، بحيث لا تكون ظرفية. هل ثمة مؤشرات على تحقق هذه الإمكانية؟
- الوزن الطبقي (الاقتصادي والمالي) للقوى المسيطرة سيبقى متوقفاً على طبيعة الحلول المطروحة والقدرة على إقناع الطبقات والشرائح الأكثر معاناة من الأزمة المعممة بفعاليتها، وعلى اقتناعها بالقوى التي تقترح تنفيذها. ما هي الطريق إلى ذلك؟
- هكذا يمكن طرح البديل من زاوية برنامجية بحيث تساعد مجموعة ناشطات وناشطي الانتفاضة وممثلي القوى والأحزاب غير المرتبطة بالنظام الحالي والنقابات والمنظمات المدنية والمهنية وغيرها على إعداد برنامج للإصلاح يحفّز أوسع فئات المجتمع على المشاركة بتحرك هادف وحاسم.
- لكن الأمر الأساس يبقى متوقفاً على طبيعة البرنامج الشامل المفصّل الذي يمكن للتحالف أن يطرحه، من جهة. وعلى القدرة التعبوية المحفزة للمشاركة في أنشطة «التحالف» وفي صيرورته قوة شعبية مقررة من جهة ثانية.
- ومن نافل القول إنّ الاستخدام المكّثف للندوات المفتوحة (سواء من طريق الإنترنت أو عبر التفاعل المباشر عندما تسمح الفرصة بذلك، ناهيك عن الكتابة المكثفة بالصحافة، كما في المقابلات التلفزيونية والراديو، والمواقع الإلكترونية، إلخ)، بالإضافة إلى أشكال التواصل والتعبئة المختلفة، سيمهّد الطريق أمام تعاظم قدرات «التحالف».

أي نظام نواجه؟ كيف يتمكن هذا النظام من «الصمود»؟ وكيف يمكن تغييره؟
هل ما زال النظام «الرأسمالي» في لبنان قابلاً «للإصلاح» من خلال «الترشيد» المتضمن في مبادرة «التحالف الاجتماعي»؟
السؤال الأهمّ: هل يسمح انهيار النموذج اللبناني من رأسمالية الريع والمصرف والاحتكار، الذي لم تساءل كلفته بدقة متكاملة حتى الآن بالزخم والتعميم الضروريين، بتفادي كلفة استمراره على حساب الأكثر هشاشة عملاً وأجراً والأضعف لجهة الحماية الاجتماعية والشرط المواطني؟
وفي المقابل، هل ستتمكن الرأسمالية اللبنانية من محاولة تجديد سيطرتها على الحقل الاقتصادي عموماً، بالإضافة إلى الحقلين الاجتماعي (نضع جانباً الآن استغلالها لقوة العمل الضرورية لاشتغالها وتجديدها. سنعود لذلك لاحقاً) والإيديولوجي؟
- إنّها ستحاول ذلك من خلال التشبث بتأكيد «استحالة» إمكانية تغيير النموذج الرأسمالي «اللبناني»، والسلطة المنبثقة منه من جهة، وباستحالة استبدال الاقتصاد الريعي ممثلاً بالقطاعين المصرفي والعقاري بالأخص، اللذين شكّلا عموده الفقري، لأنّ ليس ثمة قدرة على إنتاج بديل «ملائم للبنان» أصلح منه، من ناحية آخرى. فالمصرف أتى، عبر الفوائد المرتفعة، بالودائع التي تعززت، بدورها، بالنهب المنظم والمعمم للموارد العمومية، بحيث آلت عملية «التراكم» الرئيسة هذه إلى صنع «المعجزة اللبنانية» التي لم تنأَ عن إدخال الخدمات الترفيهية والسياحية بالإضافة إلى الاستيراد والتوزيع في كنفها.
- ولأن ثمة «استحالة» في تغيير النموذج الرأسمالي «اللبناني» بالنسبة إلى النظام الرأسمالي - الطوائفي، فإنّ الآلية نفسها التي آلت مفاعيلها إلى انفجار الأزمة «الحالية» ستؤول إلى عودة الروح إلى النموذج هذا بمجرد تأمين المساعدات (من أين؟)، من جهة، والقروض (دون تدقيق جنائي بحيثية المال المنهوب)، من جهة ثانية. وهكذا، على قاعدة «أنت الخصمُ والحكمُ» فإنّ النظام «المعجزة» سيعود إلى سابق عهده، لا بل سيفلح في حقوله المتعددة أكثر فأكثر. هذا «الحنين» إلى ماضي النظام، وهو ليس محصوراً بأصحابه فقط، لم يصل إلى لحظة الحقيقة بعد، أو هو وصل إليها فعلاً واستوعب نتائجها. لكنّ عجزه عن الخروج من النفق لم يترك له سوى الرهان على الماضي! فهو يدرك تماماً أنّ التقسيم الدولي الرأسمالي للعمل، في وجهه الإقليمي بالأخص، لم يعد بحاجة له، لا مالياً ولا خدمياً ولا حتى معبر طريق. ومع ذلك فهو يعمل طبقاً للقول السائر: في الإعادة إفادة!
- تبقى سيطرة النظام اجتماعياً، وهي ناشئة، في ظرف الأزمة المعمم الآن، عن سببين بالأقل: أولا، هشاشة وضع العمل - صرف متواصل للعمال والأجراء والمستخدمين - وإفقار معمم اعتاد النظام أن «يوفر» لمن يقع تحت وطأته، أطراً لا نظامية: مساعدات من خلال برامج بعضها لا صلة للحكومة به (حزبي طوائفي و/أو مساعدات ظرفية من منظمات دولية أو إقليمية) أو سيطرة عليه من جهة، ومساعدات من مصادر عائلية (التحويلات من الخارج بالأخص)، من جهة أخرى.
- افتقاد القدرة لدى العديد من العمال والمستخدمين والأجراء والموظفين عن تعرية عملية الاستغلال المضاعف (انهيار القيمة الشرائية للعملة الوطنية مقابل ثبات الأجور والرواتب لمن ما زال يعمل. توسع شرط الفقر المدقع لمن فقد عمله أو كان وما زال يعيش شرط الهشاشة الاجتماعي، إلخ) في ظل سيطرة الاستقطابات العمودية التي تسهّل ربط «الأزمة» بموقع أو آخر من مواقع القرار السلطوي وليس بطبيعة النظام السياسي-الطوائفي وآليات التراكم «غير النظامية» (نهب المال العام ومصادرة الأملاك العمومية) والنظامية (المصرف بالأخص) معاً.

هل تجدد الرأسمالية في لبنان تقوم به فقط «الطبقة» الرأسمالية السائدة أم إن ثمة نظاماً متكاملاً، على الأصعدة جميعها، يؤمن تجديدها حتى في أسوأ لحظاتها، كما هي الحال الآن؟
وبمعنى آخر، كيف يتمكن نظام يعمم الفقر والفاقة بالنسبة إلى الأكثرية من اللبنانيين، أي الأكثر تهميشاً من الفئات الشعبية - التي تعيش الفقر بصفته شرطاً بنيوياً ينطوي على استدامة من جهة، والفئات التي انضافت إليها في معية تفاقم أزمة النظام وافتقاد العمل والدخل الناتج عنه من جهة أخرى - من ضمان عدم المطالبة بتغييره بعد كل تهافته البيّن والصريح ناهيك عن جرائمه المتراكمة والمعممة؟
- إيديولوجياً، يمكن للانقسامات العمودية أن تفسر ذلك جزئياً.
- أمّا سياسياً فإنّ لحظة الفرز لم تحصل بعد في سياق المحاولة الدائبة لإعطاء الأزمة بعداً طائفياً من جهة، وبسبب بطء إيصال الخطاب الجذري، التفكيكي والتغييري، والممارسة التي تحمله وتعممه إلى أوسع الفئات المتضررة.
- إلى ذلك، ثمة البعد التنظيمي الغائب، إلى حدٍّ كبير، نقابياً وجبهوياً (أو تحالفياً).

المطالب: طبيعتها وحدودها
ما هو سقف المطالب التي يسمح بها الوضع الراهن من زاوية الحركة التحالفية (التحالف الاجتماعي)؟ هل هي مطالب ذات طابع دفاعي فقط (الدفاع عن القوة الشرائية، عن
استمرار أنظمة الحماية الاجتماعية؟ «الحدّ» من التسريح المتمادي من العمل؟ إلخ، رفع يد المصارف عن أموال المودعين الصغار)؟
أمّ إنّ ثمة ما يسمح بتجاوز هذا السقف إلى مساءلة مشروعية استمرار «النموذج» ذاته؟
فالنتائج الكارثية التي رتّبها «النموذج» على الأغلبية الواسعة من اللبنانيات واللبنانيين - بالإضافة إلى المقيمين فيه من لاجئين فلسطينيين وسوريين بالأخص- في موازاة القبول «العام» بتركّز الثروات الذي أمّنه نهب المال العام والتلاعب بمال المودعين واحتكار استيراد المواد الاستراتيجية، الصحية (الأدوية والمعدات الصحية) والغذائية وغيرها ملموسة تماماً. كما أنّ التحكم بأسعار مجموع هذه المواد من خلال تقنين توزيعها واللعب على «قانون الندرة» الذي يصطنعه «أصحاب النموذج» بتغطية من السلطة الرسمية ومصرف لبنان (المسؤول عن آلية دعم هؤلاء المستوردين)، هما من باب تحصيل حاصل في نهاية المطاف. والسؤال إذن: هل يمكن لكل هذه النتائج أن تقود إلى مسار أكثر تجذراً؟
يسمح تفاعل نتائج «الأزمة» اجتماعياً (الإفقار، البطالة، تقلص الخدمات التعليمية والصحية، الخ.) ومالياً واقتصادياً وسياسياً بالاستنتاج أن هامش المناورة لدى الرأسمال وممثليه وصلت إلى حدودها القصوى. فإمّا تتمكن قوى النظام القائم من استجماع بقايا قواها المبعثرة، تحت تهديد الطرف الأفعل فيها سياسياً وعسكرياً، فتقوم بخديعة تقديم حلّ «الحدّ الأدنى» من جهة، وإمّا تكون التعبئة المباشرة التي تركز على مسؤولية النظام الطوائفي - السياسي كما الرأسمال المحتمي به، ليس فقط عن التسبب بحصول الكارثة الاقتصادية - المالية - النقدية - الاجتماعية الراهنة والمتمادية وإنّما أيضاً، وبالأخص، عن استمرارها بعدما تراكمت معطيات عديدة موثوقة وموثقة تتصل بالكيفية التي اعتمدها هذا الرأسمال في تعظيم تراكمه، غير القانوني في الفترة التي أعقبت انهيار رئته، أي النظام المصرفي، والكيفية التي شاركت بها أطراف بالسلطة في حدوثه.
كل هذه الأسئلة والاستنتاجات تنطلق من السياق الذي رسا عليه الوضع في اللحظة الراهنة.

لكن، عندما يستمر الانحدار أكثر فأكثر إلى القاع، كما يتضح من المسار الذي بدأ منذ أكثر من سنتين، فما الذي يمكن أن يأتي به عندئذ طرح «التحالف الاجتماعي»؟
الصعوبة في الردّ على هذا السؤال لا تكمن في صياغته. إنّها بالأحرى تكمن في التشتت الذي يعيشه الوضع الشعبي في لبنان. فالرأسمالية تستخدم، وستستخدم، الإفقار بصفته دافعاً لاستمرار تحالفها الطبقي، وإن حافظت على خلافاتها الضرورية بغية السماح لها بإعادة إنتاج نسخة طبق الأصل عن نظام تتمكن من تسويقه شعبياً باعتباره «تسوية وطنية تحفظ لبنان وشعبه».
ولا شك أنّ صيغة «الخلافات الضرورية» هذه في نسختها الأخيرة كما جسدتها التحركات العنفية في بداية شهر آذار الحالي (محاولة قوى حزبية وضع يدها على بعض المناطق عن طريق قطع الطرق) ليست سوى «بروفة» ضرورية لتحسين الخطة وتجنّب النواقص فيها. صحيح أن هذه القوى كانت تتوقع استجابة شعبية أكبر. لكنّ الناس، كما يصحّ التخمين، لم يعودوا مطواعين لسببين على الأقل: تجربة انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 التي، وإن انكفأت مع انهيار النظام، بقيت حاضرة في الوعي الشعبي بصفتها طريقاً رئيساً للتعبئة والتحرك والضغط الهادف من جهة أولى. ومن جهة ثانية، فإنّ «صناعة الحدث العنفي»، ليست سوى محاولة لحرف الانتباه عن مجرى الصراع الفعلي الذي وفرت مادته أزمة يشتد عنفها باستمرار بما يلزم القوى المتصدية لأسبابها ونتائجها أن تبقي على يقظتها وتصميمها.
السؤال بعد كل ما تقدم هو: هل بإمكان «التحالف الاجتماعي للتغيير» أن يضبط إيقاعه على الآتي وليس فقط على اللحظة الراهنة؟ هل القوى التي يتشكل منها ستتمكن من تأطير حركة الشارع، في قسم مهم منه على الأقل، عبر التشارك بالمطالب الاقتصادية - النقدية والسياسية والاجتماعية كما في أشكال التحرك؟ هل ثمة خطة ممكنة هادفة إلى تصعيد الضغط على سلطة مالية - طوائفية منهارة وقاصرة، لكنّها تتشبث بشعار العودة إلى النموذج المالي والمصرفي والريعي «الأصلي» بهدف استكمال عملية النهب القائمة بحيث تنتهي إلى طرح تصفية الأملاك العامة والقطاع العام وإلى رهن البلد تحت عبء الديون العامة المتراكمة دون أي محاسبة؟ وهل يشكل «التحالف» إطاراً فعّالاً لوقف إسقاط التحقيق الجنائي بالضربة القاضية إنقاذاً لنظام مصرفي صادر أموال صغار المودعين وشكّل القناة الآمنة لتحويل المنهوب من المال العام الذي راكمه كبار المسؤولين منذ ثلاثين من السنين على الأقل، من جهة أولى. كما إنّ النظام المصرفي عينه هو من قام بتهريب القسم الأكبر من «أموال» كبار المودعين المشكوك بمصادرها، من جهة ثانية.
إنّ الإجابة على هذه التساؤلات، على قاعدة ما مهّد له العرض من أسئلة ومحاولة تحليل، تتمثل في تحديد وجهة «التحالف». فهو تحالف اجتماعي، أي طبقي، للقوى الأكثر تضرراً وتأذياً من نتائج الأزمة المعممة للنظام الطوائفي - المصرفي - الريعي وآلة حكمه (أجهزته) المركبة والمعدّة لحمايته. وبهذا المعنى، فهي، أي الأزمة، لا تستوي على سقف متدنٍ وإنّما هي تخترق كل مستويات النظام وآلياته. وكذلك فإنّ مواجهة الأزمة هذه لا يمكن لها، كما حاولنا الإيضاح، أن تكون من طبيعة دفاعية فقط. إنّ الأكثر تأذياً من الأزمة المعممة هذه لا يمكن له أن يكتفي بـ«تحالف اجتماعي» يواجه نتائج الأزمة فقط. إنّ ما تختزنه اللحظة التاريخية الراهنة من إمكانات محتملة تتجاوز مجرد الاعتراض على هذه المفاعيل كما لو أنهّا «قدر» لا يُردّ. إنّها، تستدعي، بالأحرى، قيام «التحالف الاجتماعي للتغيير» بمعناه السياسي والاجتماعي والاقتصادي والمالي والمؤسسي. «تحالف» يتمكن من التصويب على جذر أزمة النظام وعلى مداخل تشخيصها في الوقت الذي يحدد فيه سبل الخروج منها بالاستناد إلى المصلحة الشعبية الأوسع التي يعمل على تمثيلها.

* أستاذ جامعي – افتتاحية العدد الذي يصدر اليوم من مجلّة «النداء»

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا