نشر موقع aljumhuriya.net نصاً موقّعاً من مجموعة من السوريين ومن عرب وأجانب بتاريخ 27آذار/ مارس 2021 بعنوان: «محو الناس عبر التضليل: سوريا و(أنتي إمبريالية) الحمقى»، يعتبرون أنفسهم ضمن صف اليسار الذي يملك تاريخاً من مسار «مناهضة الإمبريالية بصورة متّسقة ومبدئية وعلى نطاق عالمي، تعترف بالتدخلات الإمبريالية من كل الأطراف ولا تستثني منها روسيا وإيران والصين»، ويهاجمون آخرين «يساريين» أيّدوا السلطة السورية في العشر سنوات الماضية أثناء الانفجار السوري والذين يعتبرون «كل الحركات الداعمة للديمقراطية والمناهضة لمصالح دولتَي روسيا والصين بوصفها نتاجاً فوقياً للتدخلات الغربية، لا نتاجاً موضوعياً لظروف بيئتها».قد يتفق المرء مع النص الموقّع في بعض الطروحات التي يقدمها، مثل اعتبار انفجار بعض المجتمعات العربية في عام 2011 نتاجاً موضوعياً لظروف بيئتها وفي مهاجمته لـ«يساريين»، قضى بعضهم في الزنزانات والسجون لعشرات السنوات، ولكن هذا لم يمنعهم من النظر إلى ما جرى في سوريا منذ يوم 18آذار\مارس2011 من منظار أن السلطة السورية هي «أهون الشرّين» في حلبة صراع لم يروا فيها سوى طرفين هما السلطة والإسلاميون من دون أن يسعوا لبناء خط ثالث يكون بديلاً عن خطَّي السلطة والإسلاميين، وعلى الأرجح أن نزعة «أهون الشرّين» هي ستارة رقيقة القماش لنزعة أقلياتية اشتعل أوارها عندهم في العشر سنوات الأخيرة أمام «الخطر الإسلامي الداهم»، جعلت أصحابها ينتقلون من موقع المعارضة إلى موقع الموالاة للسلطة السورية أو موقع التلاقيات التي تصل إلى مستوى التحالف الموضوعي، وغالباً الإرادي الذاتي، معها. هناك حاجة إلى فحص علمي مفهومي للعملية التي يتم فيها في النص وضع غير الغرب الأميركي- الأوروبي تحت خيمة مفهوم الإمبريالية، ويجب عدم تسييس المصطلح وتطبيقه لمصلحة العداوات السياسية، كما فعل ماوتسي تونغ في الستينيات أثناء الخلاف الصيني- السوفياتي عندما تكلم عن «الإمبريالية السوفياتية».
ولكنّ المرء لا يتفق مع الأصحاب السوريين للنص الموقّع عندما يتكلمون وكأنهم يساريون، بينما غادر من كان منهم في أحزاب شيوعية أو ماركسية سورية الموقع الفكري الماركسي منذ التسعينيات ثم ترجموا ذلك سياسياً في عام 2003 عندما أيدوا الغزو الأميركي للعراق ومشوا في ذلك العام وراء صاحب نظرية «الصفر الاستعماري»، الذي اعتبر ما فعله الأميركيون بالعراق فعلاً تقدمياً عندما «أزاحوا نظاماً كريهاً ونقل الأميركيون المجتمع العراقي من الناقص إلى الصفر». يمكن أن ينطبق على هؤلاء مصطلح الحمقى الذي وضعه قبل قرون طويلة الفقيه ابن الجوزي في كتابه «أخبار الحمقى والمغفّلين»: «الأحمق هو الذي لا يدري إلى أين تقوده أقواله وأفعاله»، عندما لم يكونوا يدرون إلى ماذا سيقود غزو العراق من نتائج نراها الآن بعد ثمانية عشر عاماً من يوم سقوط بغداد في 9 نيسان2003، ويمكن أن ينطبق عليهم أيضاً مصطلح ابن الجوزي عندما أسّسوا «إعلان دمشق» في خريف2005 وكانوا يومها يظنون بأن الدبابة الأميركية في مركز القائم الحدودي بين العراق وسوريا ستتحرك غرباً أو بأن سيناريو بغداد 9 نيسان2003 سيتكرر في دمشق بشكل عسكري أو غير عسكري وأن عليهم الاستعداد لذلك عبر تحالف «إعلان دمشق» تماماً كما فعلت المعارضة العراقية في مؤتمر لندن بالشهر الأخير من عام 2002 والذي مدحه بعضهم، من غير أن يدروا بأن الأميركيين لا يريدون «تغيير النظام السوري بل تغيير سياساته» في العراق ولبنان وفلسطين، كما صرّحت كوندوليسا رايس عام2006، وبأنهم بذلك قد استُخدموا كأداة أميركية للضغط لا أكثر من غير أن يعرفوا نوع الحمولة المحمولة على ظهورهم، وهو ما يذكرنا بمصطلح الملا مصطفى البرزاني عندما أطلق على الأكراد الذين يحاربون مع السلطة العراقية ضده مصطلح «قوات الجحوش». الاستغفال الاستعمالي الأميركي الثاني لهؤلاء السوريين جرى في الأزمة السورية البادئة منذ درعا 18 آذار\مارس2011 عندما ظنّ هؤلاء بأن باراك أوباما سيكرر في سوريا ما فعله بالقذافي وخاصة عندما طالب في 18آب\أغسطس2011 وقبل خمسة أيام من سقوط القذافي من باب العزيزية بطرابلس برحيل الرئيس السوري، لذلك سارعوا إلى تشكيل مجلس إسطنبول في 2تشرين الأول\أكتوبر2011 أملاً منهم في أن يكون استنساخاً لمجلس مصطفى عبد الجليل الليبي، فيما على ما يبدو أن أوباما قد اقتنع لاحقاً وفي مجرى ما تبقّى من عام2011 بترك الأزمة السورية مفتوحة، ولا بأس عنده من استعمال معارضين سوريين للضغط نحو «تغيير سياسات النظام السوري» وليس تغييره.
يلفت النظر إغفال ذكر (المحافظين الجدد) بينما تم ذكر كيسنجر وهنتنغتون، حيث كان هذان الاثنان ضد نزعة المحافظين الجدد في نشر «الديمقراطية» و«اقتصاد السوق»بالقوة ، وهو ما حاول تطبيقه المحافظون الجدد عبر البوابة البغدادية عام2003 في عموم منطقة الشرق الأوسط عندما سيطروا على إدارة بوش الابن. على الأرجح أن هذا الإغفال مدروس عند من وضعوا النص وليس شرطاً أن يعرف من وقّع عليه لماذا حصل هذا. كان المحافظون الجدد ماركسيين عبر الطبعة التروتسكية ثم انتقلوا إلى موقع اليمين الفكري- السياسي في السبعينيات. كانوا يرون دور الجيش الأميركي في نشر النموذج الأميركي بالعالم مثلما كان يرى ليون تروتسكي في نشر الاشتراكية عبر الجيش الأحمر من خلال نظريته عن الثورة الدائمة، بينما كان ستالين يرى ممكناً بناء (الاشتراكية في بلد واحد). هؤلاء السوريون المتحولون من اليسار إلى اليمين يشبهون (المحافظين الجدد) ويرون وحدة حال معهم. المشكلة أن هؤلاء السوريين، وفي نزعة سورية فهلوية تأتي من التاجر الشامي الذي يرى الفهلوية في إمكانية بيع بضاعة رديئة عبر الكلام الحلو، لا يعترفون بأنهم قد فشلوا في تحقيق كل ما قالوه وفعلوه وأرادوه فكرياً وسياسياً منذ عام2003، وبأن أكبر عقوبة لبعض الكتاب منهم هي في نشر مقالاتهم متسلسلة بالتاريخ وكاملة النص مع ذكر مكان وتاريخ النشر، حيث إن كراتهم لم تصل إلى شباك المرمى ولا إلى أخشابه الثلاث بل حتى لم تصل إلى خط الستة عشر متراً حول المرمى. لذلك يريدون الآن تغليف وإخفاء يمينيتهم عبر يسارية لفظية فارغة المضمون، من دون أن يعترفوا بأن يمينيتهم الجديدة بعد مغادرتهم للموقع الماركسي-الشيوعي قد دفعتهم إلى مراهنات على الأميركي في عامَي 2003 و2011 وبأن الأميركي قد استعملهم لمصلحته في المرتين من دون تحقيق ما يبتغونه، إلا إذا كان مبتغاهم منافع شخصية استحصل بعضهم عليها من وراء الارتباط السياسي بالأميركي والأوروبي الغربي مثل منح دراسية أو منح لأبحاث أو تمويل مراكز أبحاث أو مواقع إلكترونية يكتب فيها أشخاص لا يملكون المعايير المطلوبة للكتابة البحثية وحتى للمقال الصحافي أو مقال الرأي، ما يدفع للبحث عن دوافع الغرب الأميركي-الأوروبي في ذلك، فيما المطلوب من البحّاثة أو الكاتب الغربي معايير صارمة يستبعد من دونها، بينما هؤلاء السوريون هم على مسافة أوقيانوسية منها. في الصحافة العربية، تشكّلت حالة مماثلة، عندما ظهرت عصابات من الكتّاب هنا أو هناك في صحف ومواقع إلكترونية مموّلة من الغرب الأميركي أو الأوروبي أو من دولة قطر، ،كانت معاييرها منذ عام2003 مَن مع الغزو الأميركي للعراق ومن مع المشروع الأميركي في المنطقة ومن مع تفخيت قيم العروبة وفلسطين ومعاداة الإمبريالية والتمسخر على مصطلحات (اليسار) و(الطبقة) و(الثورة) قبل أن يلبسوا منذ عام2011 قميص المصطلح الأخير من دون أن يعرفوا ماهية هذا المصطلح، وقد رأس هذه العصابات «قوميسارات» في بعض مراكز الأبحاث أو الصحف، مثل حازم صاغية، الذي كان يتصرف في صفحة تيارات بجريدة الحياة، مثل أندريه جدانوف زمن ستالين عندما كان يحدد من هو «الكاتب البروليتاري» و«الأدب البروليتاري» و«الواقعية الاشتراكية في الأدب»، وليس مهماً مستوى الكاتب ومقدرته في الكتابة.
الآن، يجب على هؤلاء السوريين، الذين استُخدموا في هذا النص الموقع كواجهة ويجب دراسة الأسباب، أن يعترفوا بالفشل، وبأنهم فعلاً كانوا وما زالوا «يسار جبهة النصرة» عندما مارسوا الدور الذيلي للإسلاميين بعد أن غادروا موقع اليسار الماركسي- الشيوعي، مثلما فشل أصحاب نظرية «أهون الشرّين» الذين هم «يسار السلطة السورية»، وبأن من انتصر هو (خط الرؤية السياسية للجبهة الوطنية الديمقراطية- جود)، الذي مثّل خطاً ثالثاً جذرياً معارضاً من قلب دمشق يقول بتسوية تقود إلى مرحلة انتقالية نحو نظام ديمقراطي تتشارك في سلطتها الانتقالية كل من السلطة والمعارضة بالقياس إلى (خط فاروق طيفور- رياض الترك) و(خط السلطة السورية- وأصحاب نظرية أهون الشرّين).
* كاتب سوري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا