يُعتبر العزيز الراحل أنيس النقاش حسب قناعاتنا الفكرية والأكاديمية كاتب مقاومة. ولا نقصد بذلك لا كاتباً مقاوماً ولا كاتباً للمقاومة وإنما أكثر. نقصد كاتباً في جنس كتابة المقاومة التي لا نعطيها أي صفة معقّدة أدبياً أو فلسفياً، وإنما فحسب الكتابة التي تميز بين كاتب فاعل مقاومة وبين مجرد كاتب يفكر في هذا الأمر مثل حالنا. ويُعتبر كتاب مقاومة كل ما يشبه «الكونفدرالية المشرقية» كفكرة تكشف ككتاب البعد الموضوعي المقاوم فكراً واشتباكاً. وتكشف أيضاً علاقة أنيس النقاش الراحل العزيز بشبكات المقاومة الفكرية أي البعد الذاتي المقاوم في علاقات فقيدنا استشارة وثقافة وتشبيكاً، ومن بين تلك العلاقات علاقة الراحل الفذّ بـ"شبكة باب المغاربة" في تونس على تواضعها المكتسب، فلقد قال لنا الأخ أنيس ما مفاده بأن الروح هي كل شيء لا المعلومة والروح هي كل شيء لا كثرة الرجال الكتبة والروح هي كل شيء لا الجوانب المادية واللوجستية.
لقد أسّس أنيس النقاش والذين معه استراتيجية مقاومة نسميها بكل طمأنينة استراتيجية الروح ولسوف نلتقي تلكم الروح بعد قليل من بين أنامل الكاتب في كتاب الكونفدرالية. وأسّس أيضاً ما يشبه «انثروبولوجيا المقاومة» حسب عبارة الفيلسوف المناضل طوني نيغري في كتاب «كومنولث» المترجم عن الإنكليزية في فرنسا سنة 2012 والصادر عن «دار ستوك» في باريس. ونحن هنا نرى أنه، إذا كان يجمع عقله شيءٌ ما مع الفكر الغربي، فهو أقرب إلى الفكر الثوري الإيطالي لمناضلي السبعينيات ومن تبقّى منهم، فضلاً عن الأميركي اللاتيني. ولا نقصد هنا مبحثاً انثروبولوجياً متخصصاً مبتدعاً وإنما فهماً عاماً للإنسان المقاوم ولوطن المقاومة على هذا المعنى الذي نضيف إليه التفاؤلية الانتصارية المميزة الخاصة بأنيس النقاش المفكر الباحث المسكون بهذه الحياة الخاصة برجال المقاومة وأمة المقاومة. وهذا يمكن العثور عليه في كتابه المذكور نفسه.

أسّس أو شارك في أقل الأحوال في التأسيس لنقلة نوعية من جغرافيا سياسية للمقاومة أو من الأرض أو الجغرافيا والسياسة إلى جيوبوليتيك أو جيوسياسة المقاومة بمعنى الأرض والروح والسياسة، رغم الفوارق بين المفاهيم طبعاً. وانتقالاً من الجغرافيا العسكرية إلى الجغرافيا الروحية المسلّحة. هذا بيّن وجليّ أيضاً في الفلسفة العامة التي يمكن أن نستخرج أهم معادنها من الفصلين المتعلقين بالتحرر الوطني وبالأمن الإقليمي، ودائماً في الكتاب نفسه الذي سوف نعرض منه توالياً هذه المقاطع الفكرية بعد حين.

يستنتج أنيس النقاش في «الكونفدرالية المشرقية، صراع الهويات والسياسات» الصادر في بيروت سنة 2015، وتحديداً في قسم «الإقليم وصراعاته» وفي العنوان الخاص بـ «مرحلة التحرر الوطني»، يستنتج في الصفحة الـ 113 ما يلي:
«النتائج الاستراتيجية المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي بعد انسحابه من لبنان ومن غزة أرست معادلة جديدة، مفادها وجوهرها أن العدو لم يعد قادراً على الاحتفاظ بأي أرض عربية لمجرد أنه قرر ذلك لأن حقيقة المقاومة أدخلت معادلة جديدة أجبرته على الانسحاب. ومن ثم سقط مفهوم التهديد الإسرائيلي باحتلال الأراضي العربية، مهما كانت وأينما كانت لمجرد أنه يمتلك القدرة على الاحتلال. المعادلة الجديدة فضحت قدراته على عدم إمكانية استمرار السيطرة على ما هو محتل من أرض. ومع ذلك أصر النظام العربي على التعامل مع هذا الصراع بمعادلات بالية تعطي العدو قدرات لم يعد يملكها بالفعل أو بالقوّة».

أما في فصل أو قسم «تدمير الأمن الإقليمي» في الصفحتين الـ 123 و124 فينبه إلى الحقيقة الدامغة: «ولقد دخلت مصر الحرب وهي قد أعفت من التجنيد الإلزامي كل من حصل على تعليم عال، ظناً منها أن الخدمة العسكرية هي للفلاحين وصغار الكسبة وغير المتعلمين، فإذا بها تكتشف أن الجهل كان قد أثر على معنويات الجندي المصري في الرتب الدنيا وهو العارف بأن أولاد الأغنياء المتعلمين لم يكونوا ليذهبوا إلى الخدمة الإلزامية. هذه القوانين عُدلت بعد الهزيمة وانضم أبناء العائلات والمتعلمون وخرّيجو الجامعات إلى الجيش مثلهم مثل أبناء الطبقات الفقيرة، الأمر الذي ظهر جلياً بأثره الإيجابي في حرب تشرين التي استطاع فيها الجيش المصري أن يقلب المعادلات لمصلحته وينفذ واحدة من أهم عمليات العبور البرمائي في تاريخ الحروب في العالم».

ويضيف: «لقد دخل الجيش المصري الحرب، عام 1967، وعلى رأسه قيادة لا تليق لا بطموحات الشعب المصري ولا بطموحات قيادته التي كانت تقود حركة التحرر العربي في حينه وتحدي الغرب والكيان الصهيوني ولكنها ترضى بقائد عسكري هزيل في قيادة القوات المسلحة، لم يعرف عنه لا عظمة في تفكيره العسكري ومعرفته بالتكتيك والاستراتيجيات الحربية، ولا حتى الحد الأدنى من الأخلاق والانضباط المطلوبين لمثل هكذا موقع. هذا القائد كان قد أقام حفلاً راقصاً في واحدة من أهم القواعد الجوية المتقدمة في سيناء ليلة الهجوم الإسرائيلي وعشية انتهاء العدو من استعداداته كافة لشنّ عدوانه. هنا ظهر الخلل في طريقة التفكير التي تعتمد على المحسوبية والإخلاص للقائد ولرئيس البلاد دون الأخذ في الاعتبار معايير الكفاءة والانضباط والتفاني والأخلاق».

ويتابع قائلاً: «في سوريا كانت المشكلة شبيهة بالمشكلة المصرية مع بعض الاختلافات الصغيرة، فالانقلابات العسكرية المتلاحقة كانت تؤدي بالعديد من ضباط القوات المسلحة في السجون أو تُنفذ فيهم أحكام الإعدام، بعد أن تكون الدولة قد تكلفت عليهم وأعدّتهم من أجل الحرب، ليعود ويستقر في موقع القيادة كل من هو موال لقيادة النظام ولشخص الرئيس دون اعتبارات مهنية صارمة».

ها هنا لا تعليق لدينا ولا تعقيب، فإننا لا نرجو سوى تعميق التأكيد على ما سبق ولا يهمّنا سوى عرض أو إعادة عرض هذه الأفكار أكثر من أي متطلبات الكتابة على الكتابة.

في "بناء الأمن الإقليمي"، وقبل المرور إلى الثلث الأخير من الكتاب الذي سوف لن نعرض منه، فهذا ليس غرضنا لاهتمامنا أكثر بنزع ما يسميه المبررات الاستراتيجية السالبة طبعاً والمسبّبة للهزيمة والاستسلام وموالاة العدو، وفي سياق «ضياع الأهداف الاستراتيجية» التي يحدثنا عنها، يقلب صفحة من التاريخ بأدوات الكتابة والفعل المقاوم ويقاومها قولاً واحداً كما يلي في الصفحة الـ 206:

«التوقيع على اتفاق تعاون بين قيادة الحرس وقيادة المقاومة الفلسطينية، لتبادل الخبرات والمساعدة على التسليح من قبل الطرفين لكل منهما حسب خبرة وإمكانات كل منهما، إضافة إلى التدريب والتعاون الاستراتيجي السياسي والأمني».

وفي الصفحة الـ 207: «في حوار جرى بين القيادة الفلسطينية ممثلة بأبي عمار وأبي جهاد، خليل الوزير، مع وفد من القيادات الإيرانية التي زارت لبنان، وكان في عدادها الشيخ محمد منتظري، والشيخ خلخالي، وابنة آية الله طالقاني وغيرهم، جرى الحديث عن أهمية الدور المعنوي في تحرير فلسطين. الوفد الإيراني كان يعني العقيدة الإسلامية والإيمان كأساس ضروري لدعم المقاومة بروحية وانضباط ومناقبية، كانت قوى المقاومة تفتقدها في كثير من الأحيان. جواب أبي عمار كان التالي: لقد استطعنا حتى الآن تحويل اللاجئ الفلسطيني من لاجئ إلى مقاوم، إذا كان باستطاعتكم تحويله إلى مقاوم مؤمن فلا مانع لديّ، هذه هي قواعد الثورة الفلسطينية مفتوحة أمامكم (...) نحن ليس لدينا عداوة مع الدين، بل نعتقد أن شعبنا لكل طوائفه مؤمن ولو أنه يحتاج إلى مزيد من تصليب العقيدة، أهلاً بكم للمساعدة في هذه المهمة».

وفي الصفحة الـ 208: «في هذه المرحلة الدقيقة من التطورات الإقليمية والدولية تقدمت إلى القيادة الفلسطينية، بشخص أبي جهاد خليل الوزير بتقرير يحدد ضرورة تطوير العمل المسلح في فلسطين. جوهر التقرير تمحور حول ضرورة أن ينتقل العمل المسلح إلى استهداف القوات العسكرية والأمنية للعدو، وليس استسهال توجيه الضربات إلى كل ما هو إسرائيلي بحجة أنه محتل. خلفية هذه الفكرة ترتكز إلى نقطتين: الأولى ضرورة محاكاة الرأي العام لدى العدو لإثبات أحقية مقاومتنا بهزيمة جيش العدو كجيش احتلال، (...) النقطة الثانية كانت ترتكز إلى ضرورة توجيه الضربات إلى قوات العدو تمهيداً لنقل العمل المسلح من مجرد عملية إزعاج ودعاية مسلحة تتم عبر الضربات العنيفة، إلى استراتيجية تدمير القوة العسكرية الإسرائيلية على المدى البعيد، والتي هي هدف أي حرب شعبية تسعى إلى التحرير، الذي لا يتم إلا إذا أدرك العدو استحالة استمراره بالسيطرة العسكرية، فإما أن يرحل بجيوشه الأجنبية، في حال الاستعمار الأجنبي، وإما يتعرض إلى حالة إنهاك لا تسمح له باستمرار السيطرة على الأراضي التي استوطنها واحتلّها.

البعد الثاني للورقة كان يعني ضرورة إدخال العامل الديني في الصراع المسلح، وبما أن ما جرى من حديث بين الوفد الإيراني والقيادة الفلسطينية ليس عملياً، لأن طبيعة حركة فتح الوطنية التي تحوي المسلم والمسيحي، المتدين واليساري وحتى الشيوعي، فإن ذلك لا يمكن أن يحصل بتحويل هذا الجسم إلى جسم مؤمن. إلا أن البديل يكون بإيجاد منظمات ذات طابع إسلامي، تلبي رغبة المؤمنين بدخول معسكر المقاومة، ضمن أطر تراعي العقيدة والبعد الديني. ذكرت الأخ أبا جهاد، بمنظمة أيلول الأسود، التي أنشأتها فتح سراً لتكون ذراعاً ضاربة لمهمات محددة، تراعي تراجع المقاومة بعد مجازر أيلول عام 1970 في الأردن، فكانت هذه المنظمة ذراعاً ضاربة تقوم بمهمات خاصة جداً، وعلى نطاق جغرافي موسع، دون أن تتحمل فتح مسؤولية مباشرة عن أعمالها. واقترحت القيام بعمليات عسكرية توجّه إلى الجيش الإسرائيلي، وتحت مسميات الجهاد الإسلامي، فنكون بذلك قد بدأنا مرحلة جديدة من العمل المسلح في فلسطين. المسألة الدينية كانت راسخة أمام أعيننا، فتأثير الثورة الإسلامية بدأ بشكل يستقطب بشكل كبير المثقفين اليساريين قبل المتدينين، لأنهم أدركوا أهمية الدين عندما يكون ثورياً، فكيف يمكن له أن يحرك الجماهير، كما فعلت الثورة في إيران وأسقطت أعتى أنواع الأنظمة ديكتاتورية ومدعومة من قبل الولايات المتحدة. هذا التيار بدأنا فيه بالعمل التثقيفي في أطر المقاومة اللبنانية التي كنا قد بدأنا الإعداد لها تحت مسميات حركة الأرض أولاً ثم حركة لبنان العربي، التي عادت وذابت في أطر حركة فتح مجدداً، لأن الذين كانوا يتابعون العمل على قيادتها لم يكونوا على المستوى المطلوب لفهم أهمية الاستقلالية عن الإطار الفلسطيني، وتوسيع الإطار خارج المفهوم العربي الضيق إلى مفهوم الأرض مع الروح الإسلامية».

أخيراً، في ما نهتم به الآن، في الصفحة الـ 209:

«قيادة العمل في الداخل الفلسطيني أخذت بهذه الاقتراحات، وكانت باكورة أعمالها، عملية حائط البراق التي كانت موجهة إلى قوة مظليين خاصة، أثناء أدائها القسم أمام حائط البراق الذي يسميه اليهود حائطَ المبكى. هذه العملية التي أُعلنت باسم حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، لم تكن إلا من مهمات القطاع الغربي لحركة فتح بإشراف حمدي التميمي وأبي حسن، اللذين أشرفا على الإعداد لهذه العملية، واستمرت العمليات بعد ذلك إلى أن استطاع الموساد أن يصل إلى حمدي وأبي الحسن وكان معهما الشهيد مروان الكيالي، فقام، باغتيالهم بعملية تفجير سيارتهم في قبرص. مسيرة حركة الجهاد الإسلامي استمرت بعد ذلك كإطار مستقل عن حركة فتح».

وفي ضغط استراتيجي على الكتابة المقاومة كـ«ضغط استراتيجي» على العدو، لا نستقبل عبارة «انتهت الرواية» بالصيغة القطعية التي أنهى بها مقطعاً من حياته، وإنما كرواية المستقبل أو كرواية في المستقبل وللمستقبل ومن المستقبل آتية أو ذاهبة إليه.

هذا هو أنيس النقاش. وهذه بعض التأملات في روح أنيس النقاش العالمية التي نجدها في سياقات شتى ومنها:

كون المقاومة حفظاً لوجود العدالة وليست مجرد واجب بل وجود. وهي ليست مجرد ما باسمه ومن أجله نناضل وإنما فكرة تتيقّظ وتستيقظ ما دمنا نقاوم وتنعدم لمجرد كفّنا عن المقاومة. هذه الفكرة نجدها عند فرونسواز بروست في كتاب «عن المقاومة» وهو من منشورات «سارف» سنة 1997، ص. 11.

كون النقاش جعل من المقاومة في رأينا «عاقلية عامة»، إذا أردنا استعمال عبارة لكارل ماركس في الغروندريس، أكثر من كونها إرادة عامة، وكما يشرحها باولو فيرنو في «علم نحو الجماهير» المنشور في إيطاليا سنة 2001 وفي فصله الأول.

كون أنيس النقاش «كادحاً معرفياً» كما في كتاب آخر للمفكر الإيطالي نفسه باولو فيرنو بعنوان: «وهكذا...» المترجَم إلى الفرنسية سنة 2013 في فقرة حول «الملاك والكادح المعرفي» في الصفحة ما قبل الأخيرة من الكتاب المنشور في دار «ليكلا».

ولأنيس النقاش والذين بعده منا جميعاً ما سوف يكون عليهم مستقبلاً.

*باحث جامعي من تونس

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا