عاشت الأقليات اليهودية في مشارق القارة الآسيوية، حتى مطلع القرن التاسع عشر، أشكالاً متفاوتة من التكيّفات مع ميول حكّام مجتمعاتها. تكيّفات تُقرّبها للاندماج مع أهواء تديُّنات نُخب إداراتها وأسواقها، ولا تُبعدها عن المحافظة على تقاليد تديّنها المتوارثة. وكان مثل هذا التقرب والاندماج يجبر صفوات تجّارها وكبار موظّفيها على عدم التمسّك بتديّنهم بخلاف فقرائهم، أو على الاندماج مع اقتصار التديّن على الأفكار التصوفية والغيبية المتوارثة عن مدرسة صفد في فلسطين. وهي أفكار ظلّت تهتم باختلاف ديانة اليهود في المجتمعات الإسلامية «وبمغزى الشتات والخلاص. ومن هنا لا غرابة في أنه تمّ إحياء مفهوم أرض الميعاد الأبدي بفعل ما روّجت له الأفكار الغيبية لدى المدرسة الصوفية...» (1). وقد جنحت جماعات يهودية عن طرق التقرّب والاندماج في بعض المجتمعات الشرقية، كما حصل في إيران مثلاً، إلى معارضة اندماج الحاخام هاليفي المعارض للصهيونية، وأحياناً إلى اعتناق الحركة البهائية التي توسّعت من إيران إلى أنحاء عالمية تجمع من الديانات وتتميّز عنها. ووصل جنوحها في العراق مع الشيخ ديفيد ساسون، أبرز أغنياء اليهود الذي شغل منصب وزير خزانة وأصبح حاخاماً (1817)، إلى اضطهاده في العراق وهروبه من بعد إلى الهند ومن ثمّ إلى إنكلترا (2).
«برتقال يافا» (2012) عمل للفنان الفلسطيني عماد عبد الوهاب انطلاقاً من أحد ملصقات «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»

وكان الفكر اليهودي قبل القرن الـ 19 يعتمد في فلسطين على ما يشيعه تقدّم الرحالة والتجّار الغربيين والمنظمات الخيرية اليهودية الأوروبية، ممّن يجمعون التبرّعات لمصلحة الاستيطان في فلسطين. وكان بينهم حاخامات ظلّوا حتى أواسط ثلاثينيات القرن الـ 19 يتجوّلون في المناطق الفلسطينية يشجّعون على التبرّع لإكفاء حاجات طلائع المستوطنين، وعلى الهجرة إلى «أرض الميعاد». وتوزّع المهاجرون على مرحلتين:
الهجرات الأولى، وكانت تقوم على المبادرات الفردية بين عامَي 1800 - 1880، وكان روادها من الجماعات اليهودية الفقيرة خاصّة، والمتوسطة من كردستان وإيران والعراق وبخارى واليمن. وكانت قد ظهرت منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر تحرّكات نهضوية لجماعات اليهود في البلدان العربية وجاراتها لتؤسّس لنهوضٍ أدّى إلى صدامات بدأت في عدن عام 1839، بعد احتلال الإنكليز وتكرّرت في عام 1833 مع تحوّل اليهود إلى تزويد الجيش المحتل. وقُدّر عديد اليهود حينها بحوالى 250 فرداً، تزايد حتى بلغ عام 1946 ما مجموعه 7300 فرد. كان حراكهم في بغداد قد ظهر عام 1848، وتواصل حتى تمكّنوا من تأسيس مصرف عام 1880. وقد بلغ اندماجهم في بغداد حدود انضمامهم إلى الحركة الوطنية، على الرغم من حصول صدامات جراء اتهام بعضهم بالإساءة للإسلام. وكان نهوض التجار اليهود في اليمن بعد عام 1872، أو بعد سقوط الاحتلال التركي.
الهجرات الثانية (1880 - 1914) بأعداد كبيرة تشجّعها بدايات المواجهات في الدول العربية مع المشاريع الاستعمارية للدول الغربية والتحسّن المُغري لتوطين اليهود المهاجرين إلى «الأراضي المقدّسة».
وبهذا، تكون حقبات النهوض التأسيسي للنخب اليهودية قد سبقت بأكثر من ثلاثة أرباع القرن، التحرّكات العربية ذات النزعات الإسلامية - التركية والقومية الاستقلالية عن السلطنة العثمانية، في أواخر القرن التاسع عشر. وظلّت هذه النزعات العربية حتى انتصار الحلفاء على العثمانيين في الحرب العالمية الأولى. وفي المقابل، «كان تراجع التديُّن التقليدي في عقيدة الحركة الصهيونية المتبلورة في أواخر القرن التاسع عشر، متطابقاً مع غيابه لدى اليهود الأميركيين الذين كانوا من أقدر رأسماليي العالم، يبلغ عديدهم 5.5 ملايين نسمة وهم علمانيون على غير المعتاد مقارنة بمواطنيهم الأميركيين. وثمة حوالى النصف منهم يصفون أنفسهم بأنهم علمانيون أو لادينيون أو مرتبطون بعقيدة أخرى. ينتمي معظم المتديّنين منهم، على أيّ حال، إلى نماذج من العقيدة تكاد تكون ليبرالية (72 في المئة من أعضاء المعابد اليهودية في عام 2000) مثل اليهودية الإصلاحية، بل واليهودية المحافظة إلى حدّ ما، ويرفض الخامات المتمسّكون باليهودية القويمة هذه النماذج بصرامة» (3).
وفي هذا السياق، ساهم تحكّم الإنكليز والفرنسيين في تقسيم المشرق العربي إلى دول حكموا تأسيسها مستثنين منها فلسطين التي حصر الاحتلال البريطاني مصيرها بعد «وعد بلفور»، عام 1917، لتكون لمصلحة الحركة الصهيونية لتوطين الهجرات إليها من فقراء ومتوسّطي اليهود في أوروبا الشرقية، خصوصاً حيث عاش فيها اليهود ظُلماً عنصرياً ضدهم يُضاف إليهم فقراء من بعض البلاد العربية.
وفي هذا الصدد، نورد ما جاء في كتاب «اليهود في البلدان الإسلامية 1850 - 1950» تلخيصاً مفيداً تحت عنوان «القومية العربية والنزاع العربي الإسرائيلي»، يقول: «إنّ المفكّرين العرب لم ينتبهوا إلى تطلّعات الصهيونية فيما عدا الكاتب اللبناني نجيب عازوري الذي أصدر في باريس عام 1905 كتاب «Le réveil de la nation arabe» الذي حذّر فيه من خطورة الصهيونية»، وقد ورد في الكتاب: في الوقت الذي تشهد فيه المنطقة حركة نهضة عربية يسعى اليهود لإقامة مملكة إسرائيل، وقد كُتب على هذين الطرفين أن يخوض كل منهما صراعاً مريراً ضد الآخر دون توقف، إلى أن ينتصر أحدهما على الآخر، وستحسم النتيجة النهائية لهذا الصراع مصير العالم بأسره» (4).
وزاد من ضرورات تكيّف النخب اليهودية مع السلطات في المشرق، وخاصّة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، توسّع حضور النخب المسيحية المنفتحة على علمانية أوروبا الغربية وأسواقها وبروز تنافسها مع النخب المقرّبة والتجار اليهود. وهذا ما تجلّى في العراق خاصة، حيث شكّل عاصمة لليهود في المشرق ونموذجاً مميّزاً لتطوّر حضورهم في البلدان المشرقية، حيث تطوّرت أعمالهم من الطابع التقليدي بعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر باتجاه الصرافة والبنوك وصناعة الصابون والزيوت والنبيذ والتجارة. وهذا ما زاد من قدراتهم على التحوّل إلى أسواق في الشرق الأقصى، من دون أن يتخلّوا عن العراق عاصمتهم. ولكن تأييد قسم من يهود العراق لاحتلال البريطانيين أدى لاحقاً إلى تدهور علاقاتهم مع المسلمين الذين كانوا يتواجهون مع مخطّطاتهم الاستعمارية. علماً بأنّ يهود العراق كانوا في ظلّ العثمانيين أكثر اندماجاً في الدولة، ولا سيما في ظلّ تشريع «تركيا الفتاة» التي حصلت على دعم سري من منظمة «الآليانس» اليهودية المرتبطة بمنظمة «كل إسرائيل أصدقاء» الأقل اهتماماً بالدين والتديّن. ولكن توسّع اندماج التجّار اليهود في المجتمع العراقي لم يكن كافياً للتخفيف من التوتر مع أوساط عراقية تعاونت مع المستعمر البريطاني والحكام العراقيين المتواطئين معه. وفي المقابل، تميّز اندماج اليهود العراقيين باتساع الدخول المتميّز للكثير منهم في النضال في صفوف الحركة الوطنية والحزب الشيوعي العراقي، وهذا ما ظهر في تميّز اندماجهم في العراق عن باقي المجتمعات العربية، وتمثّل تميّز هذا الاندماج اليهودي باقترانه وتدعيمه بفعل معارضة الحاخام سامون خدوري للحركة الصهيونية.
غير أنّ هذا المستوى من الاندماج لم يحُل دون الظهور اليهودي في أوروبا، ببروز باحثين في الثلث الأول من القرن الـ 19 في ألمانيا (5) لإظهار التناقض في القرآن، وما ظهر فيه من تكيّف اليهود سابقاً مع المسلمين إلى جانب بعض الأحاديث عن التقرّب والابتعاد عن اليهود. وذهب BAR asher et Meir M في كتابهما Les Juifs dans le Coran الصادر عام 2019، إلى حدّ الخطأ في القول إنّ الشيعة في القرآن «يمنعون الزواج من أهل الكتاب إلّا للمتعة». كما ذهب إلى حدّ الخطأ في إظهار أن «الصهيونية حرّرت أرض إسرائيل من احتلال العثمانيين»، دونما ذكر للوجود التاريخي للأكثرية الفلسطينية على أرض بلادها على امتداد قرون.
واستثارت كثافة الهجرات الثانية لليهود الأوروبيين قلق العثمانيين، فزادوا من الصعوبات الاقتصادية التي يواجهها المهاجرون بما يؤدي إلى خيبات آمالهم وتحوّل الكثيرين منهم، كالإيرانيين مثلاً، عن التوجّه إلى فلسطين بفعل معوّقات حكومتهم فتوجهوا إلى أوروبا الغربية وأميركا بفضل تمكّنهم من اللغات التي سبق وتوفرت لطبقات منهم في مواطنهم.
وفي مقابل توسّع نهوض اليهود، ومنهم خاصة الفئات الوسطى ممّن ظلّوا على نية التوجّه إلى دول أوروبا الغربية، فقد توسّع ضيق عيش اليهود في أوروبا الشرقية، في الوقت الذي أدى التوسّع الأول للنهوض العلماني في فرنسا الثورة والتنوير إلى نشوء منظمة يهودية فرانكوفونية الأيديولوجيا اسمها «كل شعب إسرائيل أصدقاء» تتبنّى أيديولوجيا الثورة الفرنسية (1789) توقفت حيال مسألة ما سبق وعاناه اليهود من التطرف الكاثوليكي وتحميلهم جُرم صلب المسيح ورأت أنّ اندماج اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها هو الذي يضمن لهم «الحضور الآمن في مجتمعات العالم». وكان أن تشكّلت في فرنسا عام 1860 المنظمة المُشار إليها ومعها «الأليانس» القادرة على تنفيذ أهدافها.
وفي مقابل هذه المنظمة ذات الأيديولوجيا الفرانكوفونية، تأسّست بعد 36 عاماً على يد تيودور هرتزل عام 1896 «الحركة الصهيونية» المتحالفة مع الولايات المتحدة بقيادة التيار الأنغلوكاني«كحركة تحرير لإعادة شعب مضطهد مقيم كأقليات في مجموعة متنوعة من الدول...». وتوفر الدعم المالي والمعنوي لدولة إسرائيل باعتبارها أرض الآباء والأجداد وترفض اندماج اليهود في المجتمعات الأخرى «للتحرّر من معاداة السامية». كان معظم مندوبي الحركة من يهود فلسطين وهذا ما خلق، على حدّ تعبير صموئيل أتينجر في كتابه «اليهود في البلدان الإسلامية» (6) «إحساساً بالمرارة وخيبة الأمل في نفوس قادة الحركة الصهيونية في الشرق. ولا غرابة لذلك في أنّ يهود اليمن شكّلوا عام 1921 بعد هجرتهم إلى فلسطين اتحاداً خاصّاً من الواضح أنهم أسّسوه بعدما اتّضح لهم أنهم لا يتمتعون بالحقوق نفسها التي يتمتع بها المهاجرون القادمون من شرق أوروبا، وأنّ المؤسّسات اليهودية تهتم بيهود أوروبا أكثر من اهتمامها بهم». ولم تقتصر خيبة أمل المهاجرين على فقراء اليمنيين وحسب بل ظهرت لاحقاً لدى فقراء ومتوسطي التأهيل المدني من المهاجرين من أفريقيا الشمالية حيث كان يهود فرنسا المتأثرون بالثورة الفرنسية قد دعموا تطور التعليم الديني والتشريع المدني لليهود الجزائريين. إلاّ أن مثل هذا التطوير التشريعي خاصة لم ينجح في إغراء فقرائهم لقبول حق المواطنة الفرنسية وذلك لاعتبارهم أن «حق العبادة والطلاق وتعدد الزوجات لديهم وزواج الرجل من امرأة أخيه الذي لا يُنجب أهم من حصولهم على حق المواطنة الفرنسية... ولم يتقدم بطلب الحصول على هذا الحق في مقاطعة الجزائر التي بلغ تعداد اليهود فيها 11 ألف نسمة سوى خمسين مرشحاً» (7). وتواصل تمسّك الفقراء والمتدينين اليهود باختلاف ما توارثوه في مدن الجزائر والمغرب وتونس ومصر وليبيا واليمن وفي مدن مشرقية أخرى. وبرز مثل هذا الإرث الديني راجحاً لاحقاً لدى مهجّري اليهود الإثيوبيين.
هكذا نجح التحالف الصهيو أنغليكاني في استثمار اتهام وتبني معاداة التيارات القومية _ الإسلاموية لليهود المتعرّبين المندمجين منذ قرون في البلاد العربية. وذلك بعد أن أغراهم هذا التحالف بقبول هجر مواطنهم العربية وأنذرهم بصعوبات عيشهم فيها القائمة والمتوقّعة بفعل تهجير الفلسطينيين، وأغراهم في المقابل بفرص التنعّم بما ستوفره لهم الحركة الصهيونية من تبرُّك العيش في فلسطين على «الأرض الموعودة والمقدّسة». وهكذا انتقلت جماعات اليهود المتعرّبين والأحباش ليعيشوا في مستوطنات منكفئة على غير أعمال ومدن اليهود الأوروبيين. وها هم اليوم تؤهلهم الدولة الصهيونية ليعملوا أو يُعسكروا في الدول العربية المُطبّعة مع إسرائيل حيث تصل طائراتها، تواجهها التيارات القومية - الإسلاموية عينها بالمزيد من عبث العتب على غياب الأمم المتحدة غير مُدركة بأن إقفال الحدود وحده لا يحمي الدول التي تصمد بفعل توافق طوائفها وتعيش على استيراد 80 % من حاجات استهلاكها وأن الفتح المرصود جيداً للحدود هو الأقدر على ضمان صمودها وتقدمها.

* باحث في علم الاجتماع

الهوامش
■ تعتمد هذه المقالة على الأرقام الواردة في كتاب صموئيل أتينجر بعنوان «اليهود في البلدان الإسلامية 1850 _ 1950»، إصدار سلسلة عالم المعرفة رقم 197.
(1) صموئيل أتينجر، اليهود في البلدان الإسلامية (1850 - 1950)، منشورات عالم المعرفة _ الكويت، رقم 197، ص. 129.
(2) صموئيل أتينجر، ص. 44_45.
(3) إريك هوبزباوم، «أزمنة متصدّعة» ترجمة سهام عبد السلام، إصدار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2015، ص. 327.
(4) كتاب «اليهود في البلدان الإسلامية 1850 - 1950»، صفحة 60.
(5) «BAR asher et Meir M, «Les juifs dans le Coran
Édition Albin Michel, Paris, Pages 22 _ 25
(6) كتاب «اليهود في البلدان الإسلامية 1850 _ 1950»، صفحة 154.
(7) كتاب «اليهود في البلدان الإسلامية 1850 _ 1950»، صفحة 154.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا