تكمل الثورة الإسلامية الإيرانية اليوم عامها الثاني والأربعين، حاملةً معها أدواتٍ اكتسبتها على مدى عقود، تؤهلها للبقاء والاستمرارية والتقدم في سيرورة مواجهة التحديات الخارجية والتطورات الداخلية بأشكالها كافة. تمثل هذه الثورة حركةً حضاريةً ونهضةً ثقافيةً تمتلك مقومات التأثير في التطورات والأحداث العالمية. فنرى أنّها استطاعت رغم محاولات العزل والتحجيم والحصار التي استهدفتها منذ اندلاعها، أن تحبط جميع هذه المؤامرات والمخططات وتقاوم الاتجاهات التي لا تصمد أمامها أقوى الأنظمة. فالتاريخ الحديث يشهد أن ما واجهته الإسلامية وتواجهه حتى اليوم من حرب اقتصادية تجارية فرضتها عليها القوى الكبرى ومن حرب عسكرية مفروضة استنزف قدراتها أكثر من ثماني سنوات احتلت من خلالها أكثر من خمسين مدينة، لم تواجهه أيٌّ من الأنظمة في التاريخ الحديث.
تجاوزت إيران كل تلك المحن ولا تزال تواجه وتتحدى، بفضل عقيدتها ووحدة صفوفها وحكمة مؤسسها الإمام الخميني وقائدها الإمام الخامنئي، كل تلك الأزمات والمؤامرات بثباتٍ وبصيرة.
غير أنّ الجمهورية الإسلامية لم تتحدَّ وتقاوم فقط، ولم تنشغل في مواجهة التحديات فحسب، وإنما واصلت مسيرتها الإنمائية وتكاملها العلمي التكنولوجي الثقافي والحضاري، فكانت لحظة الثورة بمثابة الانفجار البركاني الذي غيّر معالمَ البلاد والمنطقة التاريخية، فما عاد بالإمكان الرجوع إلى الوراء، وإنما بات التطلّع إلى الأمام غايةً كبرى وهدفاً كلياً لخطوات الثورة اللاحقة، في مسيرتها الاستكمالية التي لا تعرف التوقف. فالثورة اليوم ليست ثورةً جامدةً انقضى ربيعها ودخلت في خريفها وتبلّدت، بل إنها ثورةٌ متجددة في نبضها لأنّ تجديد الأهداف ووضع الخطط العلمية والغايات الكبرى نصبَ عيونِ النظام يجعل منها ثورةً تاريخيةً صامدة، لأن غايتها لم تكن مجرد تغيير النظام والرئيس والدولة والكرسي والعرش، بل الغاية كانت الإصلاح والصلاح والخير للأمة، وإذا كان الهدفُ إنسانياً قائماً على الأصول الإسلامية والسماوية الخالدة، فلا يمكن أن ينتهي هذا النهج وهذه المسيرة. إذن هي ثورةٌ تواكب الحداثة في ما لديها من أدوات محلية اكتسبتها من نسقها المعرفي ولم تستورد ما لا يشبهها.
الحديث عن النبض الحيّ للثورة يحتم علينا التطرق إلى التطورات الداخلية التي لا تعرف الركود. ففي الداخل، الحركة الديمقراطية ثابتة على الصعد كافة، والمشاركة الشعبية عنوان بناء الدولة، بكل ما فيها من إشراك للمرأة والشباب- الشباب من عمر المراهقة - وهذا ما لم تشهده- إلا نادراً - حتى أكبر الدول الديمقراطية المتبجّحة بأنظمتها. هنا تجدر الإشارة إلى اتساع رقعة الحريات السياسية والاجتماعية والثقافية وإصدار مئات الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والدورية، إضافةً إلى الحجم الهائل للإنتاج في مجال النشر والطباعة والنجاحات الفنية والسينمائية التي شكلت علامةً فارقة بين ما قبل وما بعد الثورة. حتى إن إيران اليوم أصبحت صاحبة أسلوبٍ ومدرسةٍ فنيةٍ خاصة بها بين أكثر الدول حضوراً في السينما والدراما والموسيقى والفنون بكل أشكالها. هكذا تأهل المجتمع الإيراني اليوم بفضل بنيته القائمة على المعنويات والقيم الإنسانية للقيام بأدوارٍ كبيرة وممارسة حقه في التغيير. ورغم الغزو الاستكباري والمعادي لهذه المسيرة من الجوانب كافة وبالأبعاد كافة، غير أنّ الخلفية العقائدية والإيمانية تجعل منها مسيرةً لا تعرف العراقيل ولا التوقف.
إن تجربة الثورة الإسلامية بحاجةٍ في عيدها الثاني والأربعين إلى دراسةٍ تحليليةٍ تفكيكيةٍ موضوعية بمعزلٍ عن المواقف العدائية والأيديولوجيات المعارِضة، للوقوف على ملامحها الحقيقية، أهدافها الكبرى وغايتها الإنسانية التي تعني جميع الأحرار والشعوب في العالم.
* المستشار الثقافي
في السفارة الإيرانية في بيروت

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا