يلفت النظر، هنا، توحّد باراك أوباما ودونالد ترامب، رغم خلافاتهما الأيديولوجية والسياسية العميقة، في رؤية الخطر الصيني. كان رأي «المحافظين الجدد» في زمن جورج بوش الابن، أنّ النمو الرأسمالي الصيني سيقود إلى ليبرالية في الاقتصاد، وأنّ التعددية في الاقتصاد ستقوّض الواحدية السياسية للحزب الشيوعي، وتقود إلى الديمقراطية التعدّدية. على الأرجح، هذا ما نعته أوبراين بـ«السذاجة الأميركية». من خلال ذلك، جاءت الموافقة الأميركية على دخول الصين في منظمة التجارة العالمية عام2001. كان انفتاح دينغ سياو بينغ الاقتصادي، مرتبطاً مع تشدّده السياسي، وهذا ما أظهره في يوم 3 حزيران / يونيو 1989، عندما أنزل الدبابات وسحق اعتصام الطلّاب المطالبين بالتعدّدية السياسية في ساحة «تيان آن مين». على الأرجح، كان واعياً لمخاطر بيريسترويكا صينية، ولوجود محتمل لغورباتشيف صيني متمثلاً في الأمين العام للحزب الشيوعي (زهاو زيانغ)، الذي أُسقط من منصبه بعد قليل ممّا جرى في «تيان آن مين». يمكن، وهذا الأرجح، أنّ الأميركيين لم يعوا تفكير دينغ، ولم يعوا بأنه يعرف عبارة فريدريك إنجلز: «الخسارة هي مصير أية حكومة تسمح لحركة معادية تتطلّع إلى إسقاطها بالعمل في إطار القوانين»، وهي عبارة قالها إنجلز عام 1890، عندما ألغى القيصر الألماني قانون حظر الاشتراكيين الذي أصدره بسمارك في عام 1878.
هل تملك الصين مقوّمات الاتحاد السوفياتي عام 1947، لكي تكون أحد طرفَي حرب باردة مع الولايات المتحدة؟
ولكن الآن يُطرح السؤال نفسه بقوة: هل تملك الصين مقوّمات الاتحاد السوفياتي عام 1947، لكي تكون أحد طرفَي حرب باردة مع الولايات المتحدة؟ قبل الإجابة، من الواضح أنّ هناك رغبة أميركية في النزال مع الصين، كما يبدو من كلام أوبراين، ومن تصريحات عديدة لترامب ولوزير خارجيته مايك بومبيو. هناك وعيٌ أميركي بأنّ التهديد الوحيد لوضعية القطب الأميركي الواحد للعالم، والقائمة منذ عام 1989مع هزيمة السوفيات في الحرب الباردة، هو التهديد الصيني. هذا كافٍ لوحده لكي يشعل حرباً باردة. في الحرب الباردة بين الأميركيين والسوفيات، عندما لم تُستخدم المجابهة المباشرة عسكرياً (رغم الاقتراب من حافّة ذلك، في عامَي 1962 و1973)، كانت هناك مشاريع أيديولوجية متضادّة، وحروب عسكرية بالوكالة، واستقطابات دولية وإقليمية متضادّة، وحروب اقتصادية وتكنولوجية. تملك الصين مقوّمات الدخول في نزال الحرب الباردة، من خلال كونها عملاقاً اقتصادياً يقترب من العملقة العسكرية، مع تضاعف الإنفاق العسكري الصيني لعشر مرات بين عامَي 2009 و2019. تقوم الصين باستقطابات دولية، عبر شراكات اقتصادية طويلة المدى مع روسيا وإيران، وتستأجر مرافئ لعشرات السنوات في باكستان وميانمار من أجل تفادي المرور بمضيق مالاقا الرابط بين المحيطين الهندي والهادئ الذي يسيطر عليه الأميركيون عند سنغافورة، وتتغلغل الصين في أفريقيا عبر مشاريع اقتصادية مع عملاق إقليمي اسمه إثيوبيا. مع مؤشرات قدمتها شركة «هواوي»، واضح أنّ الصين تتقدّم كثيراً في الهاي ـــــ تكنيك. تملك الصين مقوّمات العملاق الاقتصادي الطامح للعملقة العسكرية ـــــ السياسية، عبر دور عالمي، كما كانت ألمانيا في فترة 1871 ـــــ 1890، قبل أن تكشّر عن أنيابها وتقود العالم إلى حربين عالميتين. على ما يبدو، الآن، لم تعد واشنطن في وضعية لندن لمّا اطمأنّت إلى سياسة بسمارك (مستشار ألمانيا الموحّدة 1871 ــــــ 1890) غير الصدامية مع البريطانيين، من خلال رؤيته المتمثّلة في عبارته: «ألمانيا وحش بري، وبريطانيا وحش بحري، ويجب أن لا يتصادما»، وهي عبارة دفع ثمن تجاهلها ألمان الحربين العالميّتين.
يمكن لذلك أن يؤهّل الصين للنزال، ولكن التوازن يقول بكفّةٍ تميل للأميركيين: تملك واشنطن أيديولوجيا واضحة، وهو ما لا تملكه الصين، فيما كان ستالين يملك ذلك عام 1947. هناك تفوّق علمي ـــــ تكنولوجي أميركي بأشواط أمام الصين، مع تفوّق عسكري واقتصادي. بحسب «مصلحة الأبحاث في الكونغرس الأميركي»، في دراسة عن «تأثيرات كوفيد ــــ 19 في الاقتصاد العالمي» (26 آذار / مارس 2020)، يمثّل الدولار الأميركي 88% من حجم التداول النقدي الخارجي لدول العالم، وثلثي موجودات النقد للبنوك المركزية العالمية، ونصف موجودات النقد الأجنبي في البنوك غير الأميركية، وهو يمثّل ثلثي المستجلبات النقدية من البنوك والمحافظ النقدية من قبل الشركات الصناعية غير الأميركية. هناك عيوب بنيوية في الاقتصاد الصيني: 41,7% من الصادرات الصينية، عام 2018، هي لشركات أجنبية مسجّلة في الصين، وكذلك 43,7% من واردات الصين هي لمصلحة هذه الشركات («الصعود الاقتصادي الصيني»، دراسة في «مصلحة أبحاث الكونغرس الأميركي»، 25 حزيران / يونيو 2019). غالبية الشركات الأجنبية وأقواها في الصين، هي أميركية، وحتى العجز التجاري الأميركي مع الصين ناتج بمعظمه عن منتجات تنتجها هذه الشركات الأميركية في الصين، ثم تُصدّر إلى أميركا. تأتي نزعة ترامب نحو «القومية الاقتصادية» من أجل جلب تلك الشركات الأميركية إلى الداخل الأميركي.
كتكثيف: الصين تملك من خلال الاقتصاد، الذي يحدّد هو وليس السلاح النووي من هي الدولة العظمى أو الكبرى، مقوّمات منافسة (القطب الأميركي الواحد للعالم). هي في وضعية فرنسا أمام إنكلترا بين عامَي 1689و1815، حتى هزيمة نابليون بونابرت في واترلو، وفي وضعية ألمانيا أمام إنكلترا بين عامَي1890و1945. فلاديمير بوتين لا يملك، الآن، هذه الوضعية أمام الأميركيين الذين ما زالوا، حتى الآن، القطب الواحد للعالم، منذ هزيمة السوفيات في الحرب الباردة عام 1989.
* كاتب سوري
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا