في كتابه الشهير «العنف والمقدّس»، يذهب الأنثروبولوجي الفرنسي رينيه جيرار إلى أنّ الصراع أو التنافس هو العنوان الرئيسي لعلاقات الناس ببعضهم البعض. وبحسب هذه النظرية، فإنّ وجود طرفٍ مقابل يشتهي الشيء ذاته المرغوب بالحصول عليه، يزيد من نسبة رغبة الإنسان به، ليصبح المحفّز على الطلب منع المنافس من الحصول عليه، وليس مجرّد الرغبة فيه، ولتتحوّل بذلك الرغبة إلى مجرّد مثير في معركة التملّك والهيمنة. هنا، تلتقي نظريتَا التملّك والرغبة في تفسير السلوك العنفي للإنسان، الذي يسعى بموجبه إلى إزاحة الآخر كلياً، محاكياً بذلك عالم الحيوان الذي تعود فيه العدوانية الحيوانية إلى مسألة الانتماء للمكان والإحساس بامتلاكه، حيث اعتبر كولن ولسون أنّ كلّ الحروب عبر التاريخ كانت تدور حول امتلاك المكان.السلطة والهيمنة عنوان الحرب التي أعلنها معاوية بن أبي سفيان على الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام. معركة ورثها الخليفة الأموي الجديد يزيد بن معاوية الذي طالب بانتزاع البيعة من الإمام الحسين بن علي، على أن يضرب عنق الإمام في حال تخلّفه عن البيعة.
عام 61 للهجرة، يُقتل الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب في معركة كربلاء، فيزيد الطامع بتعزيز سلطته باسم الخلافة الإسلامية، لم يكتفِ بقتل الحسين وأهل بيته وأصحابه وسبي نسائه، بل حرص واليه على البصرة والكوفة عبيد الله بن زياد على حزّ رأسه والطواف به في البلاد. ليدخل بنو أمية عنصراً جديداً في الثقافة الإسلامية لم يمارس قبل كربلاء، إلا من قبل والي معاوية على الموصل حين قطع رأس عمرو بن الحمق الخزاعي، وبعث به إلى معاوية. لكن بحسب الطبري، فإنّ رأس الحسين هو أول رأس رُفع على خشبة، وهذا إنّما يدلّ على أنّ قطع رأس عمرو بن الحمق لم يعرف على نطاق واسع بين المسلمين، بخلاف رأس الحسين وبعض الأصحاب الذين خضعت رؤوسهم لعملية انتقاء حسب موقعها في نطاق قبائلها ومدنها بغية قتل قاعدتها الشعبية والإيحاء للجمهور بأنّ الثورة قد قضي عليها.
النحر... سلوك عملت السلطة الأموية من خلاله على عقلنة العنف وجعله منظّماً ومشرعناً بعدما عمل الإسلام على احتوائه عبر تصريف النزعات العنفية الإنسانية، تصريفاً مجازياً في مجتمع كان الدم والقتل يحتلّ موقعاً مركزياً في مجاله الثقافي.
اليوم، وبعد حوالى 14 قرناً، عادت الرؤوس لتُحزّ من جديد، في استعادة لمشهدية قطع رأس الحسين وأهل بيته وأصحابه، وليتم استعراض ذلك السلوك بشكل مشهدي عبر الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي، والعمل على إخراجه عبر أهم التقنيات الفنية. لتصبح تلك الممارسات جزءاً من سلوك بعض الجماعات التي ظهرت في بعض البلدان العربية والإسلامية، والتي تنسب نفسها إلى الإسلام الحنيف، فتعمل على مساواة الإنسان المقتول بالحيوان وليصبح تشريع النحر عبادة يحتفى بها تحت عنوان التضحية، بعد خلق مبررات دينية وشرعية لممارستها.
فلماذا حزّ الرؤوس؟ وأيّ دلالة يحمل هذا السلوك العنفي؟
يحتل الرأس مكانة خاصة داخل الرمزية العامة للجسد الإنساني، فهو بناء رمزي يمكن أن ينشأ عنه عدد لا يحصى من التصوّرات التي تسعى لإعطائه معنى، حيث يرى علماء الأنثروبولوجيا أنّ تمجيد الجماجم أو الرؤوس، يعني التبجيل المعنوي للرأس الذي يرى فيه جيلبير دوران علامة الإنسان وملخّصه التجريدي، فضلاً عن أنّه البرعم الذي ينمو الإنسان من خلاله في الجسم والعقل. لذلك، تتّخذ عملية قطع الرأس أبعاداً سياسية ودينية ونفسية لاكتساب القوة وإثبات القدرة وامتلاك هذا الجزء العضوي كناية عن الغلبة والانتصار والتفاخر.
تعتبر التضحية من موضوعات الموت الرئيسية التي لها دلالتها النموذجية الأصلية شديدة الجوهرية


ففي كربلاء، يتقدّم الشمر بن ذي الجوشن لقطع رأس الإمام الحسين المُلقى على الأرض، ليتمّ بعدها رفع رأس الحسين وأهل بيته وأصحابه على أسنة الرماح. هذا المشهد المستقى من النصوص التاريخية التي تؤكّد قيام جيش يزيد بن معاوية بقطع الرؤوس ووضعها في مقدمة الركب الحسيني في رحلته من كربلاء إلى الكوفة فالشام، يؤكد أنّ هذا الاستعراض أراده بنو أمية كتعبير عن الانتصار على الحسين وصيد رأسه أي امتلاك هذا الرأسمال والرمز، إلى جانب الافتخار والزهو وإظهار القوة، فضلاً عن الرسالة التهديدية التي يحملها هذا المشهد بغية تحذير الناس من الإقدام على التجرّؤ على السلطة الأموية ومنظومتها. السلوك نفسه استعادته الجماعات التكفيرية، التي توسّلت القتل كرسائل ردعية تجاوزت فيه طرق الذبح التقليدية إلى إنتاج مشهديات عنف لإيصال رسائل سياسية لكلّ المعادين لها، وسعياً وراء تنشيط فكرة التقليد الإيمائي، خاصّة للمراهقين والأطفال للاستجابة لسلوكيات عنيفة تصبّ في خدمة المشروع السياسي لتلك التنظيمات.
وفي المقلب الآخر، يؤصّل مشهد قطع الرؤوس ورفعها مفهوم التضحية، ففي العديد من المجتمعات القديمة تمّت ممارسة قطع الرؤوس كجزء من طقوس التضحية، حيث كان الدافع وراء ذلك الاعتقاد القديم بأنّ الآلهة والبشر غير معفيين من قانون الموت، ومثل هذا الاعتقاد فرض على تلك المجتمعات إحياء ذكرى هذه الحقيقة. فرأوا أنّ حياة الإنسان لا ترضيها إلّا التضحية بسعادة الإنسان، وتنازله عن أعزّ ما يملك. فكان الأتباع مستعدّين للتضحية بكل عزيز لديهم، وإن كان بكراً أو طفلاً وحيداً طلباً للنجاة بأنفسهم.
وتعتبر التضحية من موضوعات الموت الرئيسية التي لها دلالتها النموذجية الأصلية شديدة الجوهرية، فالقبائل البدائية تشعر أنّها مدفوعة نحو تقديم الأضحيات أو القرابين للآلهة، وغالباً ما تكون هذه القرابين إنسانية وذات قيمة عالية، وكذلك في المسيحية «يعتقد أنّ التضحية الكلّية التي قام بها المحبوب الواحد، الابن الكامل هي تضحية كافية للتكفير عن كلّ خطايا الجنس البشري للأبد».
على ما يبدو، تشتمل العديد من الميكانزمات السيكولوجية على دافع ما غلّاب للتضحية. فأولاً، هناك التكفير عن الذنب، أي الشعور بأنّ شخصاً ما عليه أن يقاسي بسبب خطايانا وخطايا المجتمع، فالحسين كأضحية بات ثمناً إيمانياً يعبّر عن موقف إصلاحي، حيث تتحوّل آلامه وجراحه إلى حياة جديدة، فتتحوّل الضحية إلى رمز ورأسمال، نتيجة الضريبة التي دفعها في لعبة المعادلات التضحوية، ويظهر هذا في مشهد استسلام الحسين للموت ذبحاً في سبيل الفوز برضى الإله ليكون قرباناً ينتظر المقبولية من الله، وهذا ما تؤكّده السيدة زينب أخت الحسين بقولها: «اللهم تقبّل منّا هذا القربان». وينظر علي شريعتي إلى الفضل التضحوي بأنه المقابل التاريخي لخطر الموت النهائي للإنسانية، حين يكون موت الرجل ضمانة لحياة أمّة وأساساً لبقاء عقيدة فتكون تضحيته وشهادته إثباتاً لجريمة كبرى وهتكاً لأقنعة القوة الحاكمة وخداعها وزيفها. فقطع رأس الحسين سيكون سبيلاً إلى تلك الحياة التي يريدها الله، فالقدّيس كما يراه دافيد لو بروتون ليس إنساناً يعيش من أجل ذاته، لأنّ الجماعة تخترق وجوده من جانب لأخر، إنه لا يعيش إلا عبرها ومن أجلها، وهكذا يستطيع بدون ألم القيام بالتضحية بحياته.

* باحثة لبنانيّة

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا