فرضية التهدئة أو ربط النزاع المؤقت، بدأت تظهر كأمرٍ واقعٍ لما فيها من مصلحة آنية لكلّ القوى المنخرطة في النزاعات المختلفة لمنطقتنا. الدول الكبرى مشغولة بتداعيات فيروس «كورونا» الصحّية والاقتصادية والاجتماعية الهائلة. والرئيس الأميركي يعمل جاهداً للسيطرة على الوضع الاجتماعي، قبل أواخر حزيران/ يونيو لحساباته الانتخابية، وللوقوف بوجه المؤسّسات العميقة التي أخذت قرارها، منذ شهرين تقريباً، بدعم المرشّح الديموقراطي جو بايدن (بحسب ما فهمت من صديق في وزارة الخارجية الفرنسية)، وفي حين تفتّش أوروبا عن حلول ما بعد «كورونا» لمنع تفكّك الاتحاد الأوروبي وبقائه هيكلاً عظمياً، كضمانة للمؤسسات المالية وحماية الأمن الاجتماعي داخله. ولكون لبنان، كان وما زال يشكّل ميزان الحرارة لهذه المنطقة، فلا توجد مصلحة آنية لهذه القوى الغربية في انهياره، وتسليمه على طبقٍ من ذهب إلى محور الممانعة، أي بحسابات هذه الدول الكبرى، إيصال الصين إلى البحر المتوسّط. وبالتالي، فإنّ لبنان محكومٌ بمعادلة التهدئة الإقليمية. وهذا ما يفسّر لقاء السفيرة الأميركية مع رئيس الحكومة، والطلب بوضع خطة اقتصادية كمقدّمة لاستحضار المساعدات المالية الخارجية. وكذلك، استعجال وزير خارجية فرنسا، بعد الضوء الأخضر الأميركي، إعلان هذه الخطة واستعداد أوروبا للمساهمة.
وتناغماً مع حالة التهدئة هذه، أتت الخطة المالية من قِبل الحكومة في لبنان بدون تغييرات جوهرية في توجّهاتها، كحال كلّ الخطط التي قُدّمت سابقاً من أجل استحضار الدَين الخارجي كـ«باريس1» و«باريس 2» وثمّ «سيدر». ويمكن وصفها بخطّة مهدّئات أعصاب للوضع المالي المُنهار، آخذة بعين الاعتبار كلّ التوازنات السياسية الداخلية: فلا استرجاع للأموال المنهوبة ومحاسبة الفاسدين من المصارف والطبقة السياسية المتعفّنة، ولا إزاحة لسياسات حاكم مصرف لبنان. برأينا، ستربط المصارف، وبعض أصحاب المليارات السياسية، إعادة حفنة صغيرة من الأموال المنهوبة، بشرط استثمارها في المرافق العامّة المربحة أصلاً، كالمطار والمرفأ والكهرباء وغيرها (وهي كانت حاضرة دائماً في خطة الحريري الأب والابن). على كلّ حال، فإنّ الوهم بالتغيير ساقطٌ سلفاً، وأقلّه لسببين: لا يوجد داخل الحكومة رجالٌ من حملة الحلول الثورية، كتشي غيفارا أو قاسم سليماني، ولا يوجد شارعٌ منظّم وموّحد حول مطالب تطال تغيير البنية المالية والاقتصادية من جذورها. وللإنصاف، هناك حوالى 10% فقط من الشارع، ممّن يطالبون بحلول ثورية؛ وأمّا الباقي فهو عبارة عن شوارع متعدّدة معلّقة بـ«كراعيب» التوازنات الداخلية لأحزاب الأمر الواقع الطائفية. فلنترك التمنيات والأوهام وننظر من خلال الخطة المالية المفروضة من الخارج إلى اقتراحات على «القطعة»، أي أولويات الناس في قطاعات تشكّل العمود الفقري لحاجياتها البديهية، أعني القطاع الصحي. وقد جاءت «كورونا» لتشكّل حافزاً على الالتزام الأخلاقي والمعيشي للدولة والمجتمع تجاه المواطنين. يجب أن نشعر بالخجل في القرن الواحد والعشرين عندما يُقال: «فلان مات لأنه لم يستطع دفع تكاليف علاجه، أو عولج بقدر إمكاناته المالية». فالصحة، كما هي عليه اليوم، سلعة تخضع لنظام السوق القائم على العرض والطلب، بمعنى أنّ كمية ونوعية العرض تأتي تلبية لنوعية الطلب وأولويات الحاجة إليه. ولكن بالمبدأ، هذا النظام الليبرالي لا يصلح تطبيقه على سلعة الصحة، لأنّنا ملزمون دائماً بتقديم أفضل نوعية في العلاج تجاه طلب الحاجة المرضية، كيفما كانت إمكانيات هذا الطلب «المالية». لذلك، تتعارض الخدمة الصحية مع أية سلعة استهلاكية أخرى، ويتوجّب إخراجها من عقلية عالم المال، وبالتالي النأي بالنفس عن شروط صندوق النقد، وتوجّه الدولة إلى تعزيز وتفعيل القطاع العام خارج نظام السوق الليبرالي الذي يحاول فرضه علينا، والخروج من الدوَران في الحلقة المفرغة التي أدخلت وزارة الصحة والدولة في لبنان، نفسها فيها: سياسة قائمة على الحماية الصحية للمواطنين، بوضع رقبتهم تحت مقصلة القطاع الخاص، ناهيك عن أنها سياسة استهلاكية خالصة، في الوقت الذي يستطيع فيه القطاع الصحي أن يكون منتجاً. وهذا ما يحصل في البلدان المتقدّمة (والليبرالية أصلاً)، وفي كثير من المجالات الطبية: إنتاج الدواء والمعدّات الطبية (أرباح بمئات المليارات من الدولارات) وغيرها، وصولاً إلى السياحة الاستشفائية. وبناء عليه، نذكّر موجزاً بالاقتراحات العملية من خلال دراسة أعددناها عام 2019:
1 ـــ التغطية الصحية الشاملة والمتساوية بين المواطنين. وهذا حقّ للمواطن في الصحة والاستشفاء والحصول على الدواء وغير ذلك. كلفة التغطية الصحية الشاملة، بحسب الدراسات الأولية، يجب أن لا تتعدّى المليار ومئتي مليون دولار سنوياً، وهي تغطّي 75 إلى 80% من حاجيات المواطن الصحية (وهذا الرقم قريب جداً ممّا كانت قد أوردته إحدى شركات التأمين الخاصة، وتعهّدت بالتزامه من وزارة الصحة).
2 ـــ تدعيم المراكز الاستشفائية الحكومية، وعددها 30 مستشفى: يعمل منها 11 مستشفى، خمسة من هذه المستشفيات تقدّم خدمة طبية مقبولة. نقترح خطة من 3 ـــ 5 سنوات قائمة على:
ـــ إعادة تأهيل وتجهيز طبي وإداري لـ10 من المستشفيات الحكومية (بحسب أولويات المناطق)، على 2 إلى 3 سنوات، بكلفة 250 ـــ 300 مليون دولار.
ـــ تجهيز الـ10 الباقية على 3 إلى 5 سنوات بالكلفة نفسها.
تتمتّع إدارة كل مستشفى، تحت رقابة الوزارة، بنوع من الاستغلال المالي (في إدارة ميزانيتها) والإداري (الموظفين والرواتب) والمناطقي (دور البلديات)، واختيار الجسم الطبي ومساعدته في إعادة تأهيله كلّ 5 إلى 7 سنوات.
3 ـــ إنشاء مراكز ومختبرات تصنيع الدواء الوطني (مع أو بدون القطاع الخاص)، وكما هو معروف، فإنّ احتياجات القطاع الصحّي من الدواء، في أيّ بلد في العالم، تُختصر بـ50 إلى 60 منتجاً دوائياً رئيسياً، والباقي هو مشتقّات دوائية. الكلفة الإجمالية لمجمل معامل تصنيع الدواء لا تزيد عن 400 مليون دولار، يستطيع لبنان من خلالها، ليس فقط سدّ حاجة السوق المحلية بنسبة 75%، ولكن أيضاً التصدير والمنافسة على نوعية المنتج الدوائي. بذلك، تستطيع وزارة الصحة أن تكون منتجة للصحة، وليست فقط مستهلكة لفاتورة تفوق المليار دولار.
4 ـــ توحيد الصناديق الضامنة، وضمّها جميعاً إلى برنامج التغطية الصحية الشاملة، بما يوقف الهدر والذل للموظفين والعمّال والعسكريين وغيرهم، ويحدّ من العجز في الميزانية العامة للدولة اللبنانية.
5 ـــ تعزيز الرقابة على كامل المؤسسات الطبية العامة والخاصة، في ما يتعلق بنوعية وفوترة الخدمة الطبية، وفي ضرورة أو عدم ضرورة الفحوصات البيولوجية والإشعاعية والعمل الجراحي، والكشف عن تلاعب المستشفيات بالفواتير المقدّمة. كذلك، مراقبة السلوك الطبي والصيدلي، بالتعاون مع نقابتَي الأطباء والصيدلة، والعمل على تشجيع الدخول في مشاريع البحث العملي، من خلال رصد ميزانية خاصّة بأمراض تحتلّ أولوية في وضعنا الصحي في المنطقة، كذلك الرقابة الصارمة على المطاعم والمعامل المنتجة للأطعمة، وعلى استعمال المبيدات في إنتاج الخضراوات والفواكه وعلى مصادر التلوث البيئي.
6 ـــ تنظيم برامج الوقاية الصحية الأولية، وهي تكاد تكون معدومة في لبنان (إن من قِبل الدولة أم من الإعلام). ففي القرن الواحد والعشرين، لا يكفي علاج مريض السكري بالأدوية، من دون توعيته ومحيطه العائلي لنمط التغذية والحماية، ولا معالجة الإصابات بالقلب والرئة، من دون التوعية للمسبّبات مثل التدخين وعدم النشاط الجسدي والوضع البيئي. طبعاً، يتحمّل الطبيب المعالج جزءاً من المسؤولية في شرح هذه المسبّبات أمام المريض، ولكنّ التوجّه نحو توعية المجتمع بمجمله، هو مسؤولية وزارة الصحة (والإعلام طبعاً). ولا بدّ من التذكير أن برامج التوعية الصحية والوقاية لا تكلّف الوزارة ميزانية كبيرة، فمعظم هذه البرامج مجانية وحاضرة في توجّهات منظمة الصحة العالمية والكثير من المنظمات اللاحكومية، التي تُعنى بهذا الشأن.
تناغماً مع حالة التهدئة أتت الخطة المالية من قبل الحكومة في لبنان بدون تغييرات جوهرية في توجّهاتها


7 ـــ التشبيك الصحّي والعلمي مع دول المحيط: يحتفظ لبنان الطبّي ببعض من تاريخه الذي ما زال يشكّل في الوقت الحاضر عنصراً إعلامياً في جذب جزء غير قليل من المرضى في محيطنا العربي، يأتون إلى لبنان للعلاج والسياحة. إنّ ترشيد وتنظيم هذه السياحة الاستشفائية من قِبل وزارة الصحة، قد يدرّان على لبنان دخلاً مهمّاً (وصل في بعض البلدان، كالأردن مثلاً، إلى 2 مليار دولار سنوياً منذ حوالى العشر سنوات). وبالتأسيس على هذه الظاهرة الحالية في لبنان، يمكن الذهاب نحو نوع من التشبيك الصحّي مع دول المحيط، بتوجيه قسم من الأطباء عندنا لملء الفراغ الحاصل في سوريا والعراق في بعض الاختصاصات، عن طريق التعاون مع وزارات الصحة في البلدان المذكورة. إنّ من مصلحة لبنان الطبية، أن تبادر وزارة الصحة إلى تأسيس هذا النوع من التكامل الصحي مع دول الجوار، علماً بأنّ المواطن العربي كان قد سبق سياسات حكومات بلاده إليه.
خلاصةً، وكما هو ملاحظ من خلال هذه الأرقام، فإنّ الاقتراحات الواردة أعلاه تحترم ميزانية وزارة الصحة في حدودها الحالية، ولا تخرج عن نسبة النفقات الصحية من الناتج القومي العام. ومن خلالها، نستطيع إحداث تغيير بنيوي في السياسة الصحية، والتحوّل إلى سياسة إنتاجية آخذة بعين الاعتبار الحق الإنساني والأخلاقي للمواطن في الصحة.
أخيراً، وبالرغم من قناعتنا بأنّ الخطة المالية ـــ الاقتصادية ستبقى حبراً على ورق، ولن يطبّق منها سوى شروط صندوق النقد الدولي والدول المانحة، وبالتالي إعادة إنتاج الديون والنهب والفساد ـــ لأنّ آدمية رئيس الوزراء الحالي، لن تُصرف في زبالة الطبقة السياسية والمصرفية الفاسدة، وتجربة الرئيس إميل لحود والرئيس سليم الحص لم تأتِ بتغيير ـــ إلا أنّه يتوجب مخاطبة الشارع اللبناني بكثير من الوضوح والشفافية، بالقول: كل أموال منهوبة وأنتم بخير، وكل انتمائكم الطائفي والمذهبي و«كراعيبكم» بخير؛ ولكن مصلحتكم المباشرة، تكمن في قطاع صحّي عام مؤنسن وأخلاقي، وإلّا فأنتم وأولادكم لن تكونوا بخير.

* طبيب لبناني أخصّائي في جراحة الأعصاب مقيم في فرنسا