لقد انهار النظام الطائفي اللبناني، الذي على أساسه قام لبنان فعليّاً وعلى الأرض. سُمي هذا النظام «وفاقاً وطنياً» زوراً وبهتاناً، فالوطن يمثّّل بمواطنين بمعزل عن دينهم ومعتقدهم وإثنيتهم، ولا يمثَّل بعشائر وطوائف كما حصل عام 1943 بدعم وتحريض غربيين كي يظلّ لبنان ألعوبة بيد المستعمرين مهما تغيّرت أسماؤهم.أسباب الانهيار عديدة، وأهمّها أن هذه «اللويا جيرغا» الطائفية العشائرية، القائمة على التوارث باسم الدم الأبوي، استطاعت البقاء طوال هذه الفترة الزمنية لأنّ أعداد العشيرة بقيت قليلة، لكن حينما تتزايد الأعداد، لا يعود بإمكان رأس العشيرة ضبط عشيرته، فتتفلّت من سطوته عبر مراكزها الاجتماعية خارج العشيرة.
مجسّم للنحاتة الفرنسية سابرينا غروس

لقد عملت الطوائف مشتركةً، وعبر الحرب الأهلية (1975 ـــ 1990)، على دفع فئاتها الوسطى المتعلّمة إلى النزوح خارج لبنان نهائياً، وعدم السماح لها بالعودة عبر رفض تقديم أيّ مسوّغ لعودتها. إلّا أنّ الوضع الاقتصادي العالمي المتدهور حالياً، وانكماش الاقتصاد، وانغلاق البوابات الخليجية والأفريقية والأوروبية والأميركية، دفع بعودة كبيرة للبنانيين سيطالبون الدولة بمكان لهم تحت الشمس، وليس في القبر.
سببٌ ثانٍ هو أنّ هذا النظام الطائفي لا يستطيع أن يعمل بانتظام من دون وجود حَكَم (arbiter) خارج المنظومة وأقوى منها مجتمعة، فيفرض مشيئة دولته العليا على الطوائفيين، ويوازن بين صراعاتهم وشهواتهم. أيام العثمانيين، وُضع متصرّف أجنبيّ من خارج المنظومة الطائفية، وغير لبناني، لرئاسة جبل لبنان المنقسم إلى فيلقَين درزي وماروني. وأيام الانتداب كانت الكلمة الفصل للفرنسيين، وبقي نفوذهم مهيمناً بعد استقلال رمزيّ وغير حقيقي، إلى حين ظهور «القاشوش» الأميركي على الساحة العالمية.
ما نشهده اليوم هو نتيجة الانحدار الأميركي، وانهيار القطبيّة الأحادية لصالح تعدّدية الأقطاب، فتبعثرت الأوراق ما أدّى إلى ضعف المنظومة الطائفية، وعدم تمكّنها من تلبية طلبات الأكثرية من الأتباع، فتصدّعت تراتبية الطوائف ومحاصصاتها. البرهان على ذلك، هو الوقت الطويل والعمل المضني الذي يتطلّبه النظام لتأليف وزارات، أو تعيينات إدارية، ما أدّى إلى عجزه عن حسم الأمور. لم يعد بالمقدور الاحتماء بالخارج كما درجت العادة، ولا تقاسم «قالب الجبنة»، فكثيرون سيخرجون من دون فتات، وسيتحوّلون إلى مهمّشين وثائرين.
من سيتضرّر أولاً في نظام من هذا الشكل، هو صغار الطوائف، ومنهم طائفة الروم الأرثودوكس (السنّة والشيعة والموارنة هم أعلى مرتبة وقوة)، ما استدعى تداعي قيادات روم أرثودوكسية في الأحزاب الطائفية والوزارات والمجلس النيابي للاحتماء برئيس ملتهم، المطران الياس عودة، لرفض الغبن اللاحق بهم.
أيّ غبن؟ غبن في الكفاءة؟ أو المقدرة؟ أو الخبرة؟ لا، إنه غبن طائفي.
من الطبيعي أن تُعتبر أحزابٌ قائمة على المبدأ العشائري الطائفي، أنّ ظلماً لحق بها لأنّها من صلب هذا النظام، وهي من أشدّ الحريصين على ديمومته، وعلى علاقة التوارث بالدم الأبوي، وهي تصرّ على بقاء القوانين الانتخابية طائفية، وتريد أن يبقى المواطن أسير أوراقه الثبوتية المذهبية، وإخراجات قيده التي تعود إلى قرون غابرة، تحت عنوان الأصالة، وازدراء التطور والتغيير. فبالنسبة إلى هذا النظام، الجمود والتكلّس هما عنوان النجاح، والماضي هو أفضل دائماً من المستقبل.
لكن ما علاقة منطقٍ كهذا بحزب كالحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي بنى مؤسّسه عقيدته على المبدأ الوطني/القومي، والعلماني/المدني، والذي يفصل بين الدين والدولة، ويعتبر أنّ الشؤون الدينية لا علاقة لها بإدارات الدولة والسياسات الزمنية؟ مجرّد حضور ممثّلين عن الحزب السوري القومي الاجتماعي، كممثلين عن ملّة الروم الأرثودوكس طعنٌ لمبادئ الحزب، واعتباره ملحقاً بطائفة من طوائف هذا النظام العفن، يستجدي سلطته منها، وليس من مبادئه ورفقائه المنتمين إلى الطوائف كافة، تحت شعار الوحدة القومية.
شتّان ما بين هذا الموقف، وموقف سعادة عام 1936، حين نشب عراك بين حزب النجادة وحزب الكتائب، فطلب سعادة من القوميين الوقوف حائلاً بين هذا الاقتتال الطائفي، الذي سيدمّر الوطن. توقف العراك لأنّ القوميين مثّلوا موقفاً وطنياً جامعاً لكلّ الطوائف، ولم يمثّلوا ملّة من الملل المتوارثة.
من يريد أن يبني وطناً لا يستطيع الاصطفاف مع جهة طائفية ضدّ أخرى، أو يطالب بمركز طائفي ضمن تركيبة طائفية لا هدف لها إلّا تدمير الوطن لصالح مصالحها الشخصية: «فالأحزاب الطائفية والمؤسّسات الدينية مزّقت الشبيبة تمزيقاً، وأقامت منها قوة أعداء للوحدة القومية، وسمّمت أفكارها وميولها، وجعلتها وسائل يستعملها ذوو الأغراض والمنافع السياسية وغيرها، ليصلوا بها إلى غاياتهم ومآربهم، فلا يجد الشباب بعد حين إلّا أنهم كانوا مطايا لأصحاب المصلحة في الحكم يستخدمونهم في أغراضهم ويتركونهم لمصيرهم القومي السيئ».
(أنطون سعادة، الأعمال الكاملة، الجزء الثاني، صفحة 299).
لقد أسس أنطون سعادة حزباً ليلمّ شمل «سوراقيا»، كما كانت قبل تقسيمات سايكس ــــ بيكو، أي أنه حزب ينشد الوحدة الوطنية/ القومية، ويرفض رفضاً قاطعاً ومطلقاً الدخول في اللعبة الطائفية لأنها مدمّرة للمفهوم الوطني/ القومي.
المطلوب ليس إلغاء الأحزاب، كما يروّج كثيرون في هذه المرحلة في جميع كيانات سوراقيا، بل إلغاء المنظومة الطائفية من أساسها بما فيها أحزابها الملية، وبناء أحزاب وطنية/ قومية تتصارع برامجها السياسية ــــ الاقتصادية ــــ الاجتماعية لما فيه خير الوطن، لا الدخول في أحزاب/ طوائف لا هم لها إلّا تحقير الطائفة الأخرى والسيطرة عليها، ما يؤدّي إلى تدمير الشعب وفناء الوطن.
المطلوب إلغاء قوانين الأحزاب/ الجمعيات، كما أدرجه العثمانيون بداية القرن الماضي، والذي لم يطرأ عليه أيّ تغيير، وهو وصمة عار في حقّ إدارات الدولة المتعاقبة، ووضع قوانين لبناء أحزاب وطنية تهتمّ بالمواطن لا بالطوائف.
مهمة الحزب السوري القومي الاجتماعي، كما مهمّة كلّ الأحزاب الوطنية اللاطائفية، العمل الجدي على تطبيق البنود الإصلاحية التي وردت في اتّفاق الطائف، أي الدستور، والتي تؤدّي إلى بناء دولة وطنية مبنيّة على إرادة الشعب، لا إدارة الطوائف لرعايا لا يُسمح لهم بإبداء رأيهم، والإدلاء بأصواتهم كمواطنين لهم كلّ الحق في تقرير حاضرهم ومستقبلهم؛ ومن أجل ذلك، على المجلس النيابي وضع قانون يسمح بالاستفتاء الشعبي حول الأمور المصيرية.
أمام لبنان ومؤسّساته، فرصة للتحوّل السلمي نحو الدولة المدنية المبنية على المعرفة العلمية والكفاءة، لا على الوراثة الطائفية عبر دم الأب التي هي من مخلّفات القرون الوسطى، والتي لا تقود إلى تقدّم الوطن. لا مفرّ من الدولة المدنية مهما طال الزمن، لأنّ الخيار الآخر هو الاندثار، ولقد زالت مئات المجتمعات من الوجود خلال القرن الماضي جرّاء رفضها التكيّف مع واقع جديد.
* أستاذة جامعية