يتبين أنّ الخلل وقع عند التجديد لحاكم مصرف لبنان، في بداية عهد الرئيس ميشال عون، والذي حصل إثر ضغوط من الطبقة الحاكمة. فالرئيس عون يحمل مشروعاً اقتصادياً، يخالف الطبقة التي تسلمت الحكم، وكان عليه أن يغيّر الحاكم الذي يمثّل مصالح السلطة الحاكمة، لكن الضغوط المحلية والدولية حالت دون تنفيذ قراره.
إن الخطأ الأساسي في أداء الحاكم هو خطأ منهجي وإعلامي، وذلك في إعلان التطمينات المتكررة عن ثبات سعر صرف الليرة، وعن الموجودات المتوفرة في مصرف لبنان، وعن القدرة على السيطرة على سوق القطع. وقد أكد مسار الأحداث أن هذه التطمينات ذهبت مع الريح، وقد فقدت مصداقيتها، بينما كان عليه أن يقول الحقيقة ولو كانت مُرّة، ويصارح الرأي العام بالوضع المالي والنقدي.
يتحمّل كل من الأطراف المسؤولية عن الوصول إلى الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي، بدءاً من السلطة السياسية والمصارف وحاكم مصرف لبنان
أما الخطأ الآخر الذي وقع فيه الحاكم، فهو دعم المصارف المتعثّرة، فقد أدى الدعم لأحد المصارف المهمة، والذي قام بمجازفات كبيرة في تركيا وأربيل بمئات الملايين من الدولارات، إلى طلب مصارف أخرى الدعم، وذلك على سبيل «الغيرة والدلع»، وهو ما حتّم على المصرف القيام بهندسات مالية، دفع ثمنها من احتياطيه أكثر من 4 مليارات دولار. وعليه، فإنّ المودع اللبناني في المصارف ليس مسؤولاً عن مغامرات واستثمارات خطرة قام بها بعض المصارف ــــ وقد توسّع المصرف المركزي في تطبيق المادة 99 من قانون النقد والتسليف: والتي تنصّ على أن «المصرف المركزي ليس مجبراً بمبدأ إلزامي على منح القروض للمصارف، إنما يقوم بذلك على قدر ما يرى أن مساعدته تخدم المصلحة العامة». يتّضح ممّا تقدّم أنّ المصرف المركزي تجاوز الحدود الضيقة التي منحه إياها القانون في مجال القروض. ولكن إن كانت مفهومةً الخطوات التي اتخذها مصرف لبنان في دعم المودعين في «بنك المدينة»، في زمن كان ميزان المدفوعات فائضاً وكذلك احتياطي المصرف، فإن دعم المصارف المتعثّرة بقروض كبيرة في السنوات الأخيرة، لم يكن خطوة حكيمة من المصرف المؤتمن على ودائع الناس. وما زاد من نقمة الرأي العام، هو قيام المصرف بتقديم قروض مريحة لسياسيين وموظفين كبار في القطاع العام، لشراء عقارات بفوائد لا تتجاوز 1%، فاستفاد من القروض مَن ليس بحاجة إليها، وذلك على حساب الطبقة المتوسطة.
على صعيد آخر، طالب بعض السياسيين والثوار بمعرفة مصير الأموال المهرّبة بعد 17 تشرين الأول 2019، والتي قام بها أصحاب المصارف وبعض السياسيين والمتموّلين ــــ كما طالب المدعي العام التمييزي رئيس لجنة الرقابة على المصارف في مصرف لبنان بتحديد مصير الأموال المهرّبة. ولكن رئيس اللجنة لم يعطِ المدعي العام الجواب المطلوب. حاول مصرف لبنان رمي المسؤولية على المصارف، وهذا ما يتعارض مع المادة /149/ من قانون النقد والتسليف: يمارس المصرف المركزي رقابته على الوجه الآتي: «التدقيق في البيانات والمستندات والمعلومات والإيضاحات والإثباتات التي يجب على المصارف أن تقدمها أو التي يحق للمصرف المركزي أن يطلبها منها، عملاً بنصوص هذا القانون». وفي المقابل، تتحمل المصارف المسؤولية القانونية والإدارية عن تحويل الأموال الطائلة إلى الخارج وتحرم صغار المودعين من سحب أموالهم عبر عملية Haircut من دون أن تقترن بآلية تستند إلى القوانين المرعية الإجراء.
قام مصرف لبنان بتسليف الدولة، ولا سيّما أكثر من 70% من موازنة الدولة في مجال النفقات عبر الاستلاف من المصارف، عن طريق سندات الخزينة أو عبر اليوروبوند، وذلك عن طريق تقديم فوائد مرتفعة للمصارف. وكان على مصرف لبنان أن ينبّه الحكومات المتتالية من مخاطر التسليف من مصرف لبنان، لأنّ مهمة المصرف العامّة كما نصّت عليها المادة 70 من قانون النقد والتسليف، هي المحافظة على النقد لتأمين أساس نمو اقتصادي واجتماعي، والمحافظة على سلامة النقد اللبناني، والمحافظة على الاستقرار الاقتصادي، والمحافظة على سلامة الوضع المصرفي. ويتّضح من هنا، أن ليس من مهمّات المصرف الأساسية تقديم القروض للدولة: وهو الاستثناء وليس القاعدة.
أما الحكومات السابقة، التي تغاضت عن الأوضاع المالية والنقدية وموازنات مصرف لبنان، فإن قانون النقد والتسليف بموجب المادة 41 يكلّف بإنشاء «مفوضية الحكومة» لدى المصرف المركزي، يُسمّى مفوّض الحكومة، حيث يكلّف بالسهر على تطبيق قانون النقد والتسليف، ومراقبة محاسبة المصرف. ويحق للمفوّض الاطلاع على جميع سجلّات المصرف المركزي ومستنداته الحسابية. والسؤال المطروح الذي يتبادر إلى الذهن، هو غياب مفوّض الحكومة عن الصورة، وعدم اضطلاعه بدوره الرقابي، إلا إذا شاء أن يكون له دور غير علني خلف الستار. والسؤال المنطقي، إذا كان مفوّض الحكومة يملك الأرقام المطلوبة، فلماذا لم يُطلع رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة على حقيقة موازنات مصرف لبنان؟
ويبدو أن خيبة الأمل من حاكم مصرف لبنان جاءت بسبب الأساطير التي حاكها معظم الإعلام اللبناني عن عبقرية رياض سلامة وقدرته على الإمساك بالوضع المالي والنقدي، برضى أو بغض النظر من الحاكم. لأنّ الأسطورة تحيا في النفوس مراحل زمنية، ليتبينّ أنّ الواقع العملي لا يتماشى مع الثقة المفرطة بالأسطورة، وأنّ رياض سلامة لا يتمتّع بالسلطة المطلقة في تسيير أعمال مصرف لبنان. فهو يعمل وسط العواصف، إزاء سلطة سياسية عاجزة عن تقديم حلول اقتصادية، وحكومات اعتمدت في موازناتها على القروض من مصرف لبنان، بدلاً من الاعتماد على الواردات كمبدأ عام.
في المحصلة النهائية، يتحمّل كلّ من الأطراف المسؤولية عن الوصول إلى الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي، بدءاً من السلطة السياسية والمصارف وحاكم مصرف لبنان. وقد تبيّن أنّ سياسة تثبيت الليرة بالنسبة إلى الدولار كانت سياسة ناجحة على المدى المتوسط، إلا أن هذه السياسة أدت على المدى الطويل إلى انهيار احتياطيات مصرف لبنان بالعملة الأجنبية، وهنا تتحمل الحكومات المتعاقبة مسؤولية تثبيت سعر صرف العملة الوطنية.
وقد حان الوقت لتعديل قانون النقد والتسليف ليتماشى مع المتطلّبات والثغر التي ظهرت عند تطبيقه، وإعطاء صلاحيات للمصرف المركزي ووزارة المالية في مراقبة المصارف، وإعادة الدور الأساسي لمصرف لبنان أسوة بالمصارف المركزية، بحيث لا يتماشى مع الدول الشمولية في تمويل موازنة الدولة.
*سفير سابق