«تبدو الأرض كمركبة تدفعها ثلاثة محرّكات: العلوم، التكنولوجيا والاقتصاد، ولكنّها بدون سائق (أي الإنسان)»! بهذه الكلمات يصف عالم الاجتماع إدغار موران، في كتابه «المسار»، ما آلت إليه الحضارة الحديثة في ظل التقدم التكنولوجي الذي تحكمه القوانين المالية والمعادلات الاقتصادية وحتى الصراعات السياسية، والذي بدوره بات يتحكّم بالبشرية، من دون أيّ اعتبار للإنسان كغايةٍ، وليس فقط كوسيلة، لأيّ تطور علمي...ما كشفه وباء «كورونا» المستجد، بالإضافة إلى هشاشة العولمة والنظام العالمي والتي كتُب عنها الكثير، هو شوائب المنظومة البحثية المعولمة التي خضعت منذ ثمانينيات القرن المنصرم للفكر النيوليبرالي، الذي فرض على الجامعات ومؤسسات البحث العلمي تحولات جذرية في المفاهيم، تجلّت بشكل أساسي في تبنّي حوكمة شبه تجارية، حتى في الدول ذات الأنظمة الاشتراكية أو حتى الشيوعية. فمثلاً، عوض أن يتيح متخذو القرار المساحةَ الكاملةَ لهذه المؤسسات كي تنتج معارف لخدمة المنفعة العامة، باتوا يتعاطون معها كشركات عليها السعي وراء المردود المادي لأبحاثها، حتى لو على حساب «مفهوم» الجامعة وغايتها الأصلية. أما الباحث، في ظل هذه الحوكمة وغياب التمويل العادل للأبحاث، فتحوّل بدوره إلى لاهث وراء مجده الفردي، والذي يضمن له تمويلاً مستداماً وتراكمياً لأبحاثه (فنّد عالم الاجتماع روبرت ميرتن خلل التمويل العلمي، وأطلق عليه تسمية «تأثير متى» نسبة إلى إنجيل متى: «لأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى فَيَزْدَادُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ»). كل هذه التحولات وآلياتها وسمت السياسات العلمية الحديثة في الدول المتقدمة بأنها رأسمالية الجوهر، وبأنها قد أخلّت بالعلم وسلّعت الأبحاث وسلبتها كل الأبعاد الإنسانية.
فمن جهة، تشهد البيئة البحثية المهيمنة عالمياً على طغيان السعي وراء الابتكارات التكنولوجية التي من شأنها أن تعود بدخل كبير وأرباح مالية سريعة، ما يضمن السيطرة على الأسواق العالمية. هذا التوجه، انعكس سلباً على «الأبحاث المبدئية (أو الأساسية)» التي صُورت لفترة طويلة وكأنها «مناقضة» للأبحاث المجدية، وفقاً لتعبير دونكان هالدان الحائز على «نوبل» في الفيزياء. ورغم كل التطمينات في الدول المتقدمة بأنّ الأبحاث الأساسية هي مسؤولية الدولة عبر المؤسسات البحثية، إلا أن غالبية التمويل باتت مشروطة بالأبحاث ذات الجدوى التطبيقي الواضح، علماً بأن الباحث لا يمكنه التنبؤ دائماً بكيفية تحويل نواتج بحوثه إلى تطبيقات، وخاصة في مجال الأبحاث الأساسية لعلم الأحياء وتفرّعاته، والتي تحتاج إلى سنوات طويلة وجهد مضاعف. ففي الوقت الذي يتهافت فيه العالم على بحوث الذكاء الاصطناعي (على أهميته) و«خورزمة الإنسان»، يعلو تذمّر بيئة البحوث الأساسية البيولوجية (والطبية) من إهمالها وتقليص تمويلها، لتوضع فجأة في سباق مع الزمن فور بروز أيّ أزمة صحية عالمية، تماماً كما يحصل الآن، لتعود بعدها المنظومة الحاكمة إلى ذات السياسات الرأسمالية، من دون استخلاص العبر الإنسانية والتي من ضمنها أيضاً وجوب الانفتاح البحثي وإتاحة العلوم للجميع، من دون حدود جغرافية...
يبرز تكريس الاعتماد شبه الحصري على الشركات الخاصة في ما يتعلق بالكثير من محاور الصحة والتكنولوجيا الطبية، ما يعني حكماً أولوية المبدأ الربحي على مبدأ المنفعة العامة


من الجهة الثانية، يبرز تكريس الاعتماد شبه الحصري على الشركات الخاصة في ما يتعلق بالكثير من محاور الصحة والدواء والتكنولوجيا الطبية، ما يعني حكماً أولوية المبدأ الربحي على مبدأ المنفعة العامة. على سبيل المثال، تبلغ الكلفة التقديرية لإطلاق أيّ دواء جديد (منذ البحوث المبدئية حتى تسويق المنتج) حوالى 2.6 مليار دولار، وبالتالي لن تغامر أيّ شركة بالعمل على دواء، ولو كان مصيرياً للبشرية، لن يدرّ لها أرباحاً تتخطى الكلفة بأشواط. للدلالة أيضاً، عام 2017 لم تنفق أهم أكبر ثلاثمئة شركة تكنولوجيا طبية سوى 28 مليار دولار على البحوث والتطوير! لذا، مسؤولية الدول المقتدرة أن تبادر إلى تعزيز الأبحاث في هذه المجالات بعيداً عن المقاربات التجارية، وضمن رؤية اجتماعية خدماتية تحت رعاية الدولة ومؤسساتها، خاصة إذا ما تذكّرنا أن قيمة الإنفاق العسكري العالمي في العام نفسه، بلغت رسمياً 1739 مليار دولار! ما يحصل فعلياً هو أن الكثير من الدول المصنّفة «عظمى» تتبع منهج الإجحاف المتعمّد في حق الأبحاث الجامعية، وتقارب تمويلها كعبء مالي على الدولة المركزية بهدف دفع المراكز البحثية إلى إيجاد سبل تمويل أخرى حتى لو انحرفت عن أهداف المنفعة العامة (كما حصل في الكثير من الشراكات مع القطاعات الإنتاجية). ولذا، يرى الكثيرون في حديث بعض القادة الأوروبيين أخيراً عن «دولة الرعاية»، بداية إقرارٍ بوجوب تعديل السياسات الاجتماعية وتغيير السلوك تجاه مؤسسات الخدمة العامة، ومنها مثلاً المستشفيات الحكومية ومؤسسات التعليم العالي والأبحاث...
يقول هيغل إن «طائر مينرفا (آلهة الحكمة عند الرومان) يحلّق عند الغسق»، في إشارة إلى أن الحكمة تتبلور دوماً بعد الوقائع. وبعد هذه الأزمة وما كشفته من عيوب، بات على متّخذي القرار في الدول التي تفرض إيقاعها على التوجهات العلمية العالمية، أن يعترفوا بضرورة مراجعة عميقة تؤدي إلى تصويب سياساتهم العلمية وأنسنتها ضمن رؤية تؤمن «بالعلم من أجل خير الإنسان وكرامته»، كي لا تضطر البشرية لتكريس مستقبلها من أجل ترميم ما دمّرتْه حتى الآن بحجة سباق التقدم!

*مديرة أبحاث في المجلس الوطني للبحوث العلمية