وردت المقاطع الآتية، في مؤلّف للبروفسور زاهي زلوعة، بعنوان «الفلسفة الأوروبية والمسألة الفلسطينية ــ أبعد من اليهودي والإغريقي / اليوناني» (continental philosophy and the Palestinian question, beyond the jew and greek, 2017)، الذي سيصدر هذه السنة بترجمته العربية. أمّا أهميته، فتقع في أنه يناقش فكرة كون الأشكناز «الضحية الفريدة» لدى الفيلسوف الفرنسي إيمانويل لِفيناس، والتي تلتف حولها مجموعة من الفلاسفة الغربيين.
(داريو كاستيليجيو ــ المكسيك)

كذلك، في كونه مناسبة لربط ذلك بسيرك الهواة المسمى «مؤتمر الهولكوست» في فلسطين المحتلّة، وبقيام بعض المعمّمين من آل سعود الوهابيين وحلفائهم من مختلف الانتماءات والمذاهب، بزيارة معسكر أوشفتز غير عابئين بآلام الشعب الفلسطيني ونكبته المرتبطة على نحو وثيق بمسألة ما يسمى «الكارثة». وهذا ينطبق أيضاً على المشاركين في ذلك المؤتمر، الذين تجاهلوا مأساة الشعب الفلسطيني وطبيعة كيان العدو الصهيوني الاستعماري ــ الاستيطاني العنصري، مع أنه كان بإمكانهم رؤية انعقاده في ظل جدار الفصل العنصري، الذي كان بإمكانهم مشاهدته من شبابيك غرف فنادقهم ومقر المؤتمر.

تعريف بالكاتب
قال الكاتب: هناك أصول، أو بالأحرى بدايات، متعدّدة لمؤلف «الفلسفة الأوروبية والمسألة الفلسطينية». أحدها، وهو عنصر مشترك بين مئات ألوف الفلسطينيين، هي «النكبة» التي أجبرت والدَيّ على مغادرة فلسطين إلى لبنان، حيث ولِدتُ أنا وإخوتي الثلاثة الأكبر مني سناً. وفي عام 1976، اضطُرّت عائلتي للانتقال ثانية إلى أوروبا، بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، ولم أكن قد أتممت العام الخامس من عمري؛ تلك كانت بداية أخرى.
نشأت وأنا لا أعرف سوى القليل عن «أصولي» الفلسطينية. مع ذلك، لم تفارقني المسألة الفلسطينية، بل ظلّت تسكن أفكاري، بينما كنت أتابع دراساتي العليا في الفلسفة والآداب، وَجَّهتُ اهتماماً خاصّاً إلى مسائل الهوية والمعنى، وإلى مسائل سياسة وأخلاقيات الاختلاف، لكن من دون التعاطي صراحة مع المسألة الفلسطينية، الأمر الذي لم يحصل إلا بعدما قرأت أفكار الفيلسوف الليتواني ــ الفرنسي الأشكنازي ــ إيمانويل لِفيناس Emmanuel Levinas عن مذبحة صبرا وشاتيلا، وأعدتُ قراءتها، فتعاظم شعوري بخيبة الأمل والغضب، وتلك كانت انطلاقة أخرى، إذ بدأت أفكّر على نحو أكثر عمومية وأكثر التزاماً بالمفاهيم، بتعاطي الفلسفة الأوروبية مع المسألة الفلسطينية. ماذا لدى الفلسفة لتقوله عن الفلسطيني؟ هل بوسعها المساعدة في تقديم أي أفكار معمّقة بشأن هذا الصراع المأساوي؟ أم أنّ هذه الفلسفة متورّطة نوعاً ما في المشكلة، إذا أخذنا في الاعتبار انشغالها بالمسألة الأقدم، أي «المسألة اليهودية»؟

بعد أوشفتز ــ الفلسفة واليهودي
اكتسبت «المسألة اليهودية»، بعد أوشفتز، معنى مختلفاً على نحو حاسم في الفلسفة الأوروبية، حيث أصبحت شخصية اليهودي هي التي تصوغ المشهد الأخلاقي في الفكر الأوروبي، إن لم نقل صارت تهيمن على أفق التفسير ــ interpretive ــ في هذا الفكر. يقول تيودور أدُرنو (Theodor Adorno) ــ فيلسوفٌ وعالم اجتماع وعالم نفس وموسيقي ألماني ابن لوالدة كورسيكية كاثوليكية وأب ألماني كان أشكنازياً ثم اعتنق البروتسطنطية ــ: «نظْم الشعر بعد أوشفتز أمر بربري... كما أصبح الطرح العادي للأفكار الفلسفية نوعاً من الفحشاء بعد أوشفتز». فقد واجهت أوهامُ الحداثة بشأن التطوّر والعقل المنطقي، الواقعَ الصادم لمعسكرات الاعتقال والتأثيرات المدمّرة للتقنيات الحديثة والعقلانية الوسيلية (instrumental rationality).
يقول البعض إن جان بول سارتر كان الأول، بين فلاسفة القرن العشرين، الذي رفع في مقالته «تأمّلات في المسألة اليهودية» Réflexions sur la Question juive، الصادرة عام 1946، من شأن اليهودي، وأسبغ عليه سمة رومانسية، واضعاً هذه الشخصية في مواجهة الذات البورجوازية الزائفة في فرنسا. إضافة إلى تصوير اليهودي بصورة شخصية تواجه تهميشاً مدمِّراً، حظي اليهود في كتابات لِفيناس بقوة بلاغية وتحليلية فائقة، حيث أهدى مؤلّفه Otherwise than Being، الصادر عام 1974، إلى ضحايا «الكارثة» (وهي الترجمة العربية الدقيقة للمفردة العبرية ــ الإسرائيلية ــ «شوا» ــ).
في أعقاب ما حصل في أوشفتز، أعاد لِفيناس النظر، شأن عديدين، في وضع الفلسفة الذي أصبح يفتقر إلى اليقين. ورغم أنه لم يرتبط بتلك الكارثة بالتزام ثابت، ينبغي النظر إلى فلسفته على أنها دليل أو شهادة على ذلك الحدث غير المسبوق، أو على أزمة الفلسفة التي أوجدها الحدث المذكور، أو على المهمة التي لا يمكن فهمها والمتمثِّلة في محاولة التعاطي مع أهوال التاريخ.
شكّلت منظومةُ الأخلاق اللِّفيناسية (Levinasian) الجديدة تجذّراً في الروحية التوراتية لأورشاليم / القدس... فعندما أجاب لِفيناس سلباً، ومن دون أي مواربة، عن سؤال: «هل يُعتبر علم الوجود علماً أساساً؟»، فإنه افترض أنّ الأخلاق هي التي تتجاوز اللوغوس (Logos) الإغريقي وعنفه التأويلي (hermeneutic) ــ «الإمبريالية الوجودية فيه» / ontological imperialism ــ وشخصية اليهودي بما هو الشخصية الأنموذجية للمغايرة. وبذلك، تُعدّ منظومة أخلاق لِفيناس، المسكونة بشبح «الكارثة» اليهودية، تحدياً جذرياً لكل ما تدين به الفلسفة للفكر الإغريقي.
لكن كيف يمكن التعبير عن أخلاقيات الآخر هذه في الحياة العملية؟ بما نخاطر عندما نتصور أن الآخر هو يهودي، حصراً؟ يمكن القول إن عبارات موريس بلانشوت (Maurice Blanchot) ــ وهو كاتب وفيلسوف ومنظّر أدبي فرنسي أقام في باريس إبان الاحتلال النازي ــ «مهما يحصل، أنا في صف إسرائيل. أنا في صف إسرائيل عندما تعاني. أنا في صف إسرائيل عندما تعاني نتيجة ابتلائها الآخرين بالمعاناة»، تعبّر خير تعبير عن انحياز (Parti Pris) العديد من المفكرين بعد أوشفتز. هذا الدعم المطلق اللامشروط ليهود إسرائيل / لدولة إسرائيل، يعوق نشوء أي التزامات تجاه غير اليهود، أو التماهي المحتمل مع هؤلاء، مهما كان آنياً. فهو يتعاطف مع اليهود، بكل وضوح، ليس فقط عندما تعاني إسرائيل العدوان، بل يتعاطف معهم حتى عندما تبتلي إسرائيل، الطرفَ الذي يمثل الآخر بالنسبة إليها بالمعاناة، وهو موقف لا يمكن وصفه إلا بالضلال. وهنا قد نتساءل، ماذا سيحلّ بالعرب أو بالمسلمين، وهم يمثّلون الآخر بالنسبة إلى الآخر، إن جاز التعبير، في إطار بنية فلسفية من هذا النوع؟
يلجأ هذا المؤلّف إلى أنموذج الفلسطيني وسيلةً لطرح تساؤلات تتصل بالدَّيْن الأخلاقي والفلسفي الذي ندين به لأورشاليم / القدس وأثينا، كما تتصل باعتمادنا على هاتين المدرستين. إن إثارة المسألة الفلسطينية، بالتزامن مع المسألة اليهودية، تساعدنا على إعادة صياغة العلاقة بين الفلسفة والتاريخ، وبين الأخلاق والسياسة، حيث نتوصل إلى طرح التساؤلات بشأن نزعة تحويل الآخر إلى كيان وجودي وتجريده من مجال قوته الأرضية والتاريخية والديناميكية.
إن وضْع أورشاليم / القدس في مواجهة أثينا، يوضح الكثير بشأن التفكير الأخلاقي لدى لِفيناس، كما يمثّل نزعة مهيمنة في الفلسفة الأوروبية المعاصِرة. فلِفيناس يختصر التاريخَ البشري، إن لم نقل البشرية بكاملها، وبأسلوب ينطلق من المركزية الأوروبية إلى هذين الأصلين المزدوجين: «أنا غالباً ما أقول، مع أن التصريح بذلك علناً يُعتبَر أمراً خطراً، إنّ البشرية تتكوّن من التوراة والإغريق. وكل ما عدا ذلك يمكن ترجمته: كل ما عدا ذلك، كل ما هو دخيل لا يزيد عن كونه موسيقى راقصة».

اختبار لِفيناس
ينبغي لأي أخلاقيات تتعلق بالآخر، ولكي تكون جديرة بهذا الاسم، أن تجتاز اختبار السياسة؛ إذ يتحتّم على أي فلسفة أخلاقية تتعلق بالمغايرة المطلقة أن تواجه الوقائع المادية للسياسة. مع ذلك، يواجه الاختبار من هذا النوع على الدوام خطر التحريف، إذا لم يؤدِّ سوى إلى تحويل الأخلاق إلى سياسة، عن طريق وضْع الصيغ. يؤكد لِفيناس، انطلاقاً من حذره إزاء (عدم) إمكانية تفسير مقاربته، أنه لا يمكن إدراج الأخلاق ضمن أي مجال معرفي آخر. فهو يجعل من الأخلاق، وليس السياسة أو علم الوجود، «الفلسفة الأولى». ولكن لماذا يصرّ لِفيناس على هذه الفكرة؟ أين الخطر الكامن في وضع إطار مفاهيمي للآخر، أو للذات، أو لباقي العالم؟ أليس ذلك، في نهاية المطاف، مهمة الفلسفة؟ هو كذلك بالتأكيد، وهنا المشكلة. يكمن الخطر، من منظور لِفيناس في إخضاع الآخر إلى الفيلسوف، واختزاله إلى مادة للمعرفة، أي تحويل الاهتمام بالآخر إلى معرفة الآخر؛ باختصار، معاملة الآخر البشري كأي موضوع آخر في العالم.
يرفض لِفيناس إضفاء صبغة تاريخية وثقافية على الجار، على الأقل عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين، كما يرفض بصورة قاطعة الطبيعة الوجودية للسؤال. هنا، يمكن أن نوافق على ما يقوله سلافوي جيجيك ــ فيلسوف وناقد ثقافي ماركسي من سلوفينيا ــ إن «ما يرمي إليه لِفيناس، في الأساس، هو أن احترام المغايرة، من حيث المبدأ، هو احترام غير مشروط (أسمى أشكال الاحترام)، لكن عندما يواجه الفردُ آخرَ محسوساً، ينبغي عليه، مع ذلك، التأكُّد من أنه صديق أو عدو. باختصار، في المجال العملي للسياسة، احترام المغايرة لا يعني شيئاً، بالمعنى الدقيق للعبارة.
اكتسبت «المسألة اليهودية» بعد أوشفتز معنى مختلفاً على نحو حاسم في الفلسفة الأوروبية حيث أصبحت شخصية اليهودي هي التي تصوغ المشهد الأخلاقي في الفكر الأوروبي


يمكن أن نلمس في جواب لِفيناس على سؤال سلمان ملقا (salmon malka) ــ صحافي مغربي سفاردي ــ محاولةً لتفسير الفرق بين الأخلاق والسياسة، تطبيقاً للمعنى الذي يفهمه من كلمة «العدالة»، على مذبحة صبرا وشاتيلا: هكذا كوّن رأيه في ما يتصل بالحدث (تحديد «من هو على حق ومن هو على باطل، من هو صائب ومن هو جائر»)، في الوقت الذي أحجم فيه، منذ البداية، عن اتخاذ موقف نقدي من دولة إسرائيل، كما عبّر عن الفكرة في موضع آخر: «أنا لا أسمح لنفسي بالحديث عن إسرائيل، فأنا لست في إسرائيل، وأنا لا أعيش المغامرة النبيلة التي تعيشها إسرائيل ولا أخوض يومياً في تلك المخاطرة الكبرى». ولا حاجة طبعاً للقول إن رأي لِفيناس لم يمر من دون اعتراض من جانب قرّائه، المتعاطفين معه والمُعادين له على السواء. يلخّص مارتن جاي (Martin Jay) ــ مؤرّخ وكاتب وفيلسوف أميركي أشكنازي ــ بدقّة، الفكرة التي أصبحت تمثِّل الفهم الشائع لرأي لِفيناس في ما يتصل بالمذبحة، ولرأيه بشأن ما يميّز الجار الطيب (الجار بوصفه كائناً مماثلاً) من الجار الشرير (الجار بوصفه عدواً): «هنا يبرز على نحو مفاجئ، وبواسطة الحدود الثقافية والبيولوجية لتحالف القرابة المباح، لا تناهي المغايرة، وتجاوز الوصايا الأخلاقية للكينونة الصرفة، وإحلال الذات محلّ الآخر بما يشبه احتجاز رهينة»... هنا، يبدو لِفيناس وكأنه يعلّق «بغضه للمجتمع» وينحاز إلى الهوية الجمعية لليهود.

صناعة الضحية الفريدة
هناك مبادرة أنموذجية يقوم بها القرّاء المؤيدون للِفيناس، الذين يفضّلون عدم التركيز على التوتر والخلاف القائمَيْن بين الأخلاق والسياسة، لكن من دون أن ينسوا الإشارة إلى التباينات المهمة بينهما، وهي محاولة البرهنة على عدم القابلية للقياس المشترك (incommensurability) بين المجالين المذكورين. لكن ذلك ينطوي على خطر التمسك المفرط بفكرة اختلاف الضحية، «تحت مسمّى عدم القابلية للقياس المشترك. التشكيك بقواعد لِفيناس المستخدمة لدراسة وضع الضحية، وبعلم الظاهرات الخاص بالعدو الذي تؤدي إليه القواعد المذكورة، يعني، كما يقول هَوَرد كيجل (howard Caygill) ــ أستاذ الفلسفة الأوروبية المعاصرة ــ أن تتكون لدينا «فكرة أكثر تحديداً ووضوحاً» في ما يتصل بإجابة لِفيناس على تساؤل سلمان ملقا. وهنا، لن تفيد أي ألاعيب فلسفية من نوع: يجب عدم الخلط بين الآخر المحسوس عملياً (empirical) والآخر الخيالي. ألمحت إجابة لِفيناس إلى مسألة سياسية أكثر أهمية: بلاغيات اليهودي بوصفه «الضحية» الأبدية الفريدة. أي أن وضع الضحية اليهودية يتحوّل إلى هوية متجاوزة للزمن (وبالتالي غير مسيّسة)، بدل أن تكون ناتجة عن حالة ضرر تاريخية محددة؛ وبالتالي يجري دمج المعتدين ببعضهم حيث يتماثلون ويُصنَّفون جميعاً ضمن فئة المعادين لليهود. ومن ثم يُصنَّف كل اليهود بعد الكارثة، وبمفعول رجعي، ضمن فئة الضحية، وهو ما يجعل كل اليهود المعاصرين، سلفاً، ضحايا دائمين.
تستند فكرة لِفيناس الخاصة بظاهراتية العدو، إلى هذا النوع من استثمار شخصية اليهودي بوصفه الضحية المطلقة في التاريخ. هو يصنّف الكارثة ضمن المآسي الكبرى في التاريخ الإنساني، لكنه يشدّد على الوضع الأنموذجي للكارثة اليهودية. فالحديث عن أقصى درجات المعاناة البشرية، يعني الحديث عن أوشفتز. هنا، تؤدي دولة إسرائيل دور الحل الذي يعوِّض عن هذه المصيبة غير المسبوقة التي لحقت باليهود، وهي تستمد شرعيّتها من هذه الحادثة التي لا سابق لها، والتي لا تُفهم فقط بوصفها فريدة، أو مختلفة عن الأحداث الأخرى، بل بوصفها تستحق التعويض عنها، على نحو فريد. فالمصيبة التي لحقت باليهود (بل قل دوماً: بالأشكناز) في «الكارثة»، لا تبرز فقط بين المصائب الأخرى، بل تفوقها من حيث الأهمية، وبالتالي فإن التعويض عنها يتمتع بالأولوية على الضرورات الأخرى. ففي أعقاب أوشفتز، أصبحت فكرة إنشاء إسرائيل منطقية تماماً من منظور لفيناس وآخرين عديدين، «ما أود قوله فقط هو أنه، وفي الظروف الحالية... يبدو إنشاء دولة الصيغة الوحيدة التي يمكن بها لإسرائيل، الشعب والثقافة، البقاء على قيد الحياة». لكن لا وجود لأي تردّد بشأن تجلّي تلك الفكرة على أرض الواقع، ولا لأي اهتمام بتأثيرها في الآخرين، أي في غير اليهود، بل كان هناك يقين بأن هذا الشكل من الدولة هو الخيار الوحيد الممكن المتوفّر.
مع ذلك، لدى مقارنة وجهة نظر لِفيناس، التي تتسم بقلّة التبصّر، بموقف مارتن بوبر (Martin Buber) ــ فيلسوف نمساوي أشكنازي ــ الذي ينمّ عن ضمير حي، لا يبدو منطقه وكأنه البديهي: «استقلال المرء يجب ألا يحصل على حساب استقلال طرف آخر. والمستوطَنة اليهودية يجب ألا تطرد أي فلاح فلسطيني، والهجرة اليهودية يجب ألا تؤدي إلى تدهور الوضع السياسي للسكان الحاليين، بل ينبغي أن تستمر في تحسين وضعهم الاقتصادي».
رغم التزام بوبر بالفكر الصهيوني، فإنه لم يُسقِط الفلسطيني من اعتباراته السياسية ــ الإثنية. فهذا النوع من الصهيونية يؤكد أنه لا يمكن لليهود ادعاء حق حصري في أرض فلسطين التاريخية. مع ذلك، غابت وجهة النظر هذه عندما حقّقت الصهيونية تعبيراً سياسياً بصورةِ دولة إسرائيل، التي حوّلت الفلسطينيين من سكان الأرض الأصليين إلى عدو لفكرة «الأرض الموعودة».
يعتقد لِفيناس أن ما يجعل الفلسطينيين عدواً بدهياً (a priori) هو، برأيه، افتقارهم للكرم تجاه من يبدو وكأنه الآخر الأبدي، هو الأسلوب الذي تجاهلوا به محنة ضحايا «الكارثة» اليهودية، (بل قل: الأشكنازية). ومع أنه لا يعتبر الفلسطينيين مسؤولين مباشرة عن الكارثة الأخلاقية، فهو يتهمهم بأنهم لم يُظهروا حسن ضيافة أو تجاوباً مع دعوة اليهود، وأنهم لم يقبلوهم كإخوة ولم يسعوا إلى إقامة علاقات ودية مع هذا الآخر الفريد. فالضمير الحي يُملي على الفلسطينيين أن يرحّبوا بدولة إسرائيل (وليس العكس بالعكس)، وأن ينجحوا حيث فشل الأوربيون... ما من شك في أن الغرب، وليس العالم العربي، هو من يتحمل مسؤولية أوشفتز، إلا في حال تقبّل المرء فكرة أن المسؤولية الإنسانية لا تتجزأ، وأن كل البشر مسؤولون عما يقوم به الآخرون. بعبارة أبسط، إما أن تدعم الصهيونية (وتصبح أخاً لإسرائيل / لليهود)، أو تكون مجرّداً من الضمير الأخلاقي (وتصبح عدواً لإسرائيل / لليهود). مسار النقاش هذا، يثبّت وضع الضحية اليهودي بوصفها شرطاً أبدياً وأولوية أخلاقية تتجاوز غيرها من الأولويات.
كثيراً ما نقرأ حالياً، أن كلمة «يهودي» هي فعلياً اسم مختلف عن الأسماء العادية. ويبدو أن ثمّة من يفترض أنّ امتياز كون الفرد ضحية خارج نطاق المقارنة، وعلى نحو يشبه خطيئة أصلية معكوسة، هو امتياز يمكن توريثه، ليس فقط إلى المتحدّرين مباشرة من الأصل، والمتحدّرين منهم أيضاً، بل إلى كل من يشمله ذلك التعبير ذي الدلالة، سواء أكان رئيس دولة أم جندياً في جيش يمارس قمعاً وحشياً ضدّ أناس صودرت أراضيهم.
اعتبارُ اليهودي «الضحية» يُبرِز الآخر، والمفارقة أنه يجرّده أيضاً من واقعيته أو من خصوصيته التاريخية. أو كما يقول جيل دولوز (Gilles Deleuze) ــ فيلسوف فرنسي كتب في الفلسفة والأدب والأفلام والفنون الجميلة ــ تمكّن دعاة الصهيونية من تحويل «أسوأ إبادة جماعية في التاريخ» إلى «شر مطلق»، وتبنّوا «مقاربة دينية وصوفية» للكارثة بدل «المقاربة التاريخية». لكن هذه المبادرة التأويلية، لم يكن من شأنها فقط إسباغ الغموض على الحدث، بل إنها خلّدت الشر الكامن فيه ليشمل آخرين، «أبرياء آخرين». هذا التحويل (من إبادة جماعية تاريخية إلى شر مطلق، من ضحايا حقيقيين إلى ضحايا أسطوريين)، يمنح الحق لأي يهودي إسرائيلي، ولأي يهودي أيضاً، في المجاهرة بطبيعته الشمولية (تاريخ اليهود هو تاريخ البشرية) ويعطيه، في الوقت عينه، الحق في التمسّك بالاختلاف (الدفاع المُحِق عن الدولة اليهودية، وهي دولة لا يمكن أن تُلصَق بها تهمة إرهاب الدولة، على سبيل المثال). لكن هذا التحوّل ينطوي على مضامين سياسية، ولا سيما بالنسبة إلى أي شخص يجد نفسه في موقع المعارضة لإسرائيل وسياساتها. وغالباً ما يجري وصم كل من يحاول كشف العلاقة المرتبكة بين هذين الادّعاءَين (الشمولية والاختلاف)، وتفحّص هذا الدمج الملتبس بينهما، بتلك التهمة المؤذية، أي معاداة اليهود. ومع وجود هذا التهديد الدائم، نجد أن الفلسطينيين، وكل من يناصر القضية الفلسطينية، يتعرّضون باستمرار لمحاولات إسكاتهم وإقصائهم عن مجال الخطاب العقلاني العام، وقد يصل ذلك، كما يقول ألان باديو (Alain Badiou) ــ فيلسوف فرنسي، 1937 ــ إلى ما يشبه «الابتزاز السياسي».
تعود أصول الصراع بين اليهود والعرب إلى فكرة الصهيونية. فلم تهدأ حدّة الصراع منذ إنشاء دولة إسرائيل، على قطعة صغيرة من أرض قاحلة تنتمي إلى بني إسرائيل منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، ولم تتخلَّ عنها الجماعات اليهودية. لكن الحاصل، هو أنّ هذه القطعة الصغيرة من الأرض كانت مأهولة بشعب تحيط به أراضٍ شاسعة تضم الشعب العربي الكبير، الذي يشكّل ذلك الشعب جزءاً منه. ويُطلق هذا الشعب على نفسه لقب الشعب الفلسطيني.
يشكّك لِفيناس في شرعية الفلسطينيين كشعب، فَهُم «يطلقون على أنفسهم اسم الفلسطينيين»، لا أكثر، وهذه حجّة لا يُعتدّ بها أمام عمق جذور ورسوخ ذرية «بني إسرئيل». وعندما يدمج لِفيناس الفلسطينيين مع «الشعب العربي الكبير»، فإنه بذلك ينكر عليهم أي خصوصية، وأي إقرار بهشاشة وضعهم كشعب وانكشافهم في مواجهة الأذى، وهو ما يسهم في زيادة استلابهم وطمس وجودهم. وباعتبار هذا الرأي الذي يعوزه التوازن بشأن الصراع، يبدو أنّ من الصعب على لِفيناس أن يتخيّل اليهود بأي صورة أخرى غير صورة الضحايا. قد تدور في باله فكرة أن يكون اليهود هم من يضطهدون العرب، لكنه سرعان ما يصرف النظر عنها، إذ يرى أن اليهود ودولة إسرائيل هم الأهداف «الأكثر هشاشة وضعفًا» أمام الإرهاب، وليسوا المسبّبين للإرهاب. لقد أطلق أوشفتز بلاغيات الضحية الأبدية، وها نحن ما زلنا نشهد تأثيراتها.
إن استحضار أوشفتز (الحدث الذي كشف الضعف التام لليهود)، يسعى إلى إنتاج شكل من النزعة الذكورية الإقصائية المفرطة. يعتقد أشيل مبيمب (Achille Mbembe) ــ فيلسوف وعالم سياسة ومحلّل للسلطة الاستعمارية من الكاميرون ــ أنّ استغلال ذكرى أوشفتز، يؤدي إلى «صهر القوة ووضع الضحية وعقدة التفوق»، والمفارقة أن ذلك يقضي على أي أمل بالتعامل بعقلانية مع الفلسطينيين، واعتبارهم ضحايا، أو كما يقول إدوارد سعيد «ضحايا الضحايا».

* ترجمة: مها حسن بحبوح وزياد منى
** اختيار النصوص وإعدادها: زياد منى