في ذكرى رحيل الدكتور جورج حبش، يدفعني افتقادي له وحنيني إليه، إلى حديث معه من القلب إلى القلب، ولم يكن القلب منّي بعيداً عن العقل ولا كان عنده، فكلانا أخضع قلبه وعقله لقضايا الأمة والوطن العربي الكبير، وفلسطين منه القلب والعقل.كم أفتقدك يا أبا الميس، وكم أنا بحاجة للحديث معك وتبادل الرأي... أحسّ بالغربة داخل الوطن، وأشعر بالوحدة في ظلّ ما يجري ويدور. صحيح أننا كنّا دائماً نواجه حالات فساد وانحراف، خلال مسيرتنا، لكنّ طغيان الفساد، وانهيار الأخلاق، ونخر السوس للأوصال، وانتشار الكذب والغش والسرقة، وفوق هذا تحويل الخيانة إلى «وجهة نظر»، وإسناد أنظمة عربية للصهاينة الذين قاومناهم ومازلنا... كلّ هذا جديد علينا، وطامّة كبرى نواجهها هذه الأيام.
وفي الوطن «غربتي»، تجد الناس صامتين لا يتحرّكون، وكأنهم استسلموا للجزّار ووضعوا رؤوسهم في ازدحام الرؤوس نحو المقصلة!
قيادات تكذب على الجماهير وتسمح بالفساد وبيع الضمائر، لخدمة العدو (هذا إذا لم تشارك هي في ذلك)، وشرطة تلاحق المناضلين! قيادات تقاتل دفاعاً عن مصالحها الخاصة، تاركة مصلحة الوطن والقضية على قارعة الطريق... واستفحال من قبل العدو لقضم الأرض وهدم البيوت وتهجير الأُسر، وتهويد القدس وضم الضفة الغربية.
ويحلو لكلّ هذه القيادات، التي هانت واستسلمت للهوان، أن تضيّق الخناق على الصالحين والشرفاء والمتمسكين بزيتونة تتمسك بالأرض، حتى يتمسّكوا هم بالأرض التي يسرقها العدو من تحت أقدامهم، حتى لا تصل صرختهم إلى مسامع من تبقّى لنا من صالحين. والأهم، كي لا تصل إلى الجيل الذي بلغ الفطام منذ ولادته، لأنه جيل المستقبل الذي لن يمكّنهم من التحكم وحرف المسيرة.
إن كنت أشكو وحدة قاتلة، وشعوراً بالغربة في الوطن، فهذا لا يعني أبداً يا حكيم أننا نستسلم أو نهين... نحن، كما علّمتنا، إن لم نُحرّر فعلينا أن نستمر في القتال حتى يكون عمرنا وحياتنا التي بذلناها في سبيل الوطن، شعلة تنير الطريق لمن يأتي بعدنا. نحن الذين نجعل من قضيّتنا قضية لا تموت ولا تفنى، نموت وتعيش القضية، نموت ويبقى الوطن.
يا حكيم، يا رفيقي وصديقي ومعلّمي (رغم الظروف التي سردتها لك نحن ما زلنا نحن، من حيث ما تعاهدنا عليه، وأقسمنا الوفاء له. نحن قوم رضعنا حليب القومية العربية، وفطمنا على نيران مقاومة من احتل الأرض والوطن)، نحن مقاتلون جفّت مآقينا. علّمتَني وأنا في العشرينيات يا حكيم، أنّ القتال بعين واحدة يُفسح المجال للعقل أن يرى كعين ثانية، وأنّ الكتابة بإصبعين قد تأتي بكلام يقضّ مضاجع العدو، ويسبح في سماء حرة أبية.
علّمتَني أنّ تفجير العدو لسمعي لن يمنعني من صدّه، وقنصه وتحرير الأرض التي دنّسها.
علّمتَني كيف يتعامل الجسد ليمكّن العقل من قيادته عبر الأهوال، ونحو شاطئ الحرية والكرامة والنهوض والتقدّم. والآن نجمع ما علّمتنا إياه، ونحمله في كيس صغير، كيس مخصّص لكسرة الخبز وحبّات الزيتون، إنه زادنا، إنه زوادتنا، إنه مصباح يفكّ ضوؤه أسرار الظلمة، ويفتح لنا باب الحرية.
وفي الختام أيها الفارس الهمام، أحييك حيثما كنت، وأُطلق الصرخة الأولى:
شعبك جبار يا عروبة
حديد ونار يا عروبة
عالاستعمار يا عروبة
وأهتف كما هتفنا معاً:
أخويا في الحجاز أمم آبار الغاز
وأخويا في الكويت أمم آبار الزيت
لتكن ثورة عربية تمتد من المحيط للخليج.

* كاتب وسياسي فلسطيني