ما لا يعرفه الكثيرون عن قائد «فيلق القدس» الجنرال قاسم سليماني (1957-2020)، أنّه كان من أكثر ضباط الحرس الثوري الإيراني ثقافة ووعياً؛ إن كان على مستوى المعرفة الدينية ذات البعدين التنويري والثوري، أم على مستوى المعرفة السياسية الاستراتيجية ومتابعته الحثيثة والدقيقة لمعظم ما كان يصدر في هذا المجال من دوريات عن مراكز الأبحاث والدراسات العالمية في الشرق والغرب، إذ كان يتقن لغات عديدة، من بينها اللغة العربية. والمفارقة أنّ اللواء قاسم سليماني كان يؤمن بـ«سلام الأقوياء»، وله في ذلك مقاربات فكرية، رغم أنّ البعض كان يحسبه على المعتدلين من قادة حرس الثورة، بخلاف ما يُحسب قائد الحرس الثوري الحالي الجنرال حسين سلامي.إنه «الرجل الغامض، وحتى «الرجل الأقوى» في الشرق الأوسط، على حدّ وصف جان ماغوير، الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي إيه». ولكن أيضاً، ما لا يعرفه كثيرون هو أنّ الحاج قاسم الصامت شبه الدائم الذي كان يمتلك شخصية فولاذية مشهودة غلبت على صورته العامة، كان في الوقت ذاته متواضعاً حنوناً حيّاءً رحيماً، ومن البكائيين في قيام الليل متضرّعاً إلى الله بأن يرزقه الشهادة، التي كانت في مناجاته الدائمة.
وكانت علاقته الوثيقة جداً بالقائد الحاج عماد مغنية (1962-2008)، قد لعبت دوراً أساسياً في حرب تموز التي شهد سليماني شخصياً معظم أيامها وتفاصيلها، بل ويمكن القول إنّه قد شارك فيها وفي الخطط التي رسمت النصر في تموز عام 2006. أمّا عن علاقة سليماني بجمال جعفر التميمي (1954-2020)، المعروف بأبي مهدي المهندس (رئيس أركان «الحشد الشعبي» العراقي) ومؤسّس كتائب حزب الله في العراق، والذي استشهد معه في الغارة الجوية الأميركية فجر الجمعة 3/1/2010، فإنّ هذه العلاقة تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي عندما كان المهندس عضواً بارزاً في المجلس الأعلى الذي كان يقوده السيد محمد باقر الحكيم (1939-2003).
إنه «الرجل الغامض، وحتى «الرجل الأقوى» في الشرق الأوسط، على حدّ وصف جان ماغوير، الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي إيه»


وفي السنوات الأخيرة، شكّل سليماني والمهندس ثنائياً جهادياً متميزاً في العمل الدؤوب والمتكامل الذي ظهر إلى العلن مع تأسيسهما لـ«الحشد الشعبي» العراقي، الذي حظي بتأييد المرجعية الدينية في النجف، وقام بمحاربة «داعش» وحرّر معظم التراب العراقي من الإرهاب التكفيري العابر للحدود.
«القائد الصامت» كانت عرفته أيضاً الميادين السورية في التخطيط والتصدي لإرهابيي «جبهة النصرة» و«داعش»، وفي هذا الأمر تفاصيل لا تحصى الآن.
أمّا عن اغتياله بالأمس في بغداد مع المهندس وعدد آخر من ضباط «فيلق القدس» ومسؤولين في «الحشد الشعبي» بأمر مباشر من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فلا يبدو أنّه سيمر من دون ردّ مؤلم للإدارة الأميركية ومصالحها في الشرق الأوسط تحديداً، لا سيما مع الوعد الذي قطعه آية الله علي خامنئي بعد ترؤسه مجلس الأمن القومي الإيراني للمرّة الأولى، ومن ثم تعيينه الفوري للجنرال إسماعيل قاآني لقيادة قوة القدس. قاآني الذي لا يقل كفاءة ولا خبرة ولا حنكة عن سليماني، كان شغل عدة مناصب قيادية في الحرس الثوري الإيراني، كان آخرها النائب الأول لسليماني.
وبعد إعلان ترامب مسؤوليته المباشرة في إعطاء الأمر باغتيال سليماني والمهندس ــ ربما لتحييد إسرائيل ــ بات من شبه المؤكد أنّ المنطقة قد دخلت في حقبة ــ وليس مرحلة ــ صراع حتمي، لن ينتهي إلّا بإعادة رسم خريطة قوى جديدة للمنطقة مشابهة لما انتهت إليه الحرب العالمية الثانية، ولكن هذه المرة بشكل علني تعلنه الدول رسمياً. وقد تسهم أو تستفيد منه روسيا والصين بشكل مباشر أو غير مباشر، لأنّ اغتيال قائد بحجم قاسم سليماني ــ وهو المهندس الميداني الأول لكلّ محور المقاومة في المنطقة ــ قد أعطى الإشارة لهذا النوع الجديد من الصراع، الذي تختلف أدواته عن الكلاسيكية المتعارفة؛ طبعاً إذا ما قرّرت إيران ومحور المقاومة إطلاق الجيل الثاني من هذه الأدوات ــ وليس أمامهما إلّا إطلاقه ــ والتي ليس أقلّها فرض واقع سياسي وعسكري مغاير للتوقعات في زمانه ومكانه، وتكون نتائجه بقدر هزيمة حرب كبرى لأميركا في المنطقة.