لا يختلف اثنان على أحقية المطالب التي ترفعها التحرّكات الجارية في لبنان، ولا على مستوى الفساد الذي طعن في السلطة، ولا مستوى الانهيار الذي بلغه الوضع الاقتصادي في البلد، وانعكاسه على مجمل الحياة العامة، والحياة الاجتماعية، وأوضاع المواطنين، إلى حدّ لم يعد فيه الوضع قابلاً لمزيد من التحمل. كذلك، لا يختلف اثنان على أن أي تحرّك يمكن أن يحصل، وبغض النظر عن أهدافه، والمآلات الموضوعة له، يفترض مبررات وحججاً، هي كامنة في الأوضاع العامة، وفي لبنان هي متوافرة بكثرة، وبطريقة حادة، ويمكن لملمتها والحصول عليها بأسهل السبل. في هذه الأجواء، تنطلق التحرّكات الاحتجاجية في لبنان. تستند إلى مفاهيم الفساد والسرقات والهدر، الذي بلغ ذروة لم يعد الجمهور قادراً على تحمّلها. إنه تحرّك مدعوم بالمبررات الكافية لقيامه، ولعنفية التعبيرات عنه. لقد سبق لاحتجاجات كهذه أن أطلقتها الحركات التي كانت تصنّف باليسارية، مثل الحزب الشيوعي اللبناني، وحركة الشعب، ومنظمات أهلية موضعية، وحركة مواطنين ومواطنات في دولة، وما إليها من تجمعات. ولم تكن هذه التحرّكات تحمل إلا الأسباب عينها التي تحملها الاحتجاجات الحالية، لكنها لم تكن لتستطيع الصمود والاستمرار أكثر من يوم واحد، أو بعضه، فلأي تحرك حاجاته اللوجستية، مادياً ومعنوياً.
أما أن تستمر التحرّكات الحالية كل هذه المدة الزمنية، رافعة الشعارات ذاتها التي رفعتها قوى اليسار، التي باتت يساريتها افتراضية وموضع جدل وبحث، فالسبب يقع في موضع آخر، وبالتحديد في ماهية الحركات التي تولت قيادة التحركات، من جمعيات وأحزاب وتيارات صارت معروفة، كما هو معروف منهلها الذي مكّن من أن تستمر، وتتواصل كل هذه المدة الزمنية.
في هذه الأجواء، لم يعد مخفياً على أحد كيفية انطلاق هذه الحركات، ومن أتقنها، وبلور أسسها منذ عشرات السنين، وبداية منذ ربيع براغ ١٩٦٨، المدة الكافية لنسيان معنى «الربيع» السياسي، لكن لتذكرنا به ربيعات العالم العربي في تونس ومصر، ومحاولات نقله إلى سوريا، وهو النمط من التحرّكات التي تقوم حالياً في لبنان، مستخدمة الشعارات المطلبية التي طرحتها قوى اليسار اللبناني سابقاً، من دون أن تستطيع الصمود والاستمرار كل هذه المدة.
من يريد أن يفتح عينيه على التحركات الجارية حالياً، في آلياتها، وتقنياتها، يدرك مصدرها، وأين تصب، ومن يمكنه دفعها للصمود والاستمرار، بما تحتاج إليه من دعم لوجستي، ومالي، وأدوات من جمعيات، وأحزاب، وتيارات، وتجمعات. إنها حركات باتت معرفة هويتها من بديهيات الفهم السياسي، إلا لمن لا يريد أن يفهم، ولا أن يتعظ على قاعدة: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين».
أما السؤال عن أسباب انطلاق هذه التحركات، في هذا الوقت بالتحديد، فيعيدنا إلى البحث فيه عبر تاريخية التطورات اللبنانية، انطلاقاً من بنية الكيان اللبناني، والدور المنوط به منذ نشأته على يد من كان يحركه على الدوام، في مراحل مختلفة، ويوظفه في مشروعاته، ومخططاته وفق حاجة كل مرحلة من المراحل، ومحطة من محطات التطورات في المنطقة، والصراعات التي كانت تندلع فيها.
من يدرك الواقع اللبناني والأهداف التي قام من أجلها يدرك معنى هذه التحركات الآن


ليست التحركات الجارية حالياً مختلفة في الظرف والتوقيت والأهداف، عن المحطات التاريخية التي هزّت بنية الكيان اللبناني الهش، بتركيبته البنيوية في محطات مختلفة. نذكر منها هزة أحداث ١٩٥٨ على خلفية الصراع الناصري، مع ما يمثله من محور عالمي قاده الاتحاد السوفياتي، في ظل الحرب الباردة يومذاك، مع حلف بغداد بخلفيته الأميركية ــ البريطانية. كذلك، نذكر منها اختلال التوازن اللبناني لدى دخول المقاومة الفلسطينية إلى لبنان مهجرة بحرب ١٩٦٧، وصولاً إلى الانفجار الأهلي ١٩٧٥، واستمراره حتى بلوغه مرحلة مفصلية جديدة من حياة الكيان، عام ١٩٨٩، يوم وضع اتفاق الطائف، وكان الاتحاد السوفياتي على طريق السقوط، والأميركي مستعداً لتسلم زمام الأمور على المستوى العالمي كقوة منفردة طاغية.
في عام ٢٠٠٥، سنة اغتيال رئيس الحكومة اللبناني رفيق الحريري، كان الأميركي قد تقدم أشواطاً بعيدة في سيطرته على العالم بعد حروب تدميرية بأحجام مختلفة، أبرزها حربا أفغانستان والعراق، فانتفضت حركة لبنانية تحت عنوان قوى «١٤ آذار» التي لا تختلف في خلفياتها، وأسلوب تحركها، عن الثورات الملوّنة الربيعية التسمية.
كان الأميركي مسيطراً بحلف عالمي ــ محلي، وحاول بعد ضغط المقاومة العراقية، الانسحاب من العراق، فكان عليه تغيير وجهته واستخدام آليات مختلفة بعيدة عن الحرب المباشرة، فكان «ربيع العالم العربي». تحرّكات شبابية ترفع شعارات ومطالب جماهيرية محقّة، إلا أن محركها وداعمها، وبالتالي المتمكن من توظيفها، هو الذي قطف ثمرة تحركها وأهدافها، فانقلب الوضع السلطوي على بن علي في تونس، ليحلّ معه المنصف المرزوقي، وانقلب على حسني مبارك، ليحل محلّه محمد مرسي الإخواني، ثم عبد الفتاح السيسي. وفي كلتا الحالتين، كانت تلك ثمرة ما عُرف بالثورة، أي استبدال رئيس برئيس، تأكيداً على أن عبارة ثورة هي لقب يطلق على التحركات الشبابية تزييفاً، بهدف التلاعب بالمشاعر وشد الانتباه، وجذب الشباب كوقود للتحركات.
هذه الحركات الملونة، الربيعية، باتت مكشوفة اليد التي تنظمها وتحرّكها وتضع آلياتها، ولم يعد الأمر خافياً، إلا على من يريد أن يلدغ من الجحر عينه مرات، وليس مرتين فحسب. إنها تحرّكات الحلف الأميركي ــ الأوروبي ــ الصهيوني المموّل خليجياً، خصوصاً من المملكة العربية السعودية.
التحركات اللبنانية الجارية حالياً ليست سوى محطة من محطات ذلك الحراك الذي يحركه هذا الحلف عينه، وكل المنخرطين فيه موظفون، بشكل مباشر أو غير مباشر، لغايات الحلف وأهدافه، ليكون محطة في الصراع مع الحلف الآخر الناشئ في ظلال الأحداث «الربيعية» العربية، وخصوصاً في ظلال الأحداث السورية. تحمل التحركات الجارية في شعاراتها ودرع المواجهة لها وجع اللبنانيين وآلامهم، وتتستر وراءها خافية أهدافها الفعلية، وناجحة إلى حدّ بعيد في التماهي أمام عيون الغلابة، خصوصاً المنخرطين فيها. لكن من يدرك الواقع اللبناني، وبنية كيانه والأهداف التي قام من أجلها منذ نشأته، والدور الذي لعبه في محطات تاريخية مفصلية من تطورات تحركات المنطقة، يدرك معنى هذه التحركات الآن.
تحل التحركات اللبنانية على مفصل واقعين: تراجع الدور والقوة والحضور للحلف الأميركي، وتصاعد الحلف الشرقي المكوّن من سوريا والمقاومة الإسلامية اللبنانية وإيران وروسيا والصين ومن لفّ لفّهم في لحظة اقتراب الأحداث السورية من نهاياتها، وحلول مرحلة الحل، الذي يفترض أن ينعكس على لبنان، كما في مختلف المراحل التاريخية السابقة، بطريقة متجانسة مع ما سيتشكل على أساسه. ومن جهة ثانية، في ظل مقاومة الحلف الأميركي، وتمسكه بإحدى آخر أوراقه المهمة في الشرق، أي الساحة اللبنانية.
ما يجري على الساحة اللبنانية حالياً هو صراع بين محور متمسك بالحالة اللبنانية كما نشأت وتطورت، ومحور راغب في إلحاقها بالمحور المتصاعد، في لحظة مفصلية تتمثل في اقتراب الحل السوري. حاول المحور الأميركي حصار محور المقاومة بحروبه الاقتصادية، بعدما خسر بقية أشكال الحروب، المباشرة والأهلية، ولم يعد أمامه كي يمنع التحاق لبنان بالحل الإقليمي في سوريا، إلا اللجوء إلى الشارع.
في اللحظة التي بدأت تشارف الأحداث السورية على نهاياتها، متمثلة بانتهاء البغدادي، وحلّ الحدود الشمالية مع تركيا، وضبضبة الوضع في الشرق السوري، ولملمة الحالة الكردية، وبدء تأسيس خطوط الحل السوري في مؤتمر جنيف، تحاول قوى الحلف الشرقي المتمثلة في السلطة اللبنانية ــ حزب الله والتيار الوطني الحر ــ فرض كسر «تابو» العلاقة مع سوريا، الذي أسّسته مرحلة «حركة ١٤ آذار» الملونة، عقب اغتيال الرئيس الحريري عام ٢٠٠٥، في محاولة لإعداد لبنان للدخول في الحل الإقليمي كتطور تاريخي للأمور، خصوصاً مع تقدم محور المقاومة ميدانياً في سوريا، إن لم نقل انتصاره.
في هذه النقطة المفصلية من تطور الأحداث في المنطقة، وتأسيس الحل الإقليمي في سوريا، وما يمكن أن يفرضه بديهياً على لبنان، تندلع شرارة الحركات الاحتجاجية مستخدمة شعارات «الفساد» و«السرقة» في السلطة، وما إليها من شعارات، وقوداً لتحركها، كابحة بذلك تقدم لبنان نحو الحل الإقليمي.
ما نشهده حالياً لا يمت إلى الإصلاح بصلة، إنما هو لحظة صراع بين انتماء الحلّ اللبناني إلى المحور المنتصر، وبين إبقائه متخبطاً في الحالة التي عاشها منذ عقود، وربما منذ تأسيسه، على قواعد الالتحاق والتبعية للغرب وخضوعه التام لها، والاستمرار في تلك الحالة رغم كل المآسي التي أنتجتها، حروباً وانهيارات وخضات مختلفة الأوجه والصفات، دفع فيها اللبنانيون حياتهم واستقرارهم، وتهجّر غالبية أبنائهم، ولا ضرورة للتذكير بتبعاتها الكبيرة والمهولة التي يعرفها الجميع.
* كاتب وباحث في الشؤون الاستراتيجية