"التقت العيون، حدّق زئيفي في عيون حمدي، رأى إصراراً وأيقن أن هذا من سيُنفذ عليه الترانسفير إلى جهنم. رأى حمدي في عيون زئيفي مدى الوهن والضعف والجُبن، فما الظالم إلا وهمٌ في عقل المظلوم، هذه هي اللقاءات الوحيدة المشروعة بيننا وبينهم بالضبط كما رسمها وخطط لها وتمنّاها حمدي".... "نعم اسمه عاهد أبو غلمة، كان قد كُلّف من قبل القيادة بترؤس الجهاز العسكري في الضفة الغربية لما له من خبرة عسكرية وتجارب "اعتقالية"، ولما يتمتع به من ذكاء حادٍّ وعين فاحصة وسرعة بديهة، مُثقف مشتبك بكل معنى الكلمة".
(من كتاب "وجدت أجوبتي... هكذا تكلم الشهيد باسل الأعرج"، مدونات بانوراما اغتيال زئيفي ص ٢٣٥).

مدخل
ثمانية عشر عاماً مرّت على ذلك اليوم الاستثنائي في مسيرة الكفاح المسلح الفلسطيني. لم تكن الرصاصات التي أردت المجرم القاتل، أحد قادة الغزاة الصهاينة لفلسطين، وداعية الطرد والتهجير لمن بقي من أصحاب الأرض الأصليين إلى خارج وطنهم، القائد العسكري والوزير "رحبعام زئيفي"، سوى الرد الطبيعي على استشهاد الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين "أبو علي مصطفى" يوم ٢٧ / ١٠ / ٢٠٠١ نتيجة قصف الطائرات الصهيونية لمقرّه في مدينة رام الله المستباحة. وقد جاءت ردود الفعل الشعبية الغاضبة على الجريمة في سياق الحراك الجماهيري في مسار الانتفاضة، "انتفاضة الأقصى"، كنتيجة طبيعية لاستهداف الغزاة المحتلين قائداً عربياً فلسطينياً، أحد المؤسّسين الثوريين لنهج الكفاح المسلح في مواجهة العدو المحتل للوطن منذ عام 1948، وصاحب القول الشهير، الذي أصرّ على الجهر به وهو يدخل الضفة الغربية، ليتحول إلى برنامج العمل الذي التزم به: "عدنا للوطن لنقاوم وعلى الثوابت لا نساوم". واجهت الجبهة انعكاسات الجريمة على وضعها الداخلي بانتخاب أمين عام جديد "أحمد سعدات" الرمز التاريخي البارز في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني داخل الضفة المحتلة التي عرفته مناضلاً استثنائياً في مجال العمل السري، ويمتلك تجربة من الصمود الأسطوري داخل معتقلات الاحتلال وسجون سلطة أوسلو.

الرأس بالرأس
في حفل التأبين الذي أقامته الجبهة للشهيد القائد، ألقى أحمد سعدات كلمة تتناسب مع حجم الخسارة التي فرضت رداً يوازي مكانة الراحل الكبير ويستجيب للحالة الشعبية التي طالبت بالثأر. وممّا قاله الأمين العام الجديد "لن نكون نداً للأعداء ولن نستحق احترام الشهداء، ولن نحترم شعبنا بشهدائه وقادته وشيوخه وأطفاله ونسائه، إذا لم يكن شعارنا... العين بالعين والسنّ بالسنّ والرأس بالرأس... فعهداً لنا يا رفيقنا أبو علي، عهداً لك يا معلمنا، يا رمزنا يا عنوان عزّتنا، ألا يكون شعارنا أقلّ من الرأس بالرأس"، معلناً في الوقت ذاته أمر التنفيذ للمعنيين بالمهمات الخاصة. "هذا لكم يا كتائب الشهيد أبو علي مصطفى، يا رجال قوات المقاومة الشعبية". قرارٌ لم يكن من نادى به بعيداً عن التخطيط له والتوجيه للعمل المباشر به لقائد الجناح المسلح "عاهد أبو غلمة".

دلالات العملية
١ ـ جاءت تصفية المجرم الصهيوني، أحد قادة الغزو، الوزير في حكومة العدو، لتُشكل علامة فارقة في مسيرة المقاومة الفلسطينية المسلحة، من حيث سرعة تحديد الهدف، والتهيئة اللوجستية، من أجل الرد السريع على جريمة اغتيال الأمين العام السابق. وقد قام بتنفيذ المهمة بإطلاق الرصاص على "زئيفي" من مسافة متر، داخل أحد الفنادق التي يتردّد إليها باستمرار الشاب الفدائي "حمدي قرعان"، لينسحب بعدها مع رفاقه إلى المنطقة المحددة.
٢ ـ التواطؤ الكامل لسلطة أوسلو في العمل على إدانة العملية واستنكارها، كما جاء على لسان وزير إعلامها في ذلك الوقت ياسر عبد ربه، الذي أعلن: "نأسف لعملية الاغتيال هذه، ونرفض كل أشكال الاغتيال السياسي"، مضيفاً "نريد أن نضع حداً لدائرة القتل المفرغة، وإن كان زئيفي قد اتخذ مواقف وسياسات معادية ضد شعبنا، لكننا لا نزال نعتقد أن الاغتيال السياسي ليس هو الرد". كلام عبد ربه كان تعبيراً عن موقف رئيس السلطة ياسر عرفات الذي أصدر أوامره إلى أجهزته الأمنية كافة بـ"ملاحقة قيادة وكوادر وأعضاء الجبهة الشعبية بحثاً عن المنفذين".
٣ ـ جاء استدراج أحمد سعدات إلى موعد مع أحد قادة أجهزة أمن السلطة في أحد فنادق مدينة رام الله، من أجل اصطحابه إلى مقر المقاطعة الذي يقيم فيه عرفات بناءً على رغبة الأخير من أجل "حمايته"!! كما ردّدت أجهزة السلطة حينها، مترافقاً مع اعتقال المجموعة المسؤولة عن التخطيط والتنفيذ؛ عاهد أبو غلمة، وحمدي قرعان، وباسل الأسمر، ومجدي الريماوي. لكن الحقيقة كانت تنفيذ اعتقال سعدات ورفاقه. وهو ما انكشف لاحقاً بعد اقتحام قوات العدو، يوم ١٤ آذار / مارس ٢٠٠٦، بالقوات الراجلة والآليات، مع استخدام الجرافات لهدم جدران سجن أريحا ونقل كل من فيه من المعتقلين إلى سجون الكيان الصهيوني التي تعرض فيها سعدات ورفاقه لأقسى أنواع التعذيب، لتأتي بعدها مسرحية المحاكمات التي انتهت بإصدار أحكامها القاسية على المعتقلين.

خاتمة
على الرغم من مرور السنين على تلك العملية الاستثنائية، فإن ما يمكن استلهامه من دروسها، أن الرد على الاحتلال يجب أن يكون (كما تُعلمنا تجارب شعبنا في مواجهة الغزاة المستعمرين، وكل حركات التحرر في العالم التي قاومت الاستعمار) بالبندقية الملتزمة ببرنامج كفاحي، تحرري، تناضل من أجل تحقيقه قوى المقاومة السياسية والعسكرية المنضوية إلى جبهة وطنية تستقطب كل من يتبنّى برنامج النضال التحرري.
لم تكن مصادفة أن تحمل المجموعة التي نفذت العملية اسم وديع حداد الذي لاحق بخططه ورفاقه العدو في كل مكان. وقد جاء إحياء اسم هذا القائد بعمل كفاحي يقترن بنهجه وتاريخه وبمكانته، وبالدور المهم الذي لعبه في مسيرة النضال التحرري للشعب الفلسطيني.
في مدونات البانوراما التي كتبها الشهيد باسل الأعرج عن العملية، حوارية لافتة، يقوم بها حمدي مع ذاته، تختصر الكثير من الكلام "حين تحين اللحظة المناسبة، هل أقول له (لزئيفي): حكمت عليك الثورة بالإعدام... باسم الله والشعب، باسم رُضّع عين الحلوة، باسم دماء الثوار في جرش، باسم الأسرى في السجون ،باسم وديع حداد، باسم سليمان خاطر، باسم تل الزعتر، باسم سنين العبودية للأفارقة، باسم الهنود الحمر، باسم المليون شهيد بالجزائر"... وتطول القائمة لتحمل عذابات شعوب العالم من المستعمرين والمستبدين وسماسرة الأوطان.
* كاتب فلسطيني