كتب الباحث العراقي علاء اللامي في «الأخبار» (في 03/04/2019) مقالاً بعنوان: «القدس هي أورشليم الكنعانية الفلسطينية»، جاء فيه: «لقد ورد ذكر مدينة أورشليم حاضرة كنعان، في «نصوص اللعن» الفرعونية الخاصة بالدعاء لإلحاق الأذى بالمدعو عليهم، والذين ذكرت أسماؤهم في الوثيقة الفرعونية التي تعود إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وتضمّ أربعة عشر اسماً لحكّام مدن في ما يعرف اليوم ببلاد الشام، ومنها فلسطين. والاسم الرابع منها ورد نصاً كالآتي (يقرب - آمو، حاكم أورشليم، وجميع بطانته). والمصدر كما ثبته فراس السواح هو كتاب جون أي ولسن (Egyptian rituals, P228)، ويضيف السواح: «وإلى جانب أورشليم، نتعرف في هذا النص على عدد من المدن الكنعانية القديمة في فلسطين مما ورد في سجلات الشرق القديم، وفي التوراة لاحقاً، مثل شكيم وأكشف وحاصور وعكا وبيت شميش وصور وعرقتا وجبيل وأوبي».اقتبست هذه الفقرة تحديداً بهدف أن أقدم في هذه المقالة تقويماً تاريخيا لهذاً النص. وبقليل من الجهد نستطيع أن نقتبس أقوالاً وحججاً من مصادر تاريخية تفنّد ما طرحه اللامي نقلاً عن الباحث السوري فراس السواح «الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم». لسنا هنا في مجال الحديث عن جغرافية الكتاب المقدس، وتكرار ما ذهبت إليه سابقاً في مؤلفاتي من: أنه بعد مرور أكثر من قرن ونيف على التنقيب الأثري الذي لم يترك شبراً أو حجراً من أرض فلسطين دون قلبها ــ بحسب اعتقادي ــ لم يعثر على أثر واحد يربط «العهد القديم» بها.

اختلاق «أورشليم» في «نصوص اللعن»
هناك ظاهرة شائعة رافقت قراءة النصوص الأثرية المكتشفة، وهي تزوير وتحريف القراءات لإيراد اسم أو حدث معين في النص. وبعد كل هذا يجيء دور تعميم وترسيخ هذه «المعرفة»، والأخطر من هذا أن هذه القراءات «الزائفة» يتم تكرارها في أروقة البحث العلمي حتى بعد الكشف عن ضلالها. كما حدث عندما تمّت قراءة اسم «أورشليم» في «نصوص اللعن»، بينما النص الأصلي يتحدث عن «أوشاميم».
في عام 1926، قام العالم الألماني سيث K. Sathe بترجمة «نصوص اللعن» المصرية والتعليق عليها. وقد لفت نظر سيث كلمة «أوشام» Awsamm في عدد من هذه النصوص ففسرها بأنها «أورشالم». وبالرغم من أن الدكتور أحمد فخري، في كتابه «مصر الفرعونية»، والدكتور عبد الحميد زايد، في كتابه «القدس الخالدة»، ذكرا أن الكلمة هي «أوشاميم»، الا أنهما قاما بكتابتها بـ«أورشليم» أيضاً! وهنا نجد لزاماً علينا طرح السؤال التالي: هل يمكن لغوياً قراءة كلمة «أوشاميم» بـ«أورشليم»؟! للإجابة عن هذا السؤال علينا إعادة قراءة النقش بهدوء كما أوردته الدكتورة فايزة محمود صقر، في بحثها «مدينة القدس في النصوص المصرية القديمة»، وفي تفسير النقش، كما شرح الدكتور محمد بهجت قبيسي، في كتابه «ملامح في فقه اللهجات العربيات من الأكادية والكنعانية وحتى السبئية والعدنانية»، ومن تلك الشروحات نستخلص أن القراءة الصحيحة للكلمة هي «أوشاميم» وليست «أورشليم»، فلم تعرف «نصوص اللعن»، مدينة تسمّى «أورشليم»!
ومن الجدير ذكره في هذا المجال، أنه لا وجود لمدينة القدس قبل القرن السابع قبل الميلاد أثرياً. وفي هذا الصدد تقول عالمة الآثار الهولندية، مرغريت شتاينر، في دراستها «حدود مُتوسِّعة: تطوُّر أورشليم في عصر الحديد»، المنشورة في كتاب «القدس أورشليم العصور القديمة بين التوراة والتاريخ»: «فإذا كان لنا أن ننظر إلى أورشليم باعتبارها مدينة مقدسة، مدينة خاصة بنظر الإله ونظر الناس، فإن القرن السابع قبل الميلاد كان بمثابة أول فترة زمنية حملت للمدينة مكاناً مميزاً». تؤكد مرغريت شتاينر في خلاصة كتابها «القدس في العصر الحديدي (1300- 700 ق.م)»: أن الحفريات الكثيرة التي جرت في القدس وحولها، لم تعثر على أي أثر لمدينة محصنة: لا أسوار كبيرة ولا بيوت ولا حتى أي قطع من أوان فخارية سائبة.. لا وجود لمدينة القدس قبل القرن السابع قبل الميلاد كمدينة مأهولة تدب فيها الحياة.
كيف يطلق إذاً اسم «أورشليم» في نصوص اللعن المصرية القديمة في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، على مدينة «القدس»، بالرغم من أنه لا وجود لمدينة «القدس» قبل القرن السابع قبل الميلاد؟!
يذهب عالم المصريات الفرنسي، نيقولا جريمال، في كتابه «تاريخ مصر القديمة» إلى أن: المعلومات المتاحة عن فلسطين هي أكثر غموضاً رغم وفرة الأسماء. في هذا السياق، يقول عالم المصريات الإنكليزي، سير ألن جاردنر، في كتابه «مصر الفراعنة»: إنه «لا يمكن تحديد معظم أسماء الأماكن، وإن وجدنا من بينها ما يحتمل أن يكون عسقلون وششم».

التلفيق في تفسير نقش السلوان
يحاول اللامي تأكيد صحة جغرافية الكتاب المقدس بالقول: «أما عن قناة وبركة حزقيال لجرّ المياه تحت الأرض وإيصالها إلى أورشليم ــ القدس، فنعلم أن هذه البركة المذكورة في التوراة باسم بركة «سلوام» ولا تزال آثارها قائمة، ويسميها الفلسطينيون بركة سلوان»، ويستطرد بالقول: «وقد عثر في داخل القناة النفقية على نقش حجري يصف لحظة الانتهاء من حفر القناة، وكيف التقى العمّال القادمون من جهتي القناة في موضع محدّد. ونص النقش موجود كاملاً، وقد اقتبسه السواح عن كتاب ولفنسون (تاريخ اللغات السامية ــ دار القلم -بيروت ــ 1980 - ص: 83) ».
في هذا النص «الكارثي»، يتضح لنا تأييد اللامي لكلام السواح وولفنسون عن نقش سلوان، بالرغم من أن النقش لم يُشير إلى سنة، أو إلى مَلِك؛ يَفترض الكثيرونَ أن النَقش كُتِبَ بواسطة حزقيا، أو بأمرٍ منه. يقول ولفنسون: «والنَفَق عُمِّرَ في عهدِ المَلِك حزقيا (700 قبل الميلاد)». ويسير في نفس الاتجاه الباحث فراس السواح؛ يقولُ تعليقاً على هذا النَقش: «لدينا ملمح أركيولوجي هام من عصر حزقيا في أورشليم، يستحق أن تتوقف عنده».
في الواقع اتسم منطلق اللامي ــ هنا ــ بالنقل من دون تحرّي مدى صحة ما كتبه السواح ودقته نقلاً عن ولفنسون، ويدخل في إطار نقله لروايات أعيد إنتاجها مرات ومرات بكل ما فيها من فجوات والتباسات وأخطاء، من دون أن يخضعها للنقد.
فالمنهجية التي حق لها ادعاء امتلاك الحد الأدنى من المقومات العلمية تفرض أولاً تقصّي إن كان النص التوراتي يعود فعلاً إلى القرن الثامن قبل الميلاد، أو إلى فترة قريبة من ذلك، وضرورة عدم استبعاد أن تلك المداخلة أو الملاحظة المختصرة عن النفق تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وأنها أضيفت إلى أخبار أقدم منها ــ وهنا يكمن أحد هموم كتبة التوراة الذي يهدف إلى وضع الزمن المطلق في جغرافية محددة. لذا فالاحتمال قائم بأن أولئك الكتبة قاموا بأخذ خبر متأخر وربطوه بزمن سابق ليمنحوا كتاباتهم الجديدة شرعية تاريخية لا تمتلكها، أو بالعكس. ومن الجدير بالذكر أن الفهم التقليدي لتاريخ هذا النقش يتعرض لتحدّ من داخل البيت نفسه، إذ نشر اثنان من أشهر علماء الكتاب بحثاً في إحدى المجلات المتخصصة، عبّرا فيه عن اقتناعاتهما بأنه يعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد ــ هذا على أقدم تقدير.
يقول عالم الآثار «الإسرائيلي»، يوناتان مزراحي، في دراسته «عِلم الآثار في ظلِّ الصراع»: يرى بعض الباحثين، أنَّ «نَقش السلوان»، يعودُ إلى الفترة الهلنستيَّة. ففي شهر أيلول/ سبتمبر 1996 نشر مقال في مجلة علمية أميركية شهيرة، وهي biblical archaeologist, american schools of oriental research، تتعلق بنقش سلوان، بقلم جون روجرسون وفيليب ديوس، من جامعة شيفلد، إنجلترا. وقد ذكر الباحثان أن هذا النقش في أصله يرجع إلى القرن الثاني أو الثالث قبل الميلاد، وليس من القرن الثامن قبل الميلاد. وبما أن هذا النقش يعتبر مقياساً لكافة النقوش التي تدعي أنها من القرن الثامن قبل الميلاد، فهدم هذا الأساس يسبب انهدام أشياء كثيرة جداً.
من المناسب أن نختم هذا المقال، بما قاله البروفيسور تومس طمسن، في كتابه «التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي»: «إن أي محاولة لكتابة تاريخ فلسطين في أواخر الألف الثانية قبل الميلاد، أو بدايات الألف الأولى قبل الميلاد، على الضوء التام لمصادر الكتاب المقدس، لتبدو على الفور محاولةً فاشلةً وميؤوساً منها، بل يمكن اعتبارها محاولة هزلية بالكامل، وتبعث على الضحك والفكاهة. إن قصص العهد القديم ما هي إلا مأثورات وحكايات كُتبت أثناء القرن الثاني قبل الميلاد، وإنه مضيعة للوقت أن يحاول أي إنسان أن يثبت مثل هذه الأحداث التوراتية من خلال علم الآثار القديمة، فالعهد القديم ليس له أي قيمة كمصدر تاريخي».
* كاتب وباحث فلسطيني في التاريخِ القديم