بدءاً، أودّ الإشارة إلى أن هذه المقالة ليست ردّاً على ما طرحه الباحث فاضل الربيعي في إطلالته التلفزيونية الأخيرة على قناة «الميادين» في برنامج «لعبة الأمم»، بل هي جزء مكثّف ومختصر من دراسة طويلة كتبتها قبل أكثر من عام ضمن مجموعة دراسات ستصدر مستقبلاً في كتاب بعنوان «نقد الجغرافية التوراتية العسيرية واليمنية»، وفيها أحاول مناقشة العديد مما ورد من آراء وافتراضات بحثية في مؤلفات الربيعي وباحثين عرب آخرين وتفنيدها، وكرّر الربيعي بعضها في لقائه التلفزيوني الأخير.في العديد من نصوصه وإطلالاته التلفزيونية الكثيرة، يكرر الباحث فاضل الربيعي بعض الفرضيات والاستنتاجات التي توصّل إليها، ولكنه يطرح بعضها كنظريات مبرهَن عليها، وبعضها الآخر كبديهيات لا سبيل إلى مناقشتها، ربما لأنه كررها أكثر من غيرها حتى صدّقها هو قبل غيره. هناك أيضاً بعض الآراء التي تبدو صحيحة من الناحية الشكلية، لكنها ليست في السياق الجوهري الصحيح. فالربيعي، مثلاً، يقول إنّ (القدس ليست أورشليم)، ومن الناحية اللفظية – اللغوية، القدس ليست أورشليم فعلاً، لكنها هي نفسها المدينة الفلسطينية التي بناها اليبوسيون الكنعانيون، غير أن اسم القدس لم يظهر إلى الوجود إلا بعد الإسلام، ويخطئ الربيعي، كما أخطأ قبله يوسف زيدان، حين قال الأول إن اسم القدس ظهر مع بناء قبّة الصخرة في السنة 72 للهجرة الموافق لسنة 691 م، وهي سنة اكتمال بنائها. أما زيدان، فيشتطّ بعيداً وينكر أن يكون لاسم القدس وجود مكتوب في التراث العربي الإسلامي في القرنين الأول والثاني الميلادي، وقد تحدّى - زيدان - أياً كان أن يأتيه بنص تراثي قديم أبكر من ذلك، وقد أثبتنا في دراسة سابقة («الأخبار» في 25 كانون الأول 2018) أن أقدم ذكر لاسم القدس وبيت المقدس ورد في حديث نبوي شهير عن نذر إحدى زوجات النبي العربي الكريم، هي ميمونة بنت الحارث، زيارة بيت المقدس حين كانت أورشليم القدس تحت الاحتلال الروماني، وهذا يعني أن الاسم كان متداولاً وموضع تقديس لدى المسلمين الأوائل حين كان النبي حيّاً، وتحديداً قبل فتح مكة في العشرين من رمضان في العام الثامن من الهجرة (الموافق 10 يناير 630م)، أي في أوائل القرن الهجري الأول. وقد ورد هذا الحديث في كتاب الواقدي نفسه الذي احتجّ به يوسف زيدان لتسفيه علاقة أورشليم القدس بالإسلام والمسلمين ومحاولة نسفها. وذكرنا أيضاً مصادر أخرى ورد فيها اسم القدس وبيت المقدس تعود إلى القرن الهجري الأول. وعموماً، وللإنصاف، يجب التفريق بين الهدف السلبي المعلن الذي يسعى وراء تحقيقه يوسف زيدان، وبين ما يطرحه الربيعي من قناعات بحثية قابلة للنقاش من باحث وطني عرف بمناهضته للدولة الصهيونية، ولكن توظيف ما يقوله الربيعي يبقى ضاراً ومشوِّشاً، لأنه قد يؤدّي إلى الاستنتاجات الملغومة ذاتها التي يطرحها زيدان وتخدم الاستراتيجية الصهيونية التوراتية.
سنحاول، بهدف تفنيد بعض الفرضيات التي يقدّمها الربيعي، أن نقدّم جرداً تاريخياً بالأدلّة الآثارية «الأركيولوجية» المحكمة والموثقة بالكاربون المشع لأهم المدن والمواقع الآثارية التي اكتشفتها ووثّقتها في فلسطين بعثات آثارية علمية أجنبية في القرنين الماضيين، كما وردت في كتاب «الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم» للباحث فراس السواح، وكتاب «التوراة مكشوفة على حقيقتها» للباحثين فنكلشتاين وسيلبرمان، لنؤكد بالدليل الآثاري الملموس هذه المرة، خطأ الغالبية العظمى من الاستنتاجات والفرضيات والأحكام التي وردت في كتابات الربيعي وزملائه القائلين بجغرافية توراتية عسيرية أو يمنية التي حاولوا إثباتها عبر المقارنات اللفظية الفيلولوجية والإيتيمولوجية. وبما ينفي الخلاصة التي يكررها الربيعي والقائلة: «لم يتم اكتشاف أي أثر أركيولوجي في فلسطين يؤكد أن فلسطين هي الجغرافية التوراتية وأن القدس هي أورشليم، بل إن جغرافية التوراة وبني إسرائيل هي في اليمن القديم حصراً»، ومن الناحية السلالية، فالربيعي يعتبر بني إسرائيل عرباً لا عبريين!

أدلّة آثارية
لنبدأ أولاً بمجموعة أدلة آثارية وتاريخية موثقة بنحو ممتاز وردت في كتاب «الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم» للباحث فراس السواح، وهي تؤكد أن الجغرافية التوراتية مكانها الحقيقي هو فلسطين، وهي جزء صغير من تاريخ فلسطين الذي حاول الاستشراق الغربي المتصهين وشبه المتصهين تهميشه لمصلحة جعل التاريخ توراتياً. هو المتن الرئيسي والسائد، وهذا ما وقعنا فيه نحن العرب، لشديد الأسف، فصدّقنا الرواية والرؤية التوراتية، وحذفنا أو أخذنا بحذف تاريخ فلسطين الكنعانية واليبوسية وما قبل فلسطين الكنعانية، والهدف من هذا الجهد إيقاف هذا الوضع الأنثروبولوجي المقلوب وإيقافه على قدميه ليكون تاريخ فلسطين هو ذلك الذي يبدأ منذ فجر التاريخ والممتد لعدة آلاف من السنين قبل أن يظهر العبرانيون أو بنو إسرائيل إلى الوجود، واستمراراً إلى عصرنا الحاضر، لتكون الرواية التوراتية كما هي في الواقع جزءاً هامشياً من هذا التاريخ الطويل والسردية العريقة النابضة بالحياة والأدلّة الحيّة الملموسة:
يكرر الربيعي وآخرون أن علماء الآثار «الإسرائيليون والأوروبيون لم يعثروا على دليل واحد يؤكد أن جغرافية التوراة هي في فلسطين أو أن أورشليم القدس هي نفسها المدينة القائمة اليوم بهذا الاسم»، فهل هذا القول صحيح؟ لا، طبعاً، والحقيقة أنَّ الأدلة الآثارية الملموسة على صحة ما نقول لا تكاد تحصى، وسأعرض بعضاً من أشهرها:
لقد ورد ذكر مدينة أورشليم حاضرة كنعان، في «نصوص اللعن» الفرعونية الخاصة بالدعاء لإلحاق الأذى بالمدعو عليهم، والذين ذكرت أسماؤهم في الوثيقة الفرعونية التي تعود إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وتضم أربعة عشر اسماً لحكام مدن في ما يعرف اليوم ببلاد الشام، ومنها فلسطين. والاسم الرابع منها ورد نصاً كالآتي (يقرب - آمو، حاكم أورشليم، وجميع بطانته)، والمصدر كما ثبته فراس السواح هو كتاب جون أي ولسن (Egyptian rituals, P228)، ويضيف السواح: «وإلى جانب أورشليم، نتعرف في هذا النص على عدد من المدن الكنعانية القديمة في فلسطين مما ورد في سجلات الشرق القديم، وفي التوراة لاحقاً، مثل شكيم وأكشف وحاصور وعكا وبيت شميش وصور وعرقتا وجبيل وأوبي».
الجغرافية التوراتية مكانها الحقيقي فلسطين، وهي جزء صغير من تاريخ فلسطين الذي حاول الاستشراق الغربي المتصهين تهميشه


أما بخصوص أورشليم القدس اليبوسية القديمة، التي لا علاقة لها أبداً باليهود أو بني إسرائيل أو العبرانيين، نجد الأدلة الآثارية الآتية: عندما بدأت التنقيبات الأثرية في العصر الحديث، اتجهت إلى مدينة القدس بموقعها الحالي، فلم يجدوا فيها شيئاً ذا علاقة باليهود أو العبرانيين أو بني إسرائيل، ثم اكتشفوا أن أورشليم اليبوسية تقع بكاملها إلى جنوب المدينة الحالية على سلسلة تلال القدس الشرقية. وقد تطابقت جغرافية المدينة المكتشفة وطوبوغرافيتها مع أوصافها كما وردت لاحقاً في التوراة التي كتبت بعد سيطرة العبرانيين على المدينة بطريقة التسلل السلمي، (الفصل الرابع من كتابي «موجز تاريخ فلسطين»، فقرة «تناقضات لا حل لها في التوراة»).
وأثبتت التنقيبات أن المدينة ترجع إلى العصر البرونزي المبكر منذ مطلع الألف الثالث ق.م، أي في فترة نشوء دويلات المدن في فلسطين. وقد استطاعت بعثة المنقِّبة الشهيرة وذات الصدقية العلمية القوية كاثلين كينيون رسم حدود مدينة أورشليم اليبوسية ومخططها بنحو واضح ودقيق.
أما عن قناة وبركة حزقيال لجرّ المياه تحت الأرض وإيصالها إلى أورشليم-القدس، فنعلم أن هذه البركة المذكورة في التوراة باسم بركة «سلوام» ولا تزال آثارها قائمة، ويسميها الفلسطينيون بركة سلوان، وقد اكتشفها المنقب الآثاري وارن عام 1867 ثم عاد إلى دراستها الآثاري باركر ونظفها سنة 1911، وأخيراً عادت كينيون عام 1961 إلى تنظيفها وتنظيمها وتوثيق أنها تعود إلى ألف وسبعمئة سنة قبل الميلاد. أما القناة «التحت أرضية» لجرّ المياه من نبع نهر جيحون، فالنبع لا يزال قائماً، واسمه المعاصر عند الفلسطينيين هو «نبع مريم». وقد عثر في داخل القناة النفقية على نقش حجري يصف لحظة الانتهاء من حفر القناة، وكيف التقى العمّال القادمون من جهتي القناة في موضع محدّد. ونص النقش موجود كاملاً، وقد اقتبسه السواح عن كتاب ولفنسون (تاريخ اللغات السامية - دار القلم -بيروت - 1980 - ص83). ويناقش السواح تفسيرات كمال الصليبي لهذا الاكتشاف، ويصفها بأنها تفسيرات غير دقيقة، تقدم نصف المعلومة إلى القارئ غير المتخصص للحكم على قضية بالغة التخصص. بل ويقدم الصليبي بعض المعلومات بنحو غير صحيح، كقوله إن النقش الحجري عثر عليه «في سلوان قرب القدس»، مع أن الحقيقة تقول إنه عثر عليه في داخل قناة سلوان في داخل حدود القدس... إلخ.
عُثِر على سور مدينة أورشليم-القدس الذي أعاد بناءه نحميا بعد العودة من الأسر البابلي، ويعود تاريخه إلى القرن الخامس ق.م، وعلى جزء لا بأس به من سور الهيكل الذي بناه زربابل، وكذلك على أسوار الميكابيين وتحصيناتهم. كذلك عُثر على آثار من سور هيرود، الحاكم الذي عينه الرومان لإقليم «اليهودية»، وعلى أبنية، وبيوت، وجزء من قصر هيرود نفسه. ويوثق السواح معلوماته هذه من كتاب الآثارية المنقبة كينيون (The bible and the recent archaeology).

بعض المدن التاريخية
مدينة السامرة: وهي المدينة الوحيدة في فلسطين التي بناها بنو إسرائيل وفق رواية التوراة نفسها، وهذا اعتراف توراتي صريح بأن جميع المدن الفلسطينية الأخرى، وفي مقدمتها أورشليم القدس، بناها أهل البلاد الكنعانيين أو الفلسطة المهاجرون إلى جنوبها من جزر البحر المتوسط. وكانت السامرة وحيدة فعلاً في بحر كثيف من المدن والقرى الكنعانية. وما يؤكد هذه الحقيقة، الكشف الآثاري الذي أثبت أنها المدينة الوحيدة التي بُنيت على أرض عذراء في فلسطين، أي إنها دون طبقات آثارية سابقة عليها. وحدد تاريخ بنائها في النصف الأول من القرن التاسع قبل الميلاد.
وتقع السامرة على تل قرب الممر الذي يربط شمال فلسطين بجنوبها. وبدأت عمليات التنقيب فيها من قبل الآثاري ريسنر لحساب جامعة هارفرد عام 1908، وتابع كروفوت التنقيبات بين عامي 1931 و1935، وأخيراً د. هينسي عام 1967. وقد كشفت هذه التنقيبات عن القطاع الملكي وبناياته والقصور الملكية، وكان البناء وطريقة تخطيطه وحتى طرق قطع الحجارة المنحوتة كنعانية خالصة!

أثبتت التنقيبات أن المدينة ترجع إلى العصر البرونزي المبكر منذ مطلع الألف الثالث قبل الميلاد


مدينة مجدو: تقع على مسافة 20 كم جنوب حيفا في تل المتسلم، ونقب فيها الآثاري المشهور جيمس بريستد بين سنتي 1925 و1935. إن طبقاتها الآثارية السفلى تعود إلى العصر البرونزي الأول قبل الميلاد، حوالى 3000 عام، ثم توسعت لتكون إحدى أكبر مدن فلسطين القديمة، وورد ذكرها في مراسلات مع مدينة ودولة ماري الرافدينية على نهر الفرات، التي كانت سومرية وأكدية مختلطة من حيث سكانها وتراثها المكتوب والضخم الذي خلفته كسائر مدن بلاد الرافدين، وقد عرفت بكونها أول دولة مدينة من عهد دول المدن.
وقد هدمت مدينة مجدو وهجرت في القرن الثاني عشر ق.م، ثم عادت إلى الحياة بعد قرنين. وعثر على سورها وتحصيناتها وبعض القصور والأبراج الدفاعية فيها، وجرى التوصل إلى أن طريقة البناء والتخطيط والمواد هي ذاتها التي عثر عليها في مدن فلسطينية أخرى، مثل حاصور وجازر. واكتشف سور جديد، أحدث من السابق، يعود إلى القرن الثامن ق.م، مع بدء الاجتياحات الآشورية لبلاد الشام. وتؤكد السجلات الآشورية المكتشفة تدمير مجدو في هذا القرن، وبالتحديد عام 732 ق.م. وتشير البقايا الفخارية والخرائب إلى نمط البناء الآشوري، ما يدل على أنها ألحقت بآشوريا لفترة من الزمن. أما كمال الصليبي فقال إن مدينة مجدو الفلسطينية هي مدينة «مقدي» في منطقة القنفذة في عسير السعودية، ولم يذكر أي أدلة أركيولوجية كعادته، أو يعلق على ما اكتشفته حملة التنقيب الآثاري جيمس برستيد!
مدينة جازر: وتقع على مسافة 18 كم شمال غرب القدس، وتعرف إلى آثارها في تل «أبو شوشة» الآثاري ماكليستر، في حملتين للتنقيب: الأولى عام 1902، والثانية 1907، ثم حملة ثالثة قام بها آلان روي عام 1934، ورابعة عام 1964، قادها العالم ديفر. وجازر موقع كنعاني عريق جداً، عثر فيه على آثار مساكن تعود إلى العصر البرونزي، وتحول إلى مدينة كبيرة في حدود القرن السابع عشر قبل الميلاد. ثم دمرت مدينة جازر وهجرت وعادت إلى الظهور بعد ذلك. ويتوافق تاريخ تدميرها مع حملة تحوتسمس الثالث على فلسطين عام 1481 ق.م. ثم بنيت مجدداً في القرن الرابع عشر ق.م، وظلت مزدهرة حتى تدميرها خلال حروب القرن العاشر ق.م واجتياحاته.

خاتمة
الأدلة الآثارية من هذا القبيل كثيرة، سنكتفي منها بهذا المقدار لضيق المجال، على أمل أن نواصل هذا العرض للمزيد من الأدلة والكشوفات الآثارية من مدن فلسطينية كنعانية أخرى. نختم عند نماذج أخرى وردت في كتاب فنكلشتاين وسيلبرمان «التوراة مكشوفة على حقيقتها»، وهو كتاب فائق الأهمية، وكان بمثابة زلزال علمي وثقافي وحتى ديني في دولة الكيان الصهيوني هزَّ الكثير من القناعات التوراتية والصهيونية الموروثة والراسخة، وهدَّت بعضاً منها هدّاً تامّاً. لكن المؤسف أن بعض الباحثين العرب، ومنهم الربيعي، كانوا قد قرأوا هذا الكتاب بنحو غير أمين بحثياً، وحاولوا وضعه في سياق آخر غير سياقه الصحيح، بل حاولوا توظيفه لخدمة أوهام الجغرافية التوراتية العسيرية أو اليمنية، مع أنه ينقضها نقضاً جذرياً، وفيه عرض مؤلفاه مئات الأدلة الآثارية، وانتهى بهما الأمر إلى تقديم قراءة جديدة وآثارية للتوراة كلها. قراءة تشكك في الكثير - وليس في جميع - أحداث النصوص التوراتية القديمة وشخصياتها ومواضعها، وخصوصاً أسفار موسى الخمسة، لكنها لم تشكك أو تلغِ الجغرافية التوراتية الفلسطينية كجزء صغير من الجغرافية العامة لفلسطين التاريخية الألفية. لا تشكّل مملكتا يهوذا وإسرائيل القصيرتي العمر سوى قطرات من بحر التاريخ الفلسطيني.
* كاتب عراقي