لا شك أبداً في نوايا الداعين إلى الحوار والوحدة وإنهاء الانقسام، فطالما كانت هذه الدعوات، تنمّ عن حرص وغيرة، بل عن حزن وألم شديدين، على الحال الذي وصلت إليه الساحة الفلسطينية والقضية الوطنية. لكن إرجاع السياسة إلى خانة النوايا هو المقتل، وكما قيل «طريق الجحيم معبّدة بالنوايا الحسنة». يجب أن لا يغيب عن بالنا أن السياسة علم، مرتبط بالمجتمع والاقتصاد والمصالح المتناقضة والمتعارضة للشرائح الاجتماعية وتشكيلاتها السياسية. وهي بذلك لها قواعدها التي يجب أن تُحترم وتراعى في التفكير والممارسة، وعدا ذلك، نكون أمام طقوس تستجدي علاج المريض، بردّ عين الحاسد! ليست المسألة أن تعلن موقفاً مع الوحدة وضد الانقسام، أو العكس، إنما هي في أي وحدة نريد؟ على ماذا نتوحد؟ وكيف يمكن تحقيق الوحدة؟ بعد هذه المتغيّرات التي جرت عميقاً في الواقع، وأحدثت تحولات لا يمكن التغاضي عنها، والاكتفاء بوجدانيات وعواطف، وصفاء نية وحرص الداعين إلى الوحدة وإنهاء الانقسام.
(أ ف ب )

«أوسلو» ليس رزنامة معلّقة على حائط، ولم تسقط أوراقه لخمسة وعشرين عاماً، دون أثر يذكر، في الاجتماع والاقتصاد والثقافة، كما السياسة. لقد فعل فعله في كل شيء، وعلينا أن نعترف أننا أمام حقائق جديدة. حقائق جذرية، لا تكتفي في تبدّل مواقف بعض القوى أو القيادات، أيّاً كانت. نحن أمام مرحلة جديدة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. مرحلة جديدة، تعني أن كل المسمّيات السابقة فقدت معانيها، فقدت مضامينها، وتشكّلت في الواقع معطيات جديدة لم تتبلور بعد أسماؤها وعناوينها. قد تستعصي على الفهم حيناً، أو لا تلقى القبول أحياناً، لكنها الفاعلة حقيقة في تقرير وجهات السير، ولا يمكن فهم ما يجري بدون الغوص فيها وإدراك ملموس لمكوناتها.
أين هو اليمين الفلسطيني، الذي مثل شرائح البرجوازية الوطنية تاريخياً التي ناضلت لبناء دولتها وتحقيق الاستقلال، وبالتالي غدا شريكا في النضال الوطني، كأحد قوى الثورة على الصعيد الفلسطيني؟ ما هي المتغيرات التي حدثت في أوساطه؟ وأين أصبح من أهدافه وتطلعاته؟ هل ما زال اليسار ذاته، تدل عليه القوى السياسية ذاتها ارتباطاً ببرامجها ومواقفها وشعاراتها الورقية؟ أم أن مضمون ممارسته السياسية فعلياً، تظهره في موقع آخر؟ هل ما زال على يسار ما يمثله اليمين من مصالح وتطلعات؟ ماذا جرى للبرنامج المرحلي؟ هل مازال مرحلياً؟ وماذا يعني ذلك بالنسبة إلى النظام السياسي الذي حمله وتوحد حوله كقاسم مشترك؟ هل ما زال يشكّل أساساً لإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني؟
يجوز لنا دائماً، أن نفكر في الوحدة وإنهاء الانقسام، وأن نتطلع لرص الصفوف، وتوحيد إرادة الشعب الفلسطيني في النضال، لكن هل يمكن تحقيق ذلك خارج هذا السياق من التفكير والإجابة عن هذه الأسئلة؟ بين الرغبة في الشفاء والقدرة على التغلب على المرض فرق شاسع، لا يدرك كنهه إلا من بإمكانه تشخيص المرض ومعرفة أسبابه وسبل العلاج منه والتي تحتاج لزوماً إلى أكثر بكثير من نصائح وعظات وتمنيات، وقلباً أبيض.
فهل ما زالت منظمة التحرير الفلسطينية، في الميثاق والتشكيل والأهداف، تعني ما كانت تعنيه سابقاً؟ هل ما زالت هذا الكيان المعنوي الجامع، والمؤسسة الأم التي تجمع مصالح ومطامح وتطلعات معظم الشعب الفلسطيني؟
لم تكن «منظمة التحرير الفلسطينية» خارج سياق فهم المشروع الصهيوني وأهدافه ومراميه، ولم تكن خارج النضال القومي لمواجهة هذا المشروع. لقد تشكلت وتبلورت ارتباطاً بمتغيرات الواقع ومعطياته على الصعيد القومي العربي، وتبدل مضمونها ارتباطاً بتبدلات هذا الواقع، لتعبر في أوج دورها عن كتلة تاريخية تجمع مصالح وتطلعات مختلف تجمعات وشرائح الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج من اليمين إلى اليسار وما بينهما، بل وحملت مشاعر وآمال وتطلعات الشعوب العربية، وفي أوج الصعود القومي للنضال ضد المستعمر، حملت مهمة التحرير الوطني الفلسطيني والقومي العربي. فقد عبرت عن ذلك من خلال ميثاقها ومؤسساتها وبرامجها التي لم تترك «كبيرة أو صغيرة» إلا ولامسته ككيان معنوي لشعب مشتت، أقام نظاماً سياسياً يجري إعداده افتراضياً لتحقيق مهمة الحضور الفعلي من خلال التحرير. صحيح أن الوعاء الطبيعي والحاضن لمشروع التحرير، هو البيئة القومية التي منحته شرعية الحضور المعنوي كجزء منها، وأمّنت له الشرعية الدولية، كممثل وحيد للشعب الفلسطيني ونضاله التحرري، ولكن كل هذه الشرعية التي تحققت لمنظمة التحرير الفلسطينية عربياً ودولياً، ما كانت لتكون لولا الأساس الذي قامت عليه من مشروعية المطالب والمطامح التي عبرت عنها ممثلة لكل تجمعات الشعب الفلسطيني وشرائحه الاجتماعية، بل وفئاته العمرية أيضاً.
في محاولة لفهم دور ووظيفة «منظمة التحرير الفلسطينية»، ومشروعية تمثيلها الوطني للشعب الفلسطيني، فإنّ هذا التمثيل يستمدّ قوته من تماثلها مع الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني أينما كان وحيثما وجد، أي في تكريسها لأحقية الحضور الوطني الفلسطيني على الخريطة العالمية، وتساوي المنظمة ككيان معنوي، الوطن الافتراضي، والانتماء لفلسطين في النسب والتاريخ والجغرافيا والثقافة، يساوي الانتماء للمنظمة. وهذا خارج حسابات المواقف السياسية المباشرة.
في بحث تمثيل المنظمة لكلّ ذلك، لا بد من التوقف أمام ثلاثة مفاصل رئيسية:

المنظمة/ مشروع تحرري شامل
في هذا البعد تسمو المنظمة إلى مصاف المقدّس، بحملها لمشروع تحرر وطني شامل يكثف حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية. آمال وتطلعات مختلف تجمعاته وشرائحه الاجتماعية وقطاعاته الشعبية. أي وظيفة صهر مكونات وطاقات الشعب الفلسطيني، ومنعها من الذوبان والتلاشي بفعل التشرد والتشتت، ومواجهة كل المؤثرات التي يتعرض لها الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده. ولا يرتبط ذلك بالمواقف السياسية الجارية للقوى السياسية المنضوية في إطار المنظمة، السياسة اليومية، بل من خلال ميثاقها ومؤسساتها ووظائفها والسياسات العليا التي تحكم عمل هذه المؤسسات التي تسعى لبلورة الشخصية الوطنية الفلسطينية كفاعل على الصعيد العالمي في مختلف المجالات، العلمية والثقافية والتربوية، والفن والأدب، والمسرح والسينما، كما الاقتصاد والسياسة... إلخ.
لقد لعبت المنظمة هذا الدور فيما مضى، لكنه للأسف تهشّم وتهمّش، بفعل طغيان أجندة «أوسلو»، الذي سعى وعن عمد، لتضخيم السلطة على حساب المنظمة. وُضعت المنظمة تحت مقصلة الاتفاقات التفصيلية لإجهاض هذه الوظيفة، فنال ذلك من صدقية دورها وتمثيلها. لم يدرك فريق «أوسلو» أهمية إعطاء هامش يفصل بين دور المنظمة السياسي كمرجعية سياسية عليا مقررة في الشأن السياسي، ووظيفتها الوطنية التمثيلية الموازية للهوية الوطنية الفلسطينية، مشروع تحرري شامل.

المنظمة / جبهة وطنية عريضة
الكارثي في ما تقدّم، هو إجهاض المشروع التحرري الشامل، وتحوّل المنظمة إلى مشروع سياسي لفريق بعينه، ووجود أي فصيل فيها مرهون بموقف سياسي تفصيلي إزاء أي قضية. أي إنها باتت تحمل مشروع «أوسلو» السياسي حصراً. لقد استعصت إمكانية ضم المنظمة لكل القوى السياسية الأساسية الفاعلة على مساحة النضال الوطني الفلسطيني. حتى البرنامج المرحلي الذي شكل قاسماً مشتركاً فيما مضى، سقط بفعل ميكانزمات التدمير التي خلّفها «أوسلو» في الجسد الفلسطيني.
إذا أريد لمواجهة صفقة القرن أن تشكل قاسماً مشتركاً جديداً يجمع مختلف القوى الفلسطينية، يفترض أن نناقش في وحدة الموقع الذي ننطلق منه لمواجهة هذه الصفقة، ووحدة الهدف الذي نسعى لتحقيقه من خلال إسقاطها. ثمة من يواجه صفقة القرن على قاعدة «أوسلو» ودفاعاً عنه، وبالتالي فإن «أوسلو» يشكّل البرنامج النهائي له وليس المرحلي فقط. وفي أحسن الأحوال يعتبر آخرون «أوسلو» هو البرنامج المرحلي. إن القاسم المشترك الحقيقي الجديد ينطلق من أساس لا يمكن المواربة فيه، وهو فشل «أوسلو» في أن يكون مساراً يوصل إلى البرنامج المرحلي، عوضاً عن أنه يضع علامة استفهام كبرى حول البرنامج المرحلي ذاته.

مؤثرات البيئة العربية في إنتاج وإعادة إنتاج النظام السياسي
لا يمكن إنكار دور البيئة القومية في بلورة دور «منظمة التحرير الفلسطينية» ووظيفتها في كل مرحلة من المراحل التي مرّت بها منذ تأسيسها، فحجم التداخل بين المنظومتين (العربية والفلسطينية) لا يمكن التغاضي عن مؤثراته في دور المنظمة وتوجهاتها. في النهاية إن هذا الكيان الافتراضي يتكئ على منظومة قائمة في الواقع يستمد قوته منها لأداء دوره ووظيفته. لقد أسس النظام الرسمي العربي المنظمة بصيغتها التقليدية (1964)، ثم أعادت الناصرية تشكيلها بصيغتها الناصرية (1969)، وكان للنكسة آثارها في بلورة صيغتها الوطنية الجديدة، والاعتراف بتمثيلها الكلي والحصري للشعب الفلسطيني عام 1974. ثم كان لتداعيات العدوان على العراق وما تمخض عنه ورافقه من متغيرات دولية، أثره الواضح في إعادة إنتاج المنظمة بصيغتها «الأوسلوية». وكحصيلة لفوضى ما سمي بـ «الربيع العربي»، الذي أطاح بالمنظومة العربية بصيغتها القديمة، وجعل منها مجموعة من الأحلاف المذهبية الجهوية، أدوات للأجندات الدولية في مواجهة القوى الإقليمية، وعلى حساب القضية المركزية للأمة العربية، يأتي مؤتمر وارسو كمحطة مفصلية في سياق بلورة ملامح الصراع القادم وأطرافه في المنطقة والعالم.
إن فشل «أوسلو» هو فشل برنامج اليمين و«اليسار الهامشي»، وهو الوقت المناسب ليتقدّم «اليسار النقيض» ببرنامجه


في هذه المرحلة الضبابية وعدم نضوج النتائج، تقف «منظمة التحرير الفلسطينية» عند مفترق طرق جدّي، في حالة انتظار، بين حالين، ولأن الحالة الوسط ما بين الحالين ممنوعة، فشل الحوار الفلسطيني مراراً وتكراراً، وفشلت مساعي إنهاء الانقسام مرات ومرات، وسوف تفشل طالما لا تتوفر بيئة عربية مؤاتية لإفراز صيغة وسطية. فإما أن تكون جزءاً من المنظومة العربية ومعنية بالتزاماتها ارتباطاً بصفقة القرن، وحالة العداء الإقليمي لإيران ومحور المقاومة، وتنام على وعد ما سيقدمه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ويتماشى مع ما تقبله «إسرائيل»، بحدود روابط قرى، أو أن تكون قادرة على إعادة إنتاج نفسها كمشروع تحرري شامل، ليس في مواجهة «إسرائيل» وحدها بل في مواجهة البيئة العربية أيضاً.

اليمين الفلسطيني خارج تمثيله التاريخي
عند مفترق الطرق هذا، يقف اليوم ما يسمّى باليمين الفلسطيني على رأس المنظمة والسلطة وحركة «فتح». عندما تبلور المشروع الوطني الفلسطيني في مواجهة النكبة أواخر خمسينيات وبداية ستينيات القرن الماضي، مثلت حركة التحرير الوطني «فتح»، مشروع البرجوازية الوطنية الفلسطينية، التي دمّر أساسها مشروع الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وحرمها من بناء دولتها وتحقيق استقلالها، وقد كثف هذا المشروع مصلحة مختلف شرائح الشعب الفلسطيني، وهكذا تبوّأت موقعها على رأس النظام السياسي الفلسطيني، «منظمة التحرير الفلسطينية». ظلّت حركة «فتح»، أمينة لتمثيلها الأساسي لمشروع البرجوازية الوطنية الفلسطينية، ولم تتأخر في أن تكون مع شريكها النظام الرسمي العربي في دخول التسوية في مؤتمر مدريد، عندما توفرت البيئة العربية المناسبة لإنهاء الصراع، حين أفرزت حرب الخليج الثانية عودة النظام العربي إلى الخيار المصري في التسوية.
إن ديناميات الفعل العميقة التي أحدثها «أوسلو» في الواقع الاجتماعي والاقتصادي الفلسطيني، أجهضت مشروع البرجوازية الوطنية الذي مثلته «فتح» طوال تاريخها، فقد أنهى مشروع الاستقلال الوطني، وحوّل أجزاء واسعة من هذه البرجوازية إلى سمسار مستفيد تابع للاحتلال. بالإمكان الحديث عن الكثير من المنافع الاقتصادية لفئات حصرية، عبر وكالات وشراكات مع الشركات الإسرائيلية، إلا أن المنافع لا يمكن حصرها في الاقتصاد المباشر، فهي تستشري مثل الغدد السرطانية، وتنتشر على مساحة البنية الاجتماعية، في المناصب والمكاسب والرشاوى، في الثقافة والإعلام والفن، في الأجهزة الأمنية والإدارات المدنية، في أجهزة التعليم والقضاء وغيرها.. إلخ.
للتبعية الاقتصادية تمثيلها السياسي، وهو حكماً على حساب شرائح أخرى من هذه البرجوازية الوطنية، وهي ليست محصورة في فصيل حركة «فتح»، وإن كانت تمثّلها سياسياً، لكن الشرائح الاجتماعية الاقتصادية المستفيدة من منافع «أوسلو» أوسع من أن يضمّها فصيل وحده، أو حتى أن يمثلها فصيل بعينه. فهل ما زال اليمين الفلسطيني المتشكّل تاريخياً مع تأسيس حركة «فتح» و «منظمة التحرير»، هو بالمضمون والمعنى والمسمى ذاته أو يعيش حالياً صراع بلورة المشروع السياسي، مع فشل «أوسلو» في إنتاج دولة واستقلال وطني، سعت له البرجوازية الوطنية الفلسطينية تاريخياً؟

اليسار الفلسطيني خارج دوره التاريخي
السؤال الذي يلي هو، أين يقف اليسار الفلسطيني؟ وما هو موقعه من مأزق اليمين في تحقيق الاستقلال والدولة؟ حين نتحدث عن أن المنافع والمكاسب أوسع من أن يضمّها أو يمثلها فصيل بعينه، فإننا لا نستثني اليسار، فهو أيضاً في صراع مع ما مثّل تاريخياً ويمثل حالياً، فهو حكماً جزء من هذه البنية الاجتماعية الاقتصادية السياسية الإدارية، التي استشرت فيها غدد «أوسلو» السرطانية، واليسار هنا، ليس في مسميات الفصائل ودورها السياسي فقط، بل في الشرائح الاجتماعية التي تقاسمت بنى الأجهزة الأمنية والمدنية والسياسية، طبعاً بقدر حجمه السياسي، كمعيار لتحديد الحصة في المكاسب والمنافع، أي إنه تحوّل إلى هامش لليمين في تراتبية المنافع والمكاسب وأحجامها. لقد أُفرغ من مضمونه السياسي المفترض أن يكون حكماً على نقيض اليمين. إنها شراكة وإن اختلفت النسب والأحجام، وتبعاً لذلك يتحدد هامش الاختلاف السياسي.
لقد أُخذ على اليسار انضباطه بذات القواعد التي وضعها اليمين في التفكير والممارسة في ظاهرة الثورة الفلسطينية المعاصرة، ولم يتمكن من ممارسة القطيعة الفكرية لتشكيل منهجية ممارسة تجعله متمايزاً عن اليمين، والحقيقة أنه ما زال يمارس فعل الانضباط ذاته، لقواعد لعبة يضعها اليمين ويستلهمها اليسار.
إنه جزء لا يتجزأ من مأزق المشروع الوطني، حين تحوّل من اليسار النقيض إلى اليسار الهامشي، في التمثيل الاجتماعي للشرائح الاجتماعية ومصالحها، وفي التمثيل السياسي لثوابت المشروع الوطني. إن أزمة المشروع الوطني، بالترجمة الملموسة، هي الفشل في تحقيق البرنامج المُجمَع عليه وطنياً وذلك نتيجة لمشروع «أوسلو»، ويتعمّق المأزق أكثر فأكثر حين يريد البعض نشر الأوهام بأن «أوسلو» هو المشروع الوطني ذاته.
البداية الحقيقية للخروج من المأزق، لا بد أن تمرّ من الإقرار بأن «أوسلو» لم يمكن مساراً صالحاً لتحقيق المشروع الوطني، بل هو دمّر البرنامج المرحلي، ووضع أمامه علامة استفهام كبرى، حين كشف عن ضعف منهجي في فهم المرحلية في تحقيق الأهداف الاستراتيجية، حيث تحوّل إلى هبوط متدرّج في سقف المقبول وصولاً إلى روابط القرى. ومهما حاول اليسار عبثاً أن يتنصّل من بعض التفسيرات، فإن البرنامج المرحلي في أحسن حالاته والذي يشكل مطلباً بعيد المنال حالياً، هو صيغة حلّ الدولتين. بمعنى أن البرنامج المرحلي بصيغته المُجمَع عليها وطنياً قد انتهى إلى غير رجعة، ولم يعد ممكناً إعادته إلى الحياة، ليشكّل قاسماً مشتركاً يمثّل إجماعاً لغالبية الشرائح الاجتماعية للشعب الفلسطيني في مختلف تجمعاته، وبرنامجاً سياسياً يعيد بناء النظام السياسي الفلسطيني على أساسه، ويجدد من خلاله دوره ووظيفته.
إن فشل «أوسلو» هو فشل برنامج اليمين و«اليسار الهامشي»، وهو الوقت المناسب ليتقدم «اليسار النقيض» ببرنامجه القائم على فكرة دولة فلسطين الديمقراطية على كامل التراب الوطني الفلسطيني، والتي يعيش مواطنوها بمساواة كاملة بدون تمييز في الحقوق والواجبات. ويسعى لتحويله إلى برنامج إجماع وطني، وفق منهجية جديدة، لا تختزل البرنامج المرحلي في الهدف، ولجزء من الشعب الفلسطيني على حساب بقية الأجزاء، بل مرحلية في بناء قدرات الشعب الفلسطيني وقواه الحية، مرحلية في السعي لامتلاك عناصر القوة، وتعظيمها مرحلة بعد أخرى، في استراتيجيات عمل نضالية تراكمية، على طريق تحقيق الهدف الاستراتيجي.
*عضو اللجنة المركزية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين