يسعى بوتين عبر خطة ذكية لكسب أنقرة وإخراجها من الحلبة الغربية
وتتحدث المعلومات باستمرار عن مساعي أنقرة لـ«تتريك» الشمال السوري غرب الفرات، حيث تتواجد القوات التركية مع ما لا يقل عن 50 ألف عنصر من الفصائل الإسلامية المختلفة، البعض منها تركمانية تم تنظيمها من قبل الجيش التركي مباشرة. وكان قادة هذه الفصائل قد التقوا في الـ 19 من الشهر الماضي في مدينة الراعي غرب جرابلس مع قيادات العشائر التركمانية، وأعلن المجتمعون عن اختيار علم وطني للتركمان وتشكيل مجلس تركماني سيتحمل مسؤولية إدارة المناطق التركمانية غرب الفرات، كما تدير المجالس الكردية أمور مناطق شرق الفرات. وتستبعد المعلومات أي مواجهة، بل حتى توتر، مع «النصرة» وأمثالها، باعتبار أنها مجموعات إسلامية لا ولن يفكر أردوغان بمعاداتها طالما أنه يقول إنه زعيم الأمة الإسلامية والمسلمين، أي الإسلاميين في سوريا والعالم أجمع. فكل قيادات «الإخوان» الهاربة من بلدانها موجودة في إسطنبول مع العشرات من وسائل الإعلام الموالية لهم. تدفع هذه المعطيات المتناقضة العديد من الديبلوماسيين لطرح العديد من التساؤلات عن الموقف المحتمل للرئيس بوتين مع استمرار الرفض أو التأخر التركي في تطبيق اتفاق سوتشي في ما يتعلق بإدلب، وبالتالي الاستمرار في مساعي أردوغان لتتريك الشمال السوري وكسب ود وتضامن ودعم السوريين المقيمين في تركيا لأي مشروع تركي مستقبلي خاص بالشمال السوري أو سوريا عموماً. هذا في حال خروج القوات التركية من الشمال السوري، وهو ما تستبعده بعض الأوساط العسكرية التي تقول إنه حتى إن خرجت هذه القوات ــ وهو ما تسعى وستسعى أنقرة لتأخيره ــ فإن السلطات التركية ستترك خلفها من يمثلها في الداخل السوري من عناصر الفصائل المختلفة والمدنيين الذين وظفتهم تركيا خلال الفترة الماضية، وهذا ما تتحدث عنه كل المعلومات الواردة من مناطق وجود القوات التركية. وذلك من دون أن يكون واضحاً بعد الموقف المحتمل للرئيس بوتين الذي لا يدري أحد كم الأوراق التي يملكها في مساوماته مع الرئيس أردوغان، ليس فقط في ما يخص إخراج الجيش التركي من سوريا، بل أيضاً لإبعاد تركيا عن حليفتها الاستراتيجية واشنطن. وسينعكس ذلك على علاقات روسيا الاقتصادية الحالية والمستقبلية مع تركيا التي تبني أول مفاعل نووي بالاتفاق مع روسيا، وهو بقيمة 22 مليار دولار. ويتساءل البعض في ما إذا ستكون سوريا ورقة للمساومة بين أردوغان وبوتين الذي يسعى لضم تركيا إلى «منظمة شانغهاي» ومجموعة «البريكس»، ليساهم ذلك في كسب أنقرة إلى جانبه ضمن خطة روسية ذكية تساهم في إخراج تركيا من الحلبة الأميركية الغربية التي كانت كافية لرهن إرادتها السياسية والعسكرية بانعكاسات ذلك على مجمل السياسات التركية، الداخلية منها والخارجية، منذ عام 1946، ومن ثم انضمام تركيا لحلف «شمال الأطلسي» ومن بعده حلف بغداد، والاعتراف بإسرائيل. وعلاقات أنقرة بإسرائيل، هي الأخرى، شهدت أخيراً سلسلة من التناقضات الغريبة، فقد هدد وتوعد الرئيس أردوغان إسرائيل في كل مناسبة، إلا أنه عاد وأرسل إليها إشارات ودية عبر لقاءاته مع قيادات اللوبي اليهودي في أميركا. كما أمر بإسقاط الدعاوى المقامة ضد الضباط الإسرائيليين في المحاكم التركية، بعد أن تبرعت تل أبيب بعشرين مليون دولار لضحايا سفينة مرمرة التي هاجمها الجيش الإسرائيلي وهي في طريقها إلى غزة نهاية أيار/ مايو 2010. وسبق هذا العدوان بعدة أيام قرار الحكومة التركية يوم 10 أيار/ مايو 2010 بعدم استخدام حق الفيتو ضد انضمام إسرائيل لمنظمة «التعاون والتنمية العالمية» (OECD)، ولحق بذلك في 5 أيار/ مايو 2016 قرار تركي آخر بعدم الاعتراض على فتح ممثلية إسرائيلية عسكرية في مقر «الأطلسي» في بروكسيل، وهو ما اعتبرته أوساط المعارضة محاولات أردوغانية للحفاظ على علاقاته مع إسرائيل التي لم تنقطع علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع تركيا أبداً.
ويبقى الرهان دائماً على التناقضات المحتملة لمواقف الرئيس أردوغان الذي يعرف الجميع أنه لا ولن يتخلى عن مشروعه السياسي والعقائدي الذي يهدف إلى أسلمة الأمة والدولة التركية بكل مؤسساتها العسكرية والأمنية والقضائية، ليكون هو حاكمها المطلق من دون أي معارضة ومهما كانت، لأنه لا يريد ولن يسمح بعد الآن لأحد أن يعرقل تنفيذ مخططاته ومشاريعه الداخلية. وهي مشاريع نتاج أو امتداد لسياساته الخارجية وخصوصاً الإقليمية، طالما هو يتحدث بين الحين والآخر عن أحلام الخلافة والسلطنة العثمانية التي تحمل في طياتها العديد من الحسابات التاريخية، وجميعها مع روسيا وإيران والمنطقة العربية، وبالذات سوريا والعراق اللذين كانا ضمن حدود الدولة العثمانية حتى عام 1918. ويراهن البعض على مدى استعداد الرئيس أردوغان للتراجع عن كل ما قام ويقوم به في سوريا والمنطقة، وبالتالي لتغيير صفحات التاريخ التركي الذي تحدث دائماً عن عداء روسيا السوفياتية والإمبراطورية لتركيا العثمانية والجمهورية التي كانت ولا تزال خندق الدفاع الأول عن «الأطلسي». ويراهن آخرون على احتمالات التخلي عن الفكر التركي العقائدي، العثماني منه والجمهوري، الذي كان يرى في إيران «الفارسية الشيعية» الخطر الأكبر بعد أن أفشلت طهران المشروع التركي في سوريا، ومن خلالها في الربيع العربي الذي أراد له أردوغان أن يساعده على إحياء ذكريات الخلافة العثمانية من خلال استضافة إسطنبول أسبوعياً لفعاليات إسلامية إقليمية ودولية يشترك فيها المئات من الإسلاميين من مختلف أنحاء العالم. ويبقى الرهان على قوة كل من بوتين وترامب وما يملكه كل منهما للتأثير في الرئيس أردوغان الذي أثبت طيلة 16 عاماً من حكمه أنه ليس سهلاً، كما أنه هو الآخر يملك العديد من الأوراق التي يمكن أن يساوم بها بوتين وترامب، ومن دون أن يكون واضحاً مدى تأثير هذه الأوراق في واشنطن وموسكو اللتين تتنافسان في سوريا، وعبرها في المنطقة، التي بات واضحاً أن أردوغان وعبر سياساته في سوريا بات لاعباً أساسياً فيها، في البداية بفضل أميركا وبعدها بالضوء الأخضر الروسي!