إنّه سؤال وجيه حول أي حزب شيوعي عربي وهو عنوان كتاب صدر في لندن أخيراً جاء في 480 صفحة، ويعالج ملف الحزب الشيوعي السوداني. أشرف على تحريره صديق الزيلعي (العنوان كاملاً: هل يمكن تجديد الحزب الشيوعي السوداني؟ 1946–2016 قراءات في التاريخ والتجربة وتحديات الحاضر والمستقبل في الذكرى السبعين لتأسيسه، مركز آفاق جديدة للدراسات، لندن). يضم الكتاب مقالات متنوّعة وحوارات مع كتّاب يمثّلون مختلف الآراء من داخل الحزب وخارجه. كما احتوى ملحقاً فيه وثائق تعبّر عن تطور فكر الحزب ومواقفه خلال المراحل المختلفة من تاريخه، وتعطي القارئ فكرة شاملة عن تطوره.لعب الحزب الشيوعي دوراً مهماً في تاريخ السودان الحديث، فكان له موقع أساسي في السياسة. هذا الموقع جعل مستقبل ومصير الحزب همّاً وطنياً سودانياً عاماً لا ينحصر بعضوية الحزب المنتظمة، كما لا ينحصر نقاشه داخل قنوات الحزب. والكتاب ليس وثيقة تحمل رأي الحزب الرسمي، ولا برنامجاً جديداً له، إنما يقدّم حواراً حول الحياة الحزبية في السودان ومنها الحزب الشيوعي، ومحاولة جادة للتقييم الناقد لتجربة الحزب وتاريخه وإسهاماته والمراحل المختلفة التي مر بها خلال تلك العقود، وأيضاً لتحليل مدى نجاح نظريته وبرنامجه السياسي أمام تحديات الواقع السوداني المعقّد، وهل كان يملك إجابات تُخرج البلد من أزمته الراهنة؟ أيضاً يهدف الكتاب إلى دراسة تعامل الحزب مع انهيار التجربة السوفياتية وقراءة الدروس التي خرج بها من ذلك الانهيار، وهل أدّت تلك الدروس إلى تغييرات في برنامج وتكتيكات «الشيوعي السوداني»، وما هي تلك التغييرات.
هناك من يرى أنّ الحزب يعاني أزمة عميقة ويجب العمل الآن قبل الغد على تجديده. وهناك من يعتقد أنّه لا يمكن تجديده ما دام متمسّكاً بالماركسية اللينينية، وأنّ المراجعة يجب أن تبدأ من النظرية نفسها. ولمصير الحزب أهمية وطنية جراء الأزمة السياسية التي يعاني منها السودان والمتمثلة في فشل الإنقاذ والإصرار على المضي في سياسات أدّت إلى الفشل وإعادة إنتاج الأزمة التي دمرت البلد وقسّمته إلى كيانات متناحرة وضيّعت هويته الوطنية. وهي تجربة مريرة أوضحت أن انفراد أيّ طرف في الحكم لن يحل المشكلات المعقدة التي تزداد تعقيداً. هذا الوضع المأزوم يفرض ضرورة بناء نظام جديد يعتمد على التعددية السياسية ومنهج تنموي يعيد توزيع الثروة الوطنية على المواطنين في المحافظات والمدن الرئيسية، حيث تلعب الأحزاب والحركات، لا سيما العابرة للأديان والإثنيات دوراً أساسياً في بناء مستقبل أفضل.
ساهمت في الكتاب شخصيات سودانية مهمومة بالشأن العام خصوصاً الوضع السياسي والكتاب والنشطاء من مختلف أطياف الفكر والسياسة المحلية، ما جعل الحوار دسماً متنوعاً ومحفزاً للتفكير والتقييم. وهذه لائحة بمواضيعه:
* هل يعاني الحزب الشيوعي من أزمة؟ هل هي أزمة الفكر الماركسي أم التطبيق الاشتراكي؟ هل هنالك ماركسية واحدة أم عدّة ماركسيات؟ وهل كسبت الرأسمالية المعركة أم الحرب؟ وما هو مستقبل المشروع الاشتراكي؟
* تاريخ الحزب: سنوات التأسيس، النضال ضد الاستعمار، سنوات الحكم الوطني الأول، الحكم العسكري الأول، ثورة أكتوبر، حل الحزب، نظام مايو، انقلاب يوليو، الانتفاضة، الديموقراطية الثالثة، الإنقاذ.
* تقييم حصيلة المؤتمرات الحزبية الدورية والاستثنائية: المؤتمر العام سنة 1949 والمؤتمر الثاني والثالث والرابع، ثم المؤتمر العام سنة 1970 يليه المؤتمر الخامس والسادس. وربط تلك المؤتمرات بقضية ممارسة الديموقراطية داخل الحزب.
* تجارب العمل الديموقراطي والجماهيري والجبهوى وسط الطلاب والنساء والشباب والنقابات والاتحادات ومع الأحزاب الأخرى. 
* الانقسامات: أسبابها ونتائجها وكيفية إدارة الصراعات الفكرية قبل وأثناء وبعد تلك الانقسامات.
* انهيار التجربة السوفياتية وهل استخلص «الشيوعي السوداني» دروس الانهيار؟ ما هي التغييرات التي أُدخلت على برنامج الحزب ومناهجه كنتاج لذلك الانهيار؟ وهل شكّلت تلك التغييرات تحوّلاً حقيقياً في وجهة الحزب؟ ما هي التغييرات التي يمكن أن تشكّل تحولاً حقيقياً في كل ما يتعلق بالحزب؟ 
* موقف الأجيال الشابة الجديدة والحركات الشبابية المختلفة من الحزب وهل هي إضافة له أم خصم ضدّه؟
* التيارات المختلفة داخل الحزب منذ تأسيسه حتى الآن: طرحها النظري ورؤيتها حول برنامج الحزب وتكتيكاته وحول مستقبله وكيفية إدارة الصراع الفكري بينها.
لعب الحزب دوراً مهماً في تاريخ السودان الحديث وكان له موقع أساسي في السياسة


* تقييم تجارب الحركة السودانية للتحرر الوطني والجبهة المعادية للاستعمار والحزب الاشتراكي وهل لها قيمة في الحوار الدائر حالياً؟ 
* ما هي القضايا النظرية والعملية التي تعيق تحويل «الشيوعي» إلى قوى جماهيرية كبرى كما تبنّى مؤتمره الثالث؟
* هل يمكن تجديد الحزب وهل له مستقبل في السياسة السودانية؟ 
ويختتم الكتاب بتوجيه نداء للفعاليات السودانية، خصوصاً للشباب والنساء وأبناء المناطق المهمّشة، لأنّ تمثيلهم في قائمة الذين وافقوا على المشاركة أقل من حجمهم في الواقع.
في الكتاب فصل بقلم عمرو محمد عباس محجوب بعنوان «السبعينيّة: ماضي الحزب الشيوعي ومستقبله»، يتحدّث عن صعوبة الكتابة عن الحزب لعدم توافر الوثائق، ولحساسية قياداته من النقد البنّاء. ثم يقدم مناقشة للأسس النظرية للحزب الشيوعي الماركسية اللينينية ويركّز على اليقينيّة التي تميزت بها والتي حولتها إلى أيديولوجية نص. وينتقل إلى قضية السلطة في الماركسية بكافة تقسيماتها الفكرية من المدرسة الفرانكفورتية وصولاً إلى آراء ماركس وانغلز، وطرح ليون تروتسكي حول الاشتراكية وإمكانية أن تبدأ الثورة من بلد يعاني من رأسمالية متخلفة، ولتبخيس الديموقراطية البرلمانية من قبل لينين.
وتحت فصل «تجديد الحزب الشيوعي ضروراته وصعوباته»، ناقش عبد العزيز حسين الصاوي التغيير والتجديد في حالة «الشيوعي» وكل الحركات السياسية السودانية، ويتعرض لمرحلتي الصعود والانحسار للحزب. فقد تميّزت الفترة الأولى 1950 إلى 1970 بظروف مساعدة ذاتياً وموضوعياً. ثم تلت ذلك مرحلة انحسار، ويضرب مثلاً ضعف عمل الحزب وسط النقابات والمثقفين وما ناله الحزب من أصوات في انتخابات 1986، ما يعكس ذلك الضعف. ثم يكتب النور حمد «لم يبق سوى التوليف»، ويوضح أن الغرض من العنوان مقاربة توليفة تخرجنا من النظريات الكلية لنعمل جميعاً بذهن منفتح على إعادة توليف الخطوط «الوهمية» التي ظلت تفصل بين مختلف التنظيمات المندرجة تحت اليسار السوداني العريض على رغم اتفاقها في الأمور الجوهرية. ويطرح جبهة عريضة تتميز بمرونة فكرية وتنظيمية، ويقول إنّ التفكير الدوغمائي ليس حكراً على الماركسية وإنما يعاني منه بعض مفكري الرأسمالية، وإنّ القوى العاملة في العالم الغربي ظلت تعمل شدّاً وجذباً من داخل بنية النظام الرأسمالي، منخرطة معه في صراع مطلبي يتسم بالسلمية من أجل تحسين الأوضاع.
ولذلك، عبارة «يا عمال العالم اتحدوا، فإنه ليس لديكم ما تفتقدونه سوى الأغلال»، قد أضحت إلى حدّ بعيد عبارةً بلا مدلول في واقع الدول الصناعية الكبرى. فالعامل في هذه الدول أصبح لديه الكثير الذي يمكن أن يفقده إن اهتزّ الاستقرار السياسي واضطربت الأحوال. ولم يعد في وسع العامل الأوروبي أن يتحد مع العامل في أفريقيا أو آسيا أو أميركا اللاتينيةـ ففي حين لا يفقد العامل الأفريقي أو الأسيوي سوى الأغلال حين يثور، يفقد الأوروبي الكثير لأنّه أصبح منتفعاً من النظام الرأسمالي.
ويكتب هاشم محمد أحمد تحت عنوان «الحزب الشيوعي بين التطور والتجديد خلال عمره المديد»، ويصفه بأنّه حزب ثوري ذو نظرية جديد في طبيعته وأهدافه ووسائله وعلاقاته الإقليمية والدولية، ثم يعرج على برنامج المؤتمر الخامس والإضافات التي أدخلت على اللائحة الجديدة. أمّا فاروق محمد إبراهيم، فكتب عن «مشروع الثورة الوطنية الديموقراطية» ودور الأصولية الشيوعية في انهياره. ويشرح صعود مشروع تلك الثورة والنجاحات التي حققها خلال السنوات الأولى، خصوصاً «ثورة أكتوبر» في روسيا. ثم يشرح الملابسات التي أدت إلى التراجع عن مؤتمر الخريف والانقلاب عليه وعلى كل قرارته بعد رجوع عبد الخالق من موسكو. ويعرض كيف أدى انقلاب 19 يوليو 1971 إلى هزيمة المشروع الوطني الديموقراطي. ويركز بعدها عن علاقة الحزب الشيوعي بنظام النميري، ثم يقدّم نقداً لوثيقة «حول البرنامج» التي كتبها عبد الخالق محجوب في معتقل الشجرة، وأنها البرنامج السياسي لـ«19 يوليو» التي هزمت المشروع الوطني الديموقراطي. ويختتم بدعوة اللجنة المركزية التي انتخبها المؤتمر الرابع في القيادة المركزية للحزب الشيوعي لعقد المؤتمر الخامس ولحل الحزب وتحول قيادته إلى لجنة لتأسيس «الحزب الديموقراطي الطليعي». ويناشد كلاً من الرفاق محمد إبراهيم وسليمان حامد (السودان) والتجاني الطيب ومحجوب عثمان (مصر) وعز الدين علي عامر وفاطمة أحمد إبراهيم (لندن) بالدعوة لهذا المؤتمر والانتصار على أنفسهم واتخاذ هذا القرار الذي يقي أعضاء «الشيوعي» شر المزيد من الصراعات والانقسامات.
ويعقّب التيجاني الطيب على فاروق تحت «فكرة عتيقة: أهدُم عبد الخالق تهدُم الحزب الشيوعي». ويحدّد جوهر ما كتب فاروق ونقطته المركزية وهي أن «الحزب الشيوعي يعطل طاقات آلاف المناضلين ويشلّ حركتهم ما يجعله العقبة الأساسية أمام قيام الحزب الطليعي المنشود. ولذلك تجب إزالة العقبة بعقد المؤتمر الخامس الذي يحل الحزب وتتحوّل قيادة الحزب إلى لجنة تمهيدية للحزب الجديد». ينتقد التيجاني طرح فاروق حول تاريخ الحزب الذي حوّله إلى صراع شخصيات ويصف ذلك بـ«المنهج المعوّج». ثم يركّز على تحامل فاروق غير المبرر على عبد الخالق فيصفه بالمتعطش للسلطة، وأيضاً يتهم كل قيادة الحزب التي تحيط بعبد الخالق بأنهم إمعات أمام شخصية عبد الخالق وسطوته وأساليبه في اغتيال الشخصية. ويختتم التيجاني تعقيبه بالرد على آراء فاروق حول «19 يوليو» وحول وثيقة البرنامج.
وقدم حامد فضل الله قراءة من ذكريات «الشيوعي السوداني» تحت عنوان «شيوعيون عرفتهم». فيكتب: «تعرّفت إلى الشيوعية عن طريق الصديق جورج في بداية المرحلة الثانوية عام 1955». ويسرد علاقاته وذكرياته مع القادة والرفقاء والأصدقاء من الحزب في ألمانيا الشرقية: «كنا نسمع بالزيارات المعلنة لكبار وقادة اتحاد نقابات العمال أو الطلاب أو اتحاد الشباب أو الحزب الشيوعي وأحياناً نلتقي مع بعضهم مثل محمود باكبر وجعفر وإبراهيم زكريا وعبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ والطيب أبو جديري. ووقتها كان رئيساً لاتحاد الطلاب العالمي ومقرّه براغ، وعبد الرحمن عبد الرحيم الوسيلة. وكان الوسيلة المثقف الغرامشي يسعى دائماً للقاء بنا. وهو واسع الاطلاع وطيب المعشر على رغم أسلوبه الهجومي الذي اتصف به أثناء الجدل والنقاش السياسي. وكان عندما يحضر إلى مدينة لايبزغ يبحث فقط عن أسطوانات الموسيقى الكلاسيكية لبيتهوفن أو باخ أو هندل، علاوة على غرامه بأعمال شكسبير وبريخت».
يختتم محرّر الكتاب الدكتور صديق الزيلعي بفصل عنوانه «مقدمة مطوّلة في نقد المركزية الديموقراطية»، حيث يستنتج أنّ «أي محاولة جادة وجهد أصيل لتجديد الشيوعي السوداني وتطويره وجعله أكثر ديموقراطية لا يواجه السلفية الماركسية وينهي المركزية الديموقراطية ويستبدلها بشكل تنظيمي أكثر مواكبة للعصر والخبرات المكتسبة... مصيره الفشل التام».
* صحافي لبناني مقيم في برلين