ــــ تعليقاً على الاعتصام أمام شركة الكهرباء (عكار) بدعوة من «الحراك المدني في عكار» في منتصف آب، كتب مسؤول الحزب الشيوعي في عكار، الرفيق عصام يعقوب، في صفحته على فيسبوك، في 17 آب: «في أفضل الأحوال، سجل الحراك المدني دعوى ضد مجهول حيث أقام اعتصامه في حضور طاغٍ للسلطة وامتداداتها البلدية»... وتساءل يعقوب موجهاً كلامه إلى مسؤولي «الحراك المدني في عكار»: «ألم يخطر ببالكم أنكم تبرئون الجاني أو تناصرون أحد أطراف السلطة في مواجهة أطراف أخرى؟ ولماذا رمزية الاعتصام ونعومته ولماذا لا يكون حراكاً تصاعدياً يتناسب مع المعاناة؟»... وأضاف: «ما قمتم به يساهم في تضييع البوصلة وفي تبرئة الفاعل وهو معروف وواضح أنه السلطة السياسية، سلطة الأقلية البورجوازية، سلطة الفساد والاستيلاء على حقوق الناس هي سلطة وجب الخروج عليها عبر تحركات شعبية مثابرة وتصاعدية حتى انتزاع حقوقنا المسلوبة». تعليق ممتاز ويصيب الحقيقة في كبدها. ولكن! لنتابع.ــــ نهار الجمعة في 12 الجاري، شارك «الحراك المدني في عكار» نفسه (منهم محمد حمود) في الاعتصام الذي دعت إليه مجموعة «عكار ــــ معاً للتغيير»، تحت عنوان «السرطان يقتلنا». كما شارك السيد حامد زكريا، وهو غير بعيد عن هذا الحراك المدني الذي تنتمي إليه أيضاً السيدة شادية الحسن التي أعلنت المربية عايدة حداد (عريفة فعاليات الاعتصام)، أنها ستلقي كلمة في الاعتصام، وسكتت برهة ثم قالت: «منعتذر لأن الست شادية ما إجت» (؟!) (طبعاً المفروض أيضاً أن السيدة شادية لم ترسل اعتذاراً). معنى كلامنا هنا أن ثلاثة من مجموعات الحراك المدني العكاري كانوا من ضمن فعاليات الاعتصام. هل يعني ذلك أن الحزب الشيوعي في عكار تمكن من استقطاب مناضلين جدد و«تنظيمهم»، بعدما قام بعملية «فك ارتباطهم» بالجاني (الجناة) عن سوء الحال العكارية؟ أم لعله خشي اتهامه بالعزلة عن «الجماهير» وبعدم معرفته كيفيات التواصل معهم، فتعمد دعوتهم ومشاركتهم بنشاطه. إن مشاركة أمثال هؤلاء في أنشطة الحزب الشيوعي تشكّل بالتحديد «عين العزلة» عن الجماهير، وهي انشغال في غير المكان الشعبي المطلوب الاهتمام به (هي مضيعة وقت على الأقل). ولم تكن كلمتا حمود وزكريا غير مجرد كلمتين تقنيتين ضعيفتين للغاية في مسألة التلوث وتسببه بالسرطان. تبرئة الجناة حرفة أمثال هؤلاء بالتحديد، ولهذا تفتح لهم صالونات الاستقبال في أندية الطبقة السائدة. لقد جعل محمد حمود من الاعتصام منصة ليتغنى بأنشطة الحراك المدني، ودعا إلى «إعلان حالة طوارئ من قبل وزارات البيئة والطاقة والصحة والزراعة... ومن قبل المواطن» (جميل!). أما زكريا، فاعتبر التلوث مشكلة المشاكل لأنها ليست في الأولويات. واقترح الحل: جعل الشأن البيئي أولوية، وتكوين مفاهيم متكاملة على أسس علمية، وختم بقوله: النظافة معتقد وطبيعة وحضارة». باختصار، الاثنان لم يعتبرا أن هناك مشكلة سياسية في الأمر، وليس هناك من مسؤول عنها، تجهيل الجاني تماماً.
ــــ في فيديو ترويجي لاعتصام 12 الجاري (وارد على صفحة الرفيق عصام على فيسبوك في 11 الجاري) بطلته السيدة رولا المراد (هي من مؤسسي «عكار ــــ معاً للتغيير») وهي تقول مطولاً نختصر منه: «نحن في آخر التحضيرات... (تذكر أشكال التلوث وتعددها ومخاطرها بشكل سريع) ما بعرف نحنا لوين بدنا نوصل، الحالة لم تعد مقبولة، منتمنى من كل العالم تنزل لأن هيدا وجع الكل وألم الكل... هذا ليس لوناً سياسياً ولا طائفياً، بل هو لون إنساني. المظاهرة أو التحرك إنساني ما عندو أي انتماء أي شي» (؟!). بينما تحدث شاب (لم ألتقط اسمه في الفيديو نفسه) يبدو أنه شيوعي بكلام مختلف تماماً، حيث قال: «بكرا صرخة بوجه المسؤولين إللي هنّي أساساً وصّلونا لهذه الحالة المزرية. نقول لهم: شبعنا زبالة وسرطان، لاقولنا حل...». إثر ذلك، استدركت السيدة المراد (تعلمت من الشاب) وطلبت الكلام مرة أخرى لتقول: «انشالله بكرا ما نتفاجأ بوجوه السياسيين، أنا أطلب منهم ألا ينزلوا، لأن في ذلك خيانة لكل ضحية من ضحايا السرطان بهذا البلد». حتى هنا هي تتحاشى تحميل السياسيين مباشرة المسؤولية. ولكن الأسوأ من ذلك ما قالته المراد في ختام الاعتصام (هي لن يفوتها التقاط فرصة لأن تكون نجمة تتحنجل أمام الحضور وكاميرات الهواتف) فتتقدم من «الميكرو»، لتعلن عريفة الاعتصام عايدة حداد: «السيدة رولا المراد رح تدخل بكلمة على الهوا»، يعني كلمة من خارج برنامج الاعتصام (شوية دلال معليش الست بتمون). قالت السيدة رولا هنا: «منشكر إللي حضروا. وهني أبناء عكار المضبوطين» (برافو، و«الما حضروا» يعني عكاكرة تقليد، تزوير؟ طيب، شو ذنب «الما حضروا» إذا لا أنت ولا مجموعة «عكار ــــ معاً للتغيير» وجهتا لهم دعوة للحضور بالطريقة المناسبة؟).
وتابعت السيدة رولا المراد: «بتمنى الشعب العكاري يبلش يوعى كم هو يُستَغل يومياً... كل شي بلبنان وبعكار، صار مسيس. بَعْدوا (ابتعدوا) عن السياسة، وكونوا أحرار بهذا البلد لأنو اشتقنا للناس الأحرار... بتمنى نبعد السياسة عن البيئة... عن حياتنا اليومية، ما خرب هالبلد إلا السياسة، بعتقد خلصنا من تدخل السياسة بكل شي بهالبلد». يا له من حِراك شعبي واحدة من قياداته ترى أن لا دخل للسياسة بالبيئة ولا بالحياة اليومية (!)، أين للسياسة دخل إذاً؟ وتطلب من العكاريين الابتعاد عن السياسة(!). مارسوا التسلية واللهو و... واتركوا السياسة لغيركم؟ نصيحة قيمة لقائدة ملهمة!
ــــ بقيت كلمتان: واحدة لعريفة الاعتصام المربية عايدة حداد، وثانية لأمينة السر في مجموعة «عكار ــــ معاً للتغيير» السيدة ليلى مرعي. انطوت الكلمتان على ملامح سياسية، لكنهما مقتضبتان للغاية: الاعتصام هو «صرخة بوجه هذه المجموعة الحاكمة المتسلطة الفاسدة المُمْعِنَة في تهميش عكار وحرمانها...» (حداد). الاعتصام هو «لنطلق الصرخة عالية بوجه السلطة الحاكمة التي تتمادى في غطرستها وفسادها لتقف أمام مسؤولياتها كما يجب...» (مرعي). كان المطلوب من كلمة السيدة مرعي أن تربط بكثير من التفاصيل بين التلوث (ومرض السرطان) ومنهج العمل السياسي للطبقة السائدة، ليكون النضال، كما هو في حقيقته، نضالاً طبقياً موجهاً ضد الطبقة المسيطرة اقتصادياً وسياسياً وفكرياً (أو المحالفة الطبقية بين شتى أطراف وأحزاب الرأسمالية اللبنانية المعولمة والمافيوية). فهذه الطبقة تشن هجوماً مستمراً على مصالح الغالبية في الوطن، والمطلوب من القيادة الشيوعية أن تكون طليعة الدفاع عن مصالح الجماهير، أو طليعة الهجوم المضاد. والمفروض أن تكون كلمة السيدة مرعي هي الكلمة المركزية في الاعتصام والتي حولها يجب أن تتمحور كل فعاليات الاعتصام. بطبيعة الحال، أنا لا أوجه اللوم إلى السيدة مرعي بل إلى الجهة القائدة المسؤولة عن كامل مشروع «عكار ــــ معاً للتغيير»، ومواقفها وأنشطتها.
في الشعار «السرطان يقتلنا»: شعار مختصر وجميل، لكنه محايد وتقني أكثر مما هو على محمول سياسي، كما يُفترض بالشعارات النضالية والمطلبية والسياسية. فالسرطان هو القاتل هنا (هو القاتل بالمنطق الطبي)، ما يعني تغييب القاتل الفعلي بالمنطق الاجتماعي ــــ السياسي. لعله كان من الأفضل طرح شعار: «يقتلون المواطن (أو العكاري) بالسرطان». السرطان هنا أداة قتل، أما القاتل فهو من يصنع هذه الأداة بسياساته. هكذا شعار يثير في ذهن المستمع (المتلقي) ويحثه على التساؤل: من هم الذين يقتلون المواطن (أو العكاري) بالسرطان؟ ليكون الجواب: الطبقة السائدة، حيتان المال، الرأسمالية اللبنانية المافيوية والمعولمة وأحزابها ورموزها في السلطة، هم القتلة بواسطة السرطان الذي يصنعون. فالسرطان ليس لعنة ربانية، بل هو صناعة اجتماعية ــــ سياسية، وإن كان البعض من الناس على استعداد لأن يصاب به بحكم تكوينه، ولكن الإصابة مستبعدة إن لم تجد تحفيزها بالمواد المسرطِنة المصنوعة بالسياسة. وفي عكار عناصر الطبقة السائدة العكاكرة وعناصر حيتان المال العكاكرة، وأحزابها العكارية والرموز العكارية في السلطة، هم شركاء عضويون في قتل المواطن بالسرطان. إن قيمة الاعتصام وقيمة هذا النمط من النضال ليس توليد الحل للمشكلة المطروحة. هذا وهم تتاجر به مجموعات ما يُسمى «المجتمع المدني». القيمة هي في التحريض على الطبقة السائدة، وفي توسيع رقعة الاشمئزاز منها، وتوسيع مدارك الناس في جوهر المشكلة الاجتماعي ــــ السياسي، وتعيين المسؤولية الفعلية.
كان يفترض بكلمات المتحدثين أن تكون مضبوطة (وخصوصاً كلمات عريفة الاحتفال وأمينة سر مجموعة «عكار ــــ معاً للتغيير» وعضو المجموعة (المراد)، وأن تكون على محمول واضح وجلي في بعدها السياسي الطبقي (الشيوعي). ولم تكن هناك أي حاجة وأي فائدة من مشاركة عناصر من مجموعات «الحراك المدني في عكار» في هذا الاعتصام الذي كانت غالبيته من أوساط الحزب الشيوعي (حزبيين ومناصرين وأصدقاء) وبعض الأحزاب القومية والتقدمية الصديقة للشيوعيين.
مسألة أخيرة: منذ حوالى شهرين، وقيادة الحزب الشيوعي في عكار تتحدث عن حِراك واسع. فلماذا انتهى الأمر باعتصام سُمي رمزياً، وقد مضى على الدعوة إليه حوالى أسبوعين. الجواب بسيط: لأن الدعوة على فيسبوك وواتسآب لا تؤدي الغرض المطلوب. كان المفروض بمنظمات الحزب في عكار أن تحشد بشكل أفضل: أن تحشد نفسها ورفاقها وأصدقاءها (الحضور في الاعتصام كان مجرد بضع عشرات). معارك الحزب الصغرى والكبرى تستلزم العمل المتفاني والجدي والسليم، وفي طليعة ذلك الحشد الذاتي. فكيف نطلب مشاركة الجماهير إن كان الأعضاء الحزبيون غائبين عن المشاركة؟ إن الدعوة إلى الاعتصام تشكّل عملاً دعوياً أكبر وأهم بكثير من كل ما قيل في الاعتصام وما كتب على صفحات التواصل الاجتماعي. وما لم يعد الحزب إلى التواصل الشخصي والمباشر مع الجماهير حيث هي مقيمة وموجودة فلن تكون هناك نهضة يسارية، بل مجرد مضيعة للوقت و«رفع عتب». على أعضاء الحزب الشيوعي التصرف كمحترفين، أو على الأقل شبه محترفين أو نصف محترفين للنضال، ولا ينامون على حرير وسائل التواصل الاجتماعي، لإدارة التعبئة والتحريض من خلف الكمبيوتر والإنترنت.
* أستاذ جامعي