الاغتيال السياسي والخطف وقتل الخصوم ليس أمرأً جديداً. كان صدّام حسين، مثلاً، يرسل عملاءه - منذ أيّام ناظم كزار - لاغتيال المعارضين في مختلف أنحاء العالم، من الكويت وبيروت واليمن وصولاً الى عواصم اوروبا واميركا. ولكن، حتّى في حالة صدّام، كانت هذه «الأهداف» عبارةً عن معارضين ايديولوجيين شرسين، بينهم وبين الحزب الحاكم دماء وسجون ومعارك، أو رفيق انقلابٍ انشقّ وهو أصبح خصماً خطيراً، يمتلك أسرارك وخفاياك. حتّى صدّام لم يكن ليفكّر بارسال فريق اغتيالٍ ضدّ كاتبٍ فرد، هو ليس عدوّاً جذرياً للنظام، بل ويرفض أن يسمّى «معارضاً» (للأمانة، في حالةٍ واحدة على الأقلّ، أعطى صدّام أحد خصومه الذين لا يمثلون تهديداً - ابراهيم الداوود - فرصة أن يستدير بطائرته ويلجأ الى المنفى بنفسه، حتى لا يحطّ في بغداد ويضطرّ صدّام الى اعتقاله). ما نشهده اليوم هو «الأفق الجديد» الذي افتتحه عهد سلمان وابنه.حين تقرأ مقابلة بن سلمان المطوّلة مع «بلومبرغ»، يزداد اليقين في أنّ الحكم السّعودي هو بالفعل مسؤولٌ عن اخفاء جمال خاشقجي، فوليّ العهد (على طريقة أصحاب الجنايات في التحقيق) يزعم في مكانٍ أنّه مطّلعٌ على موضوع خاشقجي بشكلٍ هامشيّ وبعيد، وأنّه «ليس متأكّداً»، ثمّ يضيف ملاحظة تكشف أنّه، في الحقيقة، على اطّلاعٍ بتفاصيل المسألة ودقائقها (كأن يجزم، مثلاً، بأنّ خبر وكالة الأنباء السعودية عن ترحيل سعوديّ من تركيا لا يعني خاشقجي).
المغزى السياسي لهذا الحدث معروفٌ منذ سنوات، لكلّ من «تعامل» مع السعوديين في الاقليم، وفهم معنى الخصومة مع آل سعود. في الثمانينيات، كان صدّام حسين يمثّل ما يشبه «العصا» لهذا النظام الخليجي، تظلّ الإمارات النفطية في مأمن فيما العراق يحارب نيابةً عنها وعن سياساتها، ويعادي سوريا وليبيا ويقاتل ايران. أمّا مع زوال النظام العراقي، فقد استلم الحكّام السعوديون والاماراتيون «المهمّة العنفيّة» بأنفسهم، وأصبحنا أمامهم وجهاً لوجه. جلّادٌ جديدٌ بوسائل جديدة، وإن كان يخدم السياسات القديمة ذاتها. من هنا، قلنا منذ زمنٍ بأنّنا أمام عهدٍ جديد، وأنّنا يجب أن نأخذ تصريحات هؤلاء وتهديداتهم بجدّيّة، فنحن - كلّ شعوب المنطقة و«أكثرية الفقراء» - نواجه خصماً خطيراً، لا يتورّع عن أيّ شيء؛ وقد بنى على مدى عقودٍ عقليّةً فوقيّةً عدوانيّة، لا تعتبرنا مساوين له وتبرّر له كلّ ما يفعل - ولا حافز في العالم أفعل من الطّمع والحقد وانعدام الموانع. ومن التهوّر أن تستهين بعدوٍّ كهذا أو أن تستخفّ به باعتباره مجنوناً أو جباناً غير عقلانيّ.
في الحقيقة، فإنّ قَطَر هنا - أعلى الأصوات العربية اليوم ضدّ سياسة الرياض - هي، على عكسنا، في مأمنٍ نسبيّ من موجة العنف هذه. فأميركا هنا تصون الحدود واستقرار الحلفاء، وهي لن تسمح لبن سلمان بأن يفلت جيشه أو ميليشياته في الخليج، فتقتصر العداوة على التراشق في الاعلام وحظر السّفر، وتسريب المكالمات الفاضحة وأسرار العائلات. ولو افترضنا، في سيناريو خيالي، بأنّ ولي العهد قد تمكّن من اقناع الادارة الأميركية بالفعل بأن «تضحّي» بحليفها الخليجي، فلن يهمّ ساعتها ما تقوله أو تفعله الدوحة (مثلاً، تحت حجّة أنّ الحاجات المالية السعودية كبيرة، ولا يمكن للحليف الأميركي الرئيسي أن يظلّ قويّاً ومستقرّاً، وأن يؤمّن الهيمنة الأميركية، وهو يتقاسم نفط الخليج وثرواته مع ثلاث دولٍ صغيرة - وهذا ما كنت سأسعى اليه، بصراحة، لو اني في مكان بن سلمان).

أصنافٌ من الموت
حين يُطرح هنا السّؤال الشائع (والشرعي) عن الاهتمام الكبير لوسائل الإعلام والإعلاميين والنّخب بـ«إخفاء» كاتبٍ ومستشارٍ سابق، ولماذا يتوقّعون أن تقوم الدّول بمقاطعة السعودية بسبب هذا العمل، وليس بسبب أفعالها في حقّ أهل المنطقة وضعفائها، فإنّ الإجابة ليست صعبة. الفارق بين «حقوق» شعبٍ وحقوق شعبٍ آخر، بين مظلوميّة ومظلوميّة، بين «قيمة حياة» طفلٍ من اليمن وقيمة حياة مواطنٍ غربيّ؛ هذه الفروقات - والعمى عنها وعن اسبابها - ليست تفصيلاً، بل هي أساس الظّلم في العالم.
هذا ينسحب حتّى على قضيّة جمال خاشقجي، ويحدّد من تكلّم عنها ومن صمت عليها ومن شارك في التضليل، والنّقاش الذي يدور حولها وحول ماضي الضحيّة ودوره. على سبيل المثال، وعلى الرّغم من أنّ بعض النّقّاد قد أشاروا الى دعم خاشقجي للملكيّة المطلقة ومشاركته في مؤسساته الى أمدٍ قريب، ولكن مع جناحٍ منافسٍ لبن سلمان، أو الى مواقف قديمة وقربه من «القاعدة»، غير أنّ لا أحد من الإعلام السائد (عربيّاً أو غربيّاً) اعتبر أنّ دوره خلال السنوات الأخيرة الحرجة في التحريض الطائفي والحثّ على العنف في بلادنا، والدّعم غير المستحي لتنظيمات كارهة إباديّة، هو اشكاليّ أو مثلبة له. وسائل التواصل الاجتماعي كشفت لنا عن شخصيّات المثقّفين وأحقادهم أكثر مما كنا نريد أن نعرف، وخاشقجي، في مثالٍ واحد، وصل الى درجة الاحتفاء بالتفجيرات التي استهدفت المدنيّين في بيروت منذ أعوام، واعتبرها «ضربة ضدّ ايران». كلّ هذا لم يمنع «واشنطن بوست» من توصيفه على أنّه كان يكتب منطلقاً من «إيمانٍ كامل بكرامة الانسان والحريّة» (التّفسير حسن النيّة، في هذه الحالات، هو أن نفترض أن الـ«بوست» لا تملك فكرةً عمّا يكتب بالعربيّة، وهي لهذا استكتبته ووصّفته على هذا النّحو، ولكنّ الحال ليس كذلك).
هذا يشبه ما يفعله العديد من المثقّفين اليوم، وهم يتبرّأون عبر «النّقد» من تنظيماتٍ سلفيّة في سورية راهنوا عليها في السّابق، ويعدّدون لوائح بمثالبها - الفساد، التجاوزات، انعدام الكفاءة، الخ - ولا يذكرون بكلمةٍ الطابع الكاره لهذه التنظيميات، وتعريفها لحربها على أنها ضدّ طوائف وأقوام، وخطابها الإبادي الصريح (غريبٌ أن يعتقد هؤلاء أنّ هذه مسائل من الممكن أن يتمّ نسيانها أو تجاهلها وطمسها واعتبارها «ثانوية»، في عصر الانترنت والارشيف الأزلي والكلام المريع والقاتل الذي ملأوه به). يجب أن نتذكّر دوماً أنّ انتاج السّلطة، مثل انتاج المال في الاقتصاد، هو «عمليّة اجتماعيّة» لا تختصر في شخص أميرٍ أو حكومة، مهما تصوّرنا أنّ سلطتها مطلقة. بن سلمان لا يستطيع أن يفعل شيئاً لوحده. السّلطة والقوّة تُمارس عبر مؤسّسةٍ اجتماعية كاملة، لها ثقافتها ومثقفوها ومقاييسها، ونخبٌ تتبع لها وتعتمد عليها وتعيد انتاجها وتقدّم لها مختلف المهارات (من الكتابة والإعلام الى المهمات «التقنية» والتنفيذية)؛ ومن العبث أن ننظر الى سلطةٍ على أنّها أشخاصٌ وأهواء، بشكلٍ مجرّد عن نخبتها.

«علية القوم»
الهدف هنا هو ليس طرح السؤال الاستفزازي عن القريبين من السياسة السعودية والعاملين في إعلامها، والذين يراقبون زميلاً لهم، هناك أخبارٌ عن احتمال اغتياله بوحشيّةٍ، فيما هم يكملون العمل عند مَن قتله. نحن لسنا في بلادٍ تقوم فيها النّخب بإعلان مواقفٍ حين تكون لها كلفة، ومن «ينشقّ» هو في الغالب يذهب صوب راتبٍ أعلى. ومن يقرّر أنّه سيحتجّ ويقاطع المؤسسة السعودية ويستقيل لأنّ ضميره لم يحتمل اغتيال خاشقجي، ولكنّه لم يفعل ذلك بسبب كلّ أفعال النظام السعودي، لديه مشكلةُ في ترتيب أولويّاته. هذه المرّة أصاب السّوط السّعودي واحداً منهم، لا مواطناً عربياً مجهولاً. شخصٌ يعرفونه ويقرأون له وينتمي الى جماعتهم. هنا، كلّ الأساليب النفسية التي يستخدمها المرء لكي يبرّر الإجرام ويفصل نفسه عن الضحيّة (الفقراء، المجهولون، الطوائف الأخرى) ولا يتماهى معها، ولا يضع نفسه مكانها، لا تجدي في حالة خاشقجي. هذا من الممكن أن يحصل لك. وإن كانت هناك من «عقلانيّة» في إخفاء الصحافي، فهي في إشاعة هذا الشعور بالتحديد.
ولكنّ هذا كلّه لن يصنع فارقاً، تحديداً مع هؤلاء النّاس. كما أكرّر دوماً، نحن نتعامل - في بلدٍ كلبنان مثلاً - مع «نخبةٍ» تتقرّب من مجرمي حرب ومرتكبي مجازر (طالما أنه قد مرّ على جرائمهم أكثر من خمس سنوات)، ويجلسون بفخرٍ في صالوناتهم وهم مقتنعون بأنهم «كريمة» المجتمع. مفهوم الأخلاق و«الرّقي» هنا لا علاقة له بالمفاهيم التقليدية التي تعتنقها عامّة الشّعب. نحن في عالمٍ يشارك فيه صحفيٌّ، على الهواء، بعمليّة اختطافٍ موصوفة، ويكون - بالمعنى القانوني التقني - شريكاً بها، ويتظاهر الجميع بأن لا شيء حصل. يتجنّد المثقفون للعمل في قنوات الحكومة الأميركيّة، لبثّ بروباغاندا الأعداء، ويُعاملون على أنّهم «صحافيون» - وهنا ليست المشكلة مع أميركا وحكومتها هي إن كانت ديمقراطية أم لا، المشكلة معها ومع من يعاونها هي أنها تقتلنا وتحتلّ بلادنا. نحن في بلدٍ يأخذ فيه الصحافي، بفخر، الصّور الاجتماعية مع السياسي الفاسد، ثمّ يكتب عن وجع الناس ومطالبهم (ولأنّنا ندخل في عصرٍ أسود، أنا أعلن من الآن: لو اختفيت يوماً ثمّ ظهرت مع مذيعة شهيرة في مقابلة تلفزيونية، وأنا أؤكّد بأنّي حرُّ وبخير، فلا تصدّقوها، هي تكذب وتشارك في اختطافي).
لهذا السّبب، أنا مستعدٌّ لقراءة هؤلاء إن كان لديهم شيءٌ معرفيّ أتعلّم منه، أو فكرة جديدة أو حجّة قويّة، ولكنّني - في أيّ حالٍ من الأحوال - لن أستمع لأبناء هذه الطّبقة وهم ينظّرون عن الأخلاق والمبادئ ومصالح المواطن وكيف تكون انساناً جيّداً (ومصيبتنا في هذا الإطار، فوق المشكلة السياسية، هي ندرة النمط الأول وغلبة الثاني). ما يصدمني هنا هو ليس أنّ هؤلاء النّجوم يخالطون الفساد والإجرام، هذا تجده في كلّ مكان بدرجةٍ أو بأخرى، ولا أنّهم يزعمون صورةً مثاليّة لأنفسهم على الرّغم من ذلك، فهذا ايضاً متوقّع؛ ما يصدمني هو أنّهم - حين يتكلّمون عن الديمقراطية والانسانية والأخلاق - فهم بالفعل يصدّقون ما يقولون وأنّهم أفضل من الانسان العادي والسّارق الصغير. هذه، بالمناسبة، مسألة مهمّة وتبرّر جزءاً من «مهمّة» هذه الطّبقة: ما يميّز البروباغاندا الفعّالة هو أنّه لا يكفي أن يردّد البعض ما تريدهم أن يقولوه، بل يجب أن يصدّقوه وينشروه بقناعة.

خاتمة
في نصٍّ اميركي لميغان داي في «جاكوبين» عن تنصيب آخر قضاة المحكمة العليا الفيديرالية، بريت كافاناو المتّهم بالتحرّش الجنسي، تضع الكاتبة موضوع الاتهامات جانباً لتركّز على علاقة القاضي برفاقه القدامى - كما تبدّت خلال جلسات التنصيب والاسئلة الكثيرة حول ماضيه وأيامه في المدرسة والجامعة. تكتب داي أنّ أكثر ما يصدم المراقب هو انتفاء اسطورة «الاستحقاق» التي يفترض المواطن توافرها لدى المرشّحين لهذه المناصب العليا. كافاناو لم يبدُ ذكيّاً أو ماهراً أو عميقاً بشكلٍ استثنائيّ، أو حتى طليقاً وبليغاً، وهي الصفات التي يفترضها المواطنون في من يرتفع الى أعلى المراتب. لا يوجد في سجلّه أيّ دليلٍ على تميّزٍ حقيقي. هو ولد في العائلة «الصحيحة» وذهب الى المدارس «الصحيحة» وأحاط نفسه بالأناس «الصحيحين»، ومن بينهم رفاق دربه الذين يتحدّث عنهم على الدّوام (أمام مجلس الشيوخ) بهالةٍ من الإجلال. هذه ليست «صداقات مثاليّة»، كما يصوّرها كافاناو؛ لا أصدقاء قريبين الى هذا الحدّ، ويفعلون كلّ شيءٍ سويّةً ولا يختلفون البتّة. هذه ليست صداقات بل «شراكات»، هم - منذ صغرك - الناس الذين ستصعد معهم الى أعلى السّلّم، يوظّفونك وتوظّفهم، وتروّجون لبعضكم البعض. هذه «الشبكة» هي التي تسمح بصعود أناسٍ غير استثنائيين ولا يملكون مهارات شخصيّة الى قمّة المجتمع. وفي «شراكات» من هذا النّوع، وتحمل هذا القدر من الأهمّيّة، لا مجال للاختلاف والصّراع والآراء والأمزجة؛ هي «صداقة» لا تشبه مفهومها عند عامّة النّاس.
هذه النّظرة قد تكون التفسير الأفضل لمجتمع النخب و«شللها» في بلادنا، يجمعها الرّاعي المشترك والترويج المتبادل، وتقدّم نفسها على أنّها صداقاتٌ جميلة. ولكن، كيف تحافظ على هذا الوهم وعلى صورتك «النخبويّة» عن نفسك، حين يتمّ «إخفاء» زميلك وتصمت؟ أمّا بالنّسبة الينا، فلا جديد تحت الشّمس، سواء قتلت الحكومة السّعودية مواطنها أم لا، والمعادلة مع الرياض ما زالت هي هي: امّا أن نكفّ اليد الفاجرة أو أن ننتظر، حتّى يصل السّيف إلينا.