يخاطر هذا المقال في التموضع كغراب شؤم في زمن اقتراب الإنجاز والانتصار، لكن احتمال النعيق مقدَّمٌ على الاستئناس بازدهار صناعة الاستسهال أو التسيّب المنطقي. وفي كل الأحوال، ينبغي قول الأشياء الضرورية حتى لو لم يكن ممكناً صناعة نوتة عاطفية من قسماتها.ما الذي يجب علينا القيام به عندما تصطدم الشرعيتان الناجزتان في الإقليم، السنية والشيعية، وتحتربان لسبع سنين؟ والحال أنه ليس هناك من ثالث لهما لتقول هذه سنوات عجاف ستتبعها السنابل.

يصبح الماضي موازياً في الأهمية للحاضر إذا فشلنا في فهمه كفاية لنتجنّب مخاضاً آخر لا ينجب إلا الكارثة عينها. ماذا حصل؟ يجب على المقاومة في لبنان وفلسطين، بالتكافل، أن تقدم إجابة أكثر جدية من فنجان قهوة وصورة توزع على الوكالات الإعلامية. ماذا حصل حتى قُتل مقاومون لبنانيون برصاص وتقنيات قدمتها إيران للمقاومة الفلسطينية، وكيف شعر طبيب أسنان من غزة، يعيش على بعد ضرس ونصف من الاحتلال الإسرائيلي، بأولوية القتال في الشام.
عندما قررت الولايات المتحدة الأميركية يوماً، في الأقل على المستوى الشعبي والثقافي، أن الإرهاب عدو يتعيّن التصدي له. أول ما وُضع على لائحة الاستهداف هو المناهج الدراسية في السعودية التي تصنع إرهابيين محتملين. طبعاً، لا يغيب أن صناعة الإرهاب هي دورة «اقتصادية» واستراتيجية تلعبها بخبث المستويات الأمنية والسياسية في الولايات المتحدة. ولكن المراد من المثال، أن التصدي يجب أن يكون موازياً في العمق والجدية لنوع الأزمة. فهل سيكون التصدي على هذه الشاكلة في منطقتنا؟
ليس المطلوب بالضرورة استهداف المناهج التربوية دائماً، لكنّ إجراءً جذرياً من نوع ما ينبغي القيام به للإجابة على انسداد معرفي كارثي اعتمل دماً وخراباً لسبع سنوات مضت. كيف نسامح أنفسنا إن تجاوزنا الأمر بخفة ونحن نوقن أننا نرصد أولادنا وأحفادنا لكارثة أخرى سيحلُّ أوانُها عندما تتحقق ظروفها مرة أخرى فيمتلك متطرفٌ ما قناة إعلامية وتمويلا قذراً.
لا يوجد اقتراح سياسي مغاير لما هو كائن الآن بين حزب الله وحركة حماس، لا بديل من التقارب ورأب الصدع، أقلّه لمضاعفة أسباب المنعة بوجه العدو الإسرائيلي. والاستحقاقات عالية الخطورة والحراجة، وهي تستأهل بالفعل القفز عن الماضي القريب. لكن في المقابل، كيف يمكن شطب مئات آلاف من الضحايا والأبنية المهدمة والشعوب المشرّدة من قائمة البيانات وكأن شيئاً لم يكن، وكأن ما كان هو حادث سير جرى تجاوزه بسلاسة بين متخاصمين دون الحاجة للركون إلى خبير محلّف.
لا يمكن أن تُهدر هذه التجربة هباءً كرمى لعين السياسة والمصالح، حتى النبيل منها. فاغتيال التجارب والعمى عنها سيَعد بتكرارها لاحقاً. ثمة باب في الثقافة، والفكر الديني والسياسي تحديداً، ينبغي التطرق له، ولا يوجد ما هو أكثر خطورة من افتئات يوميات وملفات السياسة عليه، فالأجندات السياسية لا تكفّ بطبيعتها عن التأجيل والتسويف والتمييع. ولكننا لا نعيش في السياسة حصراً، نحن نعيش في الجامعات وعلى الطرقات وفي الأحياء ويعتاش قسم لا بأس به من حاضرنا على «سردية» من الماضي، كي لا نقول ماضوية.
فقط من رجع اليوم من رحلة فضائية دامت سبع سنوات سيشعر بأن كل شيء على ما يرام ولن يرى ما هو ليس مألوفاً عندما يتابع القنوات الإعلامية من «الجزيرة» و«الميادين» وغيرهما تغطي أحداث الهبّة الشعبية في فلسطين. لكن، ماذا بشأن الذين بقوا على كوكب الأرض ليشهدوا المقتلة العظيمة وتهجير الملايين وقتل مئات الألوف، كيف سيصدّقون حقاً أن كل شيء على ما يُرام؟
الثأر كما الحزن في السياسة مفردات انهزامية إلى حد بعيد ولا يمكن تقريشها. هي مشاعر تستلب الإمكانات المستقبلية لمصلحة حنين «غبي» لإصلاح شيء لا يمكن إصلاحه. إذاً، ليس المطلوب على الجهة الشيعية الثأر أو الارتداد إلى المربعات التقليدية قبل النزول من الشاهنشاهية الإيرانية إلى الثورة، ومن القرية الجنوبية والبقاعية إلى بيروت، ومن عزلة الحوزات الشيعية إلى العالم كلّه. هذه الرحلة الأخيرة، التي أمّها الخميني تتعرّض الآن لوابل من الأسئلة لا مفرّ من تقديم مقاربات لها.
ليس على المستوى السياسي فعل شيء مغاير للذي كان: تقارب بين المقاومة في لبنان وفلسطين، دخول إيراني على الخط لرأب الصدع الكبير الذي ألمّ بالضلع الفلسطيني ـ السنّي للمحور، ونحن قريبون جداً من رؤية قادة من حماس يتجولون في الشام وكأن شيئاً لم يكن. وأنت يا شام، أهو صحيح أن لا شيء كان، وأن كل شيء على ما يُرام؟
* كاتب لبناني