اختبار إثارة مشكلة سياسية، فأمنية في لبنان، جاءت متأخرة جداً بمقياس انعكاس الأزمة السورية على الوضع اللبناني وانعكاس الوضع اللبناني على الأزمة السورية. في مراحل متكررة، نسبياً، كان إسقاط النظام السوري الذي يقوده الرئيس بشار الأسد هدفاً ذا أولوية مُطلقة بالنسبة إلى فريق 14 آذار الذي كان موحداً، إلى حدٍ كاف، وخصوصاً حول هذا الهدف بالذات. يومها وُضعت إمكانيات هذا الفريق، السياسية والإعلامية والأمنية، في خدمة هذا الهدف.
وفي امتداد ذلك، وُضع نفوذ وحصة هذا الفريق في السلطة أيضاً، في خدمته أيضاً. لم يكن يومها شعار «النأي بالنفس» مطروحاً بتاتاً بالنسبة إلى الفريق المذكور. تمَّ اشتقاق الشعار من قبل حكومة نجيب ميقاتي، وذلك للحد من التدخل اللبناني في الشأن السوري مجسداً، أساساً، بنشاط فريق 14 آذار ضد حكومة وسلطة ونظام الرئيس بشار الأسد، كما أشرنا.
مع تراجع سلطة الأسد، المتسارع والخطير، أمام جيوش وجحافل داخلية وخارجية، برزت حاجة تلك السلطة، ومن أجل منع انهيارها الكامل الوشيك، إلى تدخّل خارجي مضاد. أتت جرعة الدعم الأساسية الأولى من «الجمهورية الإسلامية» الإيرانية. وهي جرعة تعاظمت، سياسياً وعسكرياً ومالياً وبشرياً، حتى حدودها القصوى. لكنها، مع ذلك، لم تتمكن من إحداث تعديل جوهري في موازين القوى ولم تجعل مسألة الانهيار التام للنظام أمراً مستبعداً. في أواخر صيف عام 2015، كانت الجرعة الثانية ممثّلة بالتدخل الروسي العسكري الذي تمكّن خلال أقل من سنة، بتصميم سياسي حازم وعسكري هائل، من إحداث تحوّل استراتيجي في الميدان السوري لمصلحة سلطة الأسد وحلفائه. وقد تمكنت القيادة الروسية من قيادة عملية سياسية مواكبة وفّرت لها امتلاك زمام المبادرة على جبهتي «الحرب ضد الإرهاب» من جهة، ومن جهة ثانية البحث عن حل سياسي أساسه الاعتراف بشرعية سلطة الأسد وبدورها المستقبلي في السلطة، قبل الآخرين وليس بالشراكة معهم فقط. وبالفعل، استطاعت القيادة الروسية، من خلال نجاحها هذا، تحقيق أحد أكبر أهدافها وهو كسر الاحتكار الأميركي لدور القوة العظمى الوحيدة والمستأثرة في العالم. وهي باشرت فرض شراكة روسية عليها: في اختبار تريده موسكو أن يبدأ من سوريا بغية أن يمتد إلى كل المنطقة، وحتى إلى كل العالم!
في كنف التحوّل الذي فرضته موسكو في الميدان السوري، طوَّرت القيادة الإيرانية من طاقاتها الهجومية: في سوريا، والعراق، وفي اليمن (حيث تمَّ، من قبل حلفائها، الاستيلاء، بالقوة، على السلطة وإطاحة واحتجاز أبرز رموزها السياسيين والعسكريين).
استفادت كل من موسكو وطهران من أزمات واشنطن في مرحلة قيادة الرئيس السابق أوباما ومن تراجع نفوذها السياسي والاقتصادي... ومن ثمّ، ارتباطاً بذلك، من تبدّل أولوياتها وأساليبها. وكذلك استفادت من عشوائية إدارة ترامب الحالية وغموض وارتباك سياساتها وأولوياتها ومن ضعف وتناقضات فريقها...
بسبب هذه التحولات في الميدان السوري، وأُخرى في المنطقة، انتقلت قيادة المملكة العربية السعودية من الهجوم، في سنوات الأزمة السورية الأربع الأُولى، إلى الدفاع في السنوات الثلاث الأخيرة. وهي بعد سيطرة تحالف «أنصار الله» (الحوثيين) والرئيس السابق علي عبدالله صالح على اليمن، استشعرت خطراً مباشراً يطاول ليس فقط دورها وزعامتها في الخليج، وإنما أيضاً يهدِّد الداخل السعودي نفسه.
«حزب الله» الذي حضر في المشهد السوري بقوة، وبشكل متصاعد، وحسب ما تقتضي الإمكانية والضرورة، كما أكَّد أمينه العام غير مرة، أضفى على التفاعل ما بين الوضعين السوري واللبناني عنصر تزخيم مهماً ونوعياً. ومع امتداد الخطر التكفيري الإرهابي إلى لبنان وفيه (وترجمة ذلك بعمليات تفجير واستهداف أمنيين خطيرين)، بات لـ«حزب الله» تأثير أكبر في مجرى الأحداث من وجهة نظر لبنانية وليس، فقط، استناداً إلى المعطيات السورية فحسب. حكومة الرئيس تمام سلام بدت إزاء هذه التطورات المهمة (ومنها أيضاً تعاظم أزمة النزوح السوري إلى لبنان) عاجزة عن التعامل معها بغير منطق تصريف الأعمال. تدريجياً، وارتباطاً دائماً بتطورات الميدان السوري والعراقي واليمني، تبدلت الشعارات وتغيّر دعاتها من النقيض إلى النقيض. شعار «النأي بالنفس» أصبح مطلباً لفريق 14 آذار بعدما نجح تدخل «حزب الله» من حيث فشل تدخل فريق 14 آذار. وحيث إن الناس على دين ملوكها، فقد شكل الفشل السعودي في إسقاط سلطة الحوثيين وصالح (مع تعاظم خسائر المملكة من كل نوع)، سبباً جديداً لكي تعود قيادة المملكة إلى دفاترها القديمة، آملة التمكن من إرباك خصومها في لبنان، وبشكل خاص عبر الضغط السياسي والأمني على «حزب الله»، بكل السبل المتوفرة، ما يحسن شروط خوضها للصراع (على الصعيد اليمني بالدرجة الأولى). لكن قيادة المملكة تأخرت كثيراً... جملة تطورات حالت وتحول دون أن تتمكن من تحقيق هذا الهدف: تطورات في الميدان السوري، وعلى صعيد المنطقة (في العراق وسواها)، وفي لبنان نفسه. الأداة التي حاولت الرياض استخدامها لتنفيذ خطتها أي تيار «المستقبل» وزعيمه الرئيس سعد الحريري، لم تعد كما كانت (الحريري نفسه خذلته السعودية مالياً إلى درجة الإفلاس): لا من حيث القوة ولا من حيث الطواعية. احتجاز الرئيس سعد الحريري شكّل «دعسة ناقصة»، ابتداء بالشكل وانتهاء بالمضمون. ثم أن الوضع اللبناني لا يزال محيّداً من قبل واشنطن والغرب بسبب مسألة النازحين. كذلك فإن واشنطن لا تزال غير راغبة في تورط كبير ميدانياً، رغم لهجتها السياسية العالية حيال إيران و«حزب الله» والرئيس السوري (من دون رمي اللاعب الدولي الأساسي في الأزمة السورية والمنطقة، أي الطرف الروسي، ولو بوردة)!
جسّدت محنة الحريري في الاحتجاز والاستقالة صورة مصغّرة عن فشل المشروع السعودي في محاولة استعادة زمام المبادرة: حتى سياسياً، في لبنان. الرئيس الحريري يستبق إعلان الصيغ (ستكون شكلية في وسطيتها وتعدد مدلولاتها)، التي سيتم التوصل إليها، بالإعراب عن رغبته الجامحة في العودة عن الاستقالة وإلى استئناف مهمته الرسمية، من دون أن تتمكن السعودية من إحداث حتى مجرد أزمة تشكيل حكومة في لبنان، بسبب خطأ أساليبها وبسبب عدم تجاوب جدي مع محاولاتها الفاشلة: لا على المستوى المحلي ولا على مستوى المنطقة ولا على المستوى الدولي.
يبقى أن للسعودية «فضلاً» واحداً «ارتكبته» من حيث لا تدري: وهو كشف الخلل في علاقات أطراف السلطة والمحاصصة في لبنان بمرجعيات خارجية من هنا وهناك، قديمة وجديدة. وهو خلل لا يقتصر على فريق دون سواه، ويتجسد بتبعية مُفْرِطة حتى على مستوى كرامة الأشخاص ومُفرِّطة على مستوى سيادة البلد ووحدته الوطنية واستقراره...
آن أوان بحث مسألة التبعية كعائق دون قيام وحدة وطنية راسخة وسيادة وطنية ناجزة!
* كاتب وسياسي لبناني