لبنان في أزمة. الواقع انه كان دائماً في ازمةِ نشأة وكينونة ومصير. عوامل متعددة، داخلية وخارجية، أسهمت في تأجيج الأزمة وتخليدها، لعل أفعلها خللٌ وفشلٌ في ادارة التنوّع الذي يتميّز به الاجتماع السياسي اللبناني.ما يعانيه لبنان واللبنانيون اليوم فصل آخر من فصول الفشل المدوّي في إدارة التنوع، يتجلّى في شغور رئاسة الجمهورية، وعجز البرلمان عن التشريع، وانقسام الحكومة على نفسها ما تسبّب بانعدام التقرير، وشلل الادارات والمؤسسات الرسمية، وقصور مرافق الخدمات العامة، وتواتر الاضطرابات الأمنية.

كل ذلك في وقتٍ يهدد لبنان خطران استراتيجيان: اسرائيل الصهيونية العنصرية التوسعية، والإرهاب التكفيري المتمثل بتنظيمات العنف الاعمى وخلاياها النائمة في الداخل وعصاباتها المقاتلة على الحدود اللبنانية – السورية.
تزداد الأزمة خطورةً وتعقيداً بتدهور اقتصادي واجتماعي تتفاقم حدّته بوجود اكثر من مليون ونصف المليون نازح سوري، ونحو 600 الف لاجئ فلسطيني، مع إعلان وكالة الغوث الأممية (الاونروا) عجزها عن الوفاء بالحد الادنى من متطلبات الوافدين المتدفقين من سوريا.
لا غلو في القول إن لبنان يقف اليوم على مفترق. إنه مهدد بانهيار اقتصادي ــ اجتماعي وبانفجار أمني تُفاقم خطورتهما الماثلة عصبياتٌ مذهبية متفلّتة من عقالها وقصورٌ فادح في أداء الشبكة الحاكمة والقيادات السياسية التقليدية المحترفة.

ما المخرج؟

إن التسليم بفشل القيادات السياسية في ادارة التنوّع اللبناني يعني، في ما يعني، فشل آليات العمل السياسي وادواته واساليبه المعتمدة ما ادى الى تعطيل المؤسسات السياسية والادارية والاقتصادية واندلاع الاضطرابات الأمنية. من هنا يستقيم الاستنتاج بعدم جدوى اللجوء إلى الآليات والادوات والاساليب ذاتها للخروج من الأزمة طالما انها ستفرز القيادات الفاشلة نفسها والنتائج السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفاسدة او الناقصة نفسها.
التسليم بفشل القيادات
السياسية يعني فشل آليات العمل السياسي وأدواته المعتمدة

لا فرصة ولا جدوى، اذاً، من انتخاب رئيس الجمهورية من قبل مجلس النواب الحالي المنتهية صلاحيته والممددة ولايته. ولا فرصة ولا جدوى من التشريع في مجلسٍ ممددة ولايته وعاجز عن الاجتماع. ولا فرصة ولا جدوى من الحكم بحكومة منقسمة على نفسها وعاجزة عن التقرير والتنفيذ.
نحن جميعاً، مسؤولين ومواطنين، نعاني ظروفاً وتحديات استثنائية تتطلب، بلا مكابرة ولا مخاتلة، قيادات استثنائية وقرارات استثنائية.
لا سبيل الى إنتاج قيادات استثنائية وصناعة قرارات استثنائية في ظل الثقافة والعقلية والمنهجية السائدة، ولا باعتماد الآليات والادوات والاساليب التقليدية البالية.
ما هو مطلوب لا يتحقق إلّا بأن يقرر اللبنانيون، مجتمعين، بإرادةٍ حرة ما يريدون لأنفسهم ولوطنهم. هذا القرار المصيري لا يمكن، ولا يجوز، اتخاذه إلّا عبر انتخابات حرة يكون اللبنانيون قادرين خلالها على المشاركة في مساواة تامة امام القانون وفي الفرص.
هل يستطيع اللبنانيون ان يفرضوا، مجتمعين، حقهم بالحرية والاختيار والانتخاب وفي تقرير المصير؟
الحقيقة انه نادراً ما استطاع اللبنانيون، مجتمعين، اتخاذ قرارٍ مصيري عابرٍ للطائف والمذاهب. فعلوا ذلك ثلاث مرات فقط في التاريخ المعاصر: الاولى سنة 1943 عندما اتحدوا سياسياً وشعبياً لتعديل الدستور وتكريس الاستقلال عن سلطات الانتداب الفرنسي. الثانية سنة 1952 عندما اتحدوا سياسياً وشعبياً لإزالة مخالفة التجديد للرئيس بشارة الخوري ولإنهاء ولايته الثانية. الثالثة سنة 1958 عندما اتحدوا سياسياً وشعبياً لمنع الرئيس كميل شمعون من تجديد ولايته وانحيازه لحلف بغداد و«مبدأ ايزنهاور» وذلك بانتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية.
هل ثمة قضية وطنية عظيمة القيمة والأهمية في الوقت الحاضر تدفع اللبنانيين الى الاتحاد سياسياً وشعبياً من اجلها؟
نعم، انها الحرية والحق في ان يكونوا احراراً في وطن حر وأن يقرروا بحرية مصير اجتماعهم السياسي ومؤسسات حياتهم الوطنية المشتركة.
انها مطلب حق وشرعي ومشروع وشرط مطلوب للخروج من الأزمة المزمنة، بل من المحنة القاتلة التي يعانونها. نعم، المطلوب إجراء انتخابات حرة يشارك فيها اللبنانيون، مجتمعين، وتجرى على اساس قانونٍ للانتخابات يعتمد قاعدة النسبية لضمان صحة التمثيل الشعبي وعدالته ما يؤدي تالياً الى استقامة ادارة التنوع اللبناني بعدالة وفعالية.
نعم، اللبنانيون مدعوون الى الاتحاد في طلب الحرية والى تنظيم صفوفهم، دونما إبطاء، للضغط على الشبكة الحاكمة والقيادات التقليدية المتسلطة من أجل اعتماد قانون ديمقراطي للانتخابات على اساس النسبية (كانت احالته على البرلمان حكومة نجيب ميقاتي منذ سنوات)، واجراء انتخابات حرة بموجبه تكون بحد ذاتها مخرجاً من حال الأزمة والمحنة، ومدخلاً لتكوين سلطة تشريعية من نواب شرعيين وبالتالي مؤهلين لانتخاب رئيس الجمهورية، تنبثق منهم حكومة إنقاذ وطني مقتدرة، وتجري تعيينات امنية وادارية مستحقة، وتؤسس لإعادة بناء لبنان دولةً ووطناً.
كيف؟ بالعصيان المدني. نعم، بالعصيان المدني اذ لا سبيل، بوجود الشبكة الحاكمة وعقليتها السياسية التسلطية، الى إحداث خرق في جدار النظام السياسي المتكلّس لتحقيق الإصلاحات المطلوبة.
ثمة حاجة تاريخية الى تكوين فريق قيادي راديكالي بسرعة قياسية من قيادات سياسية إصلاحية ومن قياديين شباب بازغين، مهمته اطلاق الدعوة الى العصيان المدني وتنظيم مظاهره الميدانية في شتى حقول الحياة العامة.
لعل ابرز مظاهر العصيان وطرائقه المطلوبة خمسة:
ــ الانقطاع عن العمل في المؤسسات الرسمية ذات الصلة المباشرة بأشخاص الشبكة الحاكمة واجهزة التسلط والقمع.
ــ الاعتصام في المؤسسات والمرافق العامة.
ــ شلّ المواصلات العامة في الاماكن والمواقع ذات التأثير المباشر في عمل السلطات العامة المتسلطة والمعادية للإصلاح الديمقراطي.
ــ تنظيم التظاهرات السلمية ومحاصرة مواقع الحاكمين المعادين للإصلاح الديمقراطي والإنقاذ الوطني.
ــ تنظيم حملة اعلامية واسعة ضد التسلط وضد إعادة إنتاج النظام الفاسد لنفسه واصحابه لأنفسهم.
ان مطلب الحرية والانتخابات الحرة الهادفة الى إنتاج برلمان حرّ يمثل اللبنانيين بمختلف ألوانهم وشرائحهم السياسية والاجتماعية من شأنه ان يشكّل منطلقاً وأساساً لقيادة راديكالية وجمهور عريض عابر للطوائف وقادر على فرض آليات ومناهج وطنية عصرية للإصلاح والتجديد.
دقت ساعة الإنقاذ الوطني بالعصيان المدني.
* محامٍ ـــ نائب ووزير سابق