يثبت الرجل الأول في إيران من جديد أنه اللاعب الأكثر فطنة والأشد حنكة، ليس في إمساكه بخطوط لعبة بلاده الداخلية فحسب، بل واللاعب القادر على تشتيت خطوط ذهن الخصم وإرباك مخططاته وتغيير قواعد الاشتباك معه على المستوى الدولي أيضاً!فبينما كان العدو اللدود واللاعب الأهم في مجموعة الخمسة زائد واحد، أي الأميركي، يستعد لنقل المعركة الأخطر في تاريخ الصراع الأميركي الإيراني إلى الداخل الإيراني ليقسمه بين متحمس لاتفاق نووي يعتبره حاجة ماسة لاستمرار ولايته العتيدة والاستعداد لربح تجديدها، وبين ناقد متحمس لإطاحة اتفاق قد يكون الأكثر تحدياً للدولة الوطنية الإيرانية بسبب ديبلوماسية «أي اتفاق أفضل من لا اتفاق»، أقدم صاحب مقولة «الديبلوماسية البطولية» على حركة غير متوقعة في لعبة الشطرنج الإيرانية، فإذا به يرمي بكل ثقله وخلافاً للمتوقع خلف الجناح التكنوقراطي في الدولة، واصفاً إياه بالأمين والشجاع والمتدين والغيور... فيما أخذ على بعض الناقدين للفريق المفاوض بأنهم أشبه بممتهني «الترف النقدي».

هذه الحركة الجسورة، لكنها المحسوبة بدقة متناهية، هي التي ستنقل عملياً المواجهة الديبلوماسية بين طهران وواشنطن من حالة الدفاع إلى الهجوم، والتي من شأنها أن ترمي بالكرة في الملعب الغربي ومتى، في الدقيقة التسعين، وهي اللحظة التي لطالما خبرها الإيرانيون بالتمام والكمال.
وحّد الجناحين التكنوقراطي والأصولي خلف إرادة «الدولة
الوطنية الإيرانية»

بمعنى آخر، بينما كان الأميركي يسعى جاهداً إلى أن يحاصر المفاوض الإيراني الطامح إلى تحقيق أي توافق لحكومة روحاني بأكبر حجم من الضغط الداخلي ليستفرد به، فارضاً عليه أقسى الشروط لفرض أي اتفاق حتى لو كان سيئاً، أو الرمي باللائمة على إيران في ما لو رفض المفاوض التكنوقراط تلك الشروط، فإذا بالمتعهد أو الراعي الأول في المسرح الإيراني والأمهر تاريخياً في لعبة المصارعة الحرة «يظهر خارج الحلبة ليعلن للجمهور» بأنه لن يستبدل لاعبيه وأنهم هم أنفسهم من سيحسم السباق بالضربة القاضية.
وهنا عليكم أن تتذكروا كيف وصف الإمام السيد علي خامنئي مقولته الشهيرة «الديبلوماسية البطولية» بانها ليست من اجل اقناع عدو لا يهزم بالاقناع بل «بطرحه أرضاً في ملعب الصراع»، كما ورد في لقاء مفصل له مع كادرات الخارجية الإيرانية.
بعبارة أخرى، فقد تمكن الراعي الأول هنا من دفع اصطفاف أراده وخطط له الخصم أو العدو طويلاً ليحصل في ملعب الداخل الإيراني على اصطفاف بين الكل الإيراني والكل الخارجي الغربي!
لكنه في الوقت نفسه وضع شروطه أو بالأحرى قواعد اللعبة كما يجب أن تكون:
١ــ نحن لا ثقة لنا بتاريخ عمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة والذيلية أصلاً لقوى الغرب، وبالتالي إن معاييرها لن تكون هي المعايير التي تحدد التزاماتنا وحاجاتنا.
٢ــ نحن لن نقبل بأي شكل من الأشكال أي وقف أو تجميد لعمليات التحقيق والبحث العلمي في مؤسساتنا وأنشطتنا النووية أثناء ما يسمونه اختبار النيات.
٣ ــ نحن لن نقبل أقل من إلغاء كل العقوبات المالية والمصرفية والاقتصادية الأُحادية والاتحادية الأميركية والأوروبية، وتلك الصادرة عن مجلس الأمن الدولي جملة وتفصيلاً فور توقيع الاتفاق - بالمناسبة وليس تزامناً مع تنفيذ الاتفاق كما يروج أو يتمنى البعض.
٤ــ نحن لن نقبل مطلقاً وبأي صيغة كانت أي إجراء أو خطوة طلب الدخول أو تفتيش الأماكن غير المتعلقة بالنشاط النووي، ولا سيما العسكرية والدفاعية والأمنية منها، وكذلك أي شكل من أشكال استجواب علمائنا النوويين.
وبذلك يكون الراعي الأول للديبلوماسية الذرية ورجل الدولة الوطنية الإيرانية الأول وقائد الثورة الإسلامية والقائد العام للقوات المسلحة قد تمكن عملياً بخطوة فطنة واحدة من أن ينقل الملعب والجمهور والحكام والمتفرجين من كل الدوائر إلى حيث يجب أن يكون المشهد الحقيقي كما سبق وأكد أكثر من مرة وفي أكثر من خطاب: في أميركا!
في هذه الأثناء، فقد وحد الجناحين التكنوقراطي والأصولي خلف إرادة «الدولة الوطنية الإيرانية»، مانحاً في الوقت نفسه الفريق الذري المفاوض شجاعة الدفاع المحكم عن الثوابت الوطنية الإيرانية وبلورة توافق كريم وعزيز تذعن له واشنطن وعواصم القرار الغربي، كما شجاعة رفض أية ضغوط أو محاولة فرض أي نوع من أنواع الالتزامات، متسلحاً في الحالتين بإجماع داخلي قل نظيره في تاريخ الصراع الإيراني الأميركي.
وجعل واشنطن عملياً هي الخاسرة والمذعنة لإرادة الإيرانيين في الحالتين، فيما سيكون حال الإيراني كالمنشار، الأمر دائماً لقائده وراعي ثورته وديبلوماسيته معاً، أي الرابح في الحالتين.
وليس معادلة: ربح - ربح... كما حاول البعض الترويج.
وهذا هو معنى: التفاوض والحوار بديبلوماسية بطولية ومن أجل إتمام الحجة.
نعم: المؤمن كيّس فطن... وليس كيس
قطن.
* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي الإيراني