يقوم البعض بالتفريق بين جبهة النصرة «المعتدلة» وتنظيم داعش «المتطرف» ظنّاً أن هذا التفريق قد يخدم مصالحه السياسية لاحقاً، أو يؤمن له ولجماعته درجة مقبولة من الحياد في الحرب السورية. وإذا كان البحث عن المصلحة في السياسة من الأمور المشروعة التي تبيحها النظرة الواقعية لحقيقة الأمور، فإن ذلك يجب أن يقترن، وانطلاقاً من الواقعية ذاتها، بتحليل صحيح يحدد الخصم بشكل واضح ودقيق. فالشأن السياسي هو بحسب تعبير المفكر الألماني الشهير كارل شميت المجال الذي يفرض علينا تحديد العدو من الصديق. فلا مكان لإنصاف الحلول التي لا يقبلها العدو أصلاً كون هذا الأخير هو من يفرض إيقاعه عبر تقسيمه البشر بين صديق وعدو وفقاً لمنظومة عقائدية لا تقبل التسويات.
ولما كان الجميع يعتبر -علناً على الأقل- أن تنظيم داعش مجموعة إرهابية فالمسألة التي تطرح نفسها تتعلق بجبهة النصرة التي أصبحت في عرف البعض تندرج تحت خانة المعارضة «المعتدلة». ولكي نتمكن من معرفة ما إذا كان الإرهاب سمة تنطبق على جبهة النصرة علينا في المقام الأول تحديد ما هو المعيار الذي على أساسه تصنف النصرة الأفراد والجهات المختلفة كعدو أو صديق.
الخطر لا يكمن في الجانب
النظري، بل في المواقف العملية
التي اتخذها ابن تيمية

من المعلوم أن زعيم جبهة النصرة أبو محمد الجولاني أعلن مبايعته لأيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة ما يحسم مسألة انتماء الجبهة من الناحية العقائدية إلى التيار السلفي الجهادي. فمعيار العداء هو بالتالي ديني أي أن الخطاب الرسمي للمجموعة يعتمد على ثنائية مؤمن/ كافر بغية تحديد نمط العلاقة السياسية مع الآخر. فهل تنفع المهادنة أو المداهنة مع هذا النوع من الفكر؟
للإجابة على هذا السؤال من الضروري العودة إلى ابن تيمية الذي يشكل المرجعية الفكرية التي تعتمد عليها غالبية التنظيمات التكفيرية إن لم يكن كلها. صحيح أن فكر هذا الأخير متشعب لدرجة كبيرة وقد خضع لدراسة معمقة من قبل العديد من الباحثين العرب والأجانب لا سيما مواقفه من الفلسفة والمنطق والتصوف، لكن الخطير لا يكمن في الجانب النظري بل هو في المواقف العملية التي اتخذها ابن تيمية كفقيه مسلم.
ولا شك أن الغالبية الساحقة من الأفراد المنضوين تحت لواء جماعة إرهابية ما لا يملكون الأدوات المعرفية التي تخولهم فهم الحجج التي ساقها ابن تيمية لمقارعة خصومه من الفلاسفة والمناطقة. لكن ذلك لا يحد من نفوذ هذا الأخير الذي تمكن عبر فتاويه من معالجة مسائل عملية عديدة بشكل مبسط مع تقديم إجابة واضحة تريح السائل وتخرجه من حيرته. فالعقل الفقهي هو بطبيعته عقل يحتاج إلى مرجعية تحسم له مأزقه عبر توفير جواب قانوني جاهز للتطبيق مباشرة. والمجموعات الإرهابية كجبهة النصرة وما شاكلها من جحافل تكفيرية تعتمد لتسويغ أفعالها بشكل كبير على «مجموعة فتاوى ابن تيمية» التي تحتل في نسختها المطبوعة أكثر من عشرين مجلداً.
ومن بين تلك الفتاوى جواب ابن تيمية حول حكم «الدرزية» و»النصيرية» (أي الطائفة العلوية). فقد قال فقيهنا الذي عاش في أواخر القرن الثالث عشر أن «هَؤلَاء الدرزِية والنصَيْرِيَّة كُفَّار بِاتِّفَاق الْمُسْلِمِين لَا يَحِل أَكْل ذَبَائِحِهِم وَلَا نِكَاح نِسَائِهِم؛ بَل ولَا يُقِرُّون بِالْجِزْيَة؛ فَإِنَّهم مرتَدون عن دِين الإِسلَام لَيْسُوا مسلِمِين؛ ولَا يهود وَلَا نَصَارَى لَا يُقِرُّون بِوُجُوب الصَّلَوَات الْخَمْس وَلَا وجوب صوم رَمَضَان وَلَا وُجُوب الْحَج؛ ولَا تَحْرِيم مَا حَرَّم اللَّه وَرَسُولُه مِن الْمَيْتَةِ والْخَمْر وَغَيْرهِمَا. وَإِن أَظْهَروا الشَّهَادَتَيْن مَعَ هَذه الْعَقَائد فَهُم كُفَّار بِاتفاق الْمُسْلِمِين». فادعاء الإسلام والحكم على الظاهر لا يكفيان لابن تيمية بل هو يذهب أبعد من ذلك ويعلن صراحة أن حكم الدروز هو القتل فيقول: «كُفر هَؤُلَاءِ مما لَا يخْتَلِف فيه الْمسْلِمُون؛ بَل مَن شَكّ في كُفْرِهِم فَهُو كَافِر مِثْلُهم؛ لَا هُم بِمنْزِلَة أَهْلِ الْكِتاب وَلَا الْمشرِكِين؛ بَل هُم الْكَفرة الضالُّون فَلَا يُبَاح أَكْل طَعَامِهِم وَتُسْبَى نِساؤهُم وَتُؤْخذ أَمْوَالُهُم. فَإِنَّهم زنَادِقة مردون لَا تُقْبَل تَوْبَتُهُم؛ بَل يُقتَلون أَيْنَما ثُقفُوا؛ وَيُلعَنُون كَما وُصِفُوا؛ ولَا يجوز اسْتِخْدَامُهُم لِلْحِرَاسَة وَالْبِوَابَة والْحِفَاظ. وَيَجِبُ قَتْل علَمائِهِم وَصُلَحَائِهِم لِئَلَّا يضِلُّوا غَيْرَهُم؛ وَيحرم النَّوْم مَعَهم فِي بُيوتِهِم؛ ورفْقَتِهِم؛ وَالْمَشي مَعَهم وَتَشييع جَنَائِزهم إذَا علم مَوتُهَا» (ابن تيمية، مجموع الفتاوى، المجلد 35، دار الوفاء، 2005).
لقد شكلت هذه الفتوى المؤلفة من بضعة أسطر التبرير الفقهي لكل الشناعات التي ارتكبها التكفير الإرهابي، وهي قاطعة في مضمونها لا تحتمل أي تأويل. فكيف يمكن وصف جبهة النصرة (فرع القاعدة في سوريا) بالاعتدال وهي من خلال هذا النص تبيح دماء فئة محددة لمجرد انتمائها لمذهب معين. ولابن تيمية فتوى أخرى لا تقل شهرة وهي عبارة عن رسالة بعث بها إلى السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون يحرضه فيها على شن حملة ضد «أهل الجبل والجرد والكسروان» في لبنان ويصفهم بأنهم «أَهل الْبِدَع الْمَارقُون وَذَوُو الضَّلَال الْمُنَافِقُون الْخَارِجُون عَن السُّنَّة وَالْجَماعة الْمفَارقون للشريعة والطَّاعَة. وقد ساد الغموض بين المؤرخين حول تحديد هوية من المقصود بأهل الجبل هل هم من المسيحيين أو الدروز أو فرقة من فرق الشيعة. ويشير ابن تيمية إليهم قائلا انهم «فرحوا بِمَجِيء التَّتار هم وسائِر أَهْل هَذَا الْمذْهب الْملْعون مِثْل أَهْل جزَين وَما حَوَالَيها وَجَبَل عامل وَنَوَاحيه» (مجموع الفتاوى، المجلد 28، دار الوفاء، 2005). والذي يتضح من هذا القول إن المقصود بشكل أساسي هم فرق الشيعة لا سيما الإمامية والعلويين الذين كانوا يسكنون منطقة كسروان.
هذا هو موقف المرجع الفكري الأبرز للجماعات التكفيرية. وقد أعلن الجولاني أن الطائفة العلوية خارجة عن دين الإسلام لكنه حاول أن يدخل بعض «الاعتدال» في كلامه إذ قال في مقابلة له أن الدروز، النصيرية والمسيحيين غير المحاربين هم محل دعوة. فهذه الطوائف هي في عرف جبهة النصرة كافرة يجب أن تخضع لحكم الشريعة إما بالسيف أو بالدعوة، وهكذا يكون الاعتدال قد بلغ ذروته لا بل انه اعتدال أهم من الرسالة حول التسامح الديني التي كتبها المفكر الانكليزي الشهير لوك في القرن السابع عشر.
لقد حددت جبهة النصرة مجالها السياسي عندما جعلت من ثنائية مؤمن/ كافر المعيار المتبع للتفريق بين الصديق والعدو. فلا طائل إذاً من محاولة مهادنتها كون حالة العداء القائمة بينها والآخر لا يمكن لهذا الآخر مهما فعل أن يبدل من طبيعتها. فقد يتمكن المتملق من خداع الجميع لكنه لا يستطيع بأي حال من الأحوال أن يخدع من صنفه كعدو، ولنا في نصوص ابن تيمية القاطعة خير دليل على ذلك. فهل من يقرأ؟
* كاتب وأستاذ جامعي