عندي مع عرسال علاقة مناسبة. يفيد تذكرها في مقدمة هذه المقالة للإضاءة على بعض جوانبها. وفيها أنني كتبت مقالتي الصحافية الأولى عن عرسال في جريدة «البناء» آخر بداية السبعينيات من القرن الأخير، وكانت ذات أثرٍ جعل كثيرين يحتفظون بها في أرشيفهم الخاص، وكذلك درّست في ثانوية اللبوة على طريق عرسال، وكانت الثانوية المشتركة بين البلدتين وجوارهما، وكنت خلال عقد كامل مسؤولاً في منطقة البقاع في قيادة حركة فتح عن البقاع الشمالي ومنه عرسال، وقد جرى تنافس داخلي مع الأمن العسكري، حرس الرئيس ياسر عرفات والمشهور بقوة الـ17 وقائده أبو الطيب الذي كانت له سلطات أمنية معروفة في لبنان في تلك المرحلة، حيث اعترضت على تدخّل قوة الـ17 في عرسال. والآن أفهم لماذا حصل ذلك، وكيف حاول أبو الطيب أن يقيم معسكرات في حربتا وسهل اللبوة، عدنا واستفدنا منها في إدارة الحرب مع العدو الصهيوني 1982.
وقد استطعت إبقاء بلدة عرسال في إدارة تنظيم فتح وليس إدارة الأمن العسكري الذي كان يسعى لزرع النفوذ في البلدة وغيرها. وتمت المصالحة بالاتفاق بيننا على حفر بئر ارتوازية بعمق مئات الأمتار لتشرب منه بلدة عرسال، وربما تكون البئر الوحيدة حتى الآن التي تؤمن مياه الشفة للبلدة، على أغلب الظن، إلى جانب المشاركة الفعالة المشتركة بيننا في المقاومة اللبنانية والفلسطينية...
هذه الحكاية للعلاقة بين الإنسان والمكان المقيم فيه، تفتح قدرة العقل على دراسة واقع يجمع بين الذاتي والموضوعي بين المعاش والمتخيل، ولكن أصدق ما يبقى من هذه الصورة المركبة هو الحقائق الجيوسياسية، يعني، جغرافية المكان وأحوال السكان، وهما لا يتغيران مع متغيرات مستوى البنى العلوية، ذات الطابع النظري المحض.
شارك أهل عرسال في دعم المقاومة الفلسطينية وانتفاضة المخيمات، وفي المعارك الداخلية

موقع عرسال الذي صار يعرفه جلّ اللبنانيين، وغيرهم من المهتمين بأحداث لبنان وسوريا، يقوم على السلسلة الشرقية، في امتداد الحدود اللبنانية ــــ السورية، ويضم مشاع بلدة عرسال، أو جردها مساحة واسعة تصل في مشاعات الجرد، فيما تتقلص ملكيات القرى والبلدات المجاورة إلى حدود ضيقة، حتى أن بلدة عريقة مثل يونين يقول أهلها إنه لا جرد لها وإن جرد عرسال يصل إلى تخوم بلدة يونين في أعالي السلسلة الشرقية.
أهل عرسال، مزارعين ورعاة، من أبناء الجبال، سكان المناطق الحدودية، تتوزع ولاءاتهم بتوزع سبل العيش وطرق التجارة ما بين الحدود. يكتسب المزارعون، والرعاة، وأبناء الجبال ومناطق الحدود، قدرة عالية على مواجهة صعوبة الحياة، وشجاعة مكتسبة من حاجة الدفاع عن النفس، في وجه أخطار الطبيعة وغيرها.
وعليه، فإن صفات مشتركة عديدة تربط أبناء عرسال، من أهل السنة والجماعة، مع أبناء منطقة البقاع الشمالي من المسلمين الشيعة، بينها البنية الاجتماعية الواحدة، والتقاليد العشائرية والعائلية والعادات الشعبية، والتجارة وشؤون الزراعة والرعي، وتبادل البضائع بين الحدود. كانت العلاقة بين عرسال وجوارها على خير ما يرام، ما كان أحد يحسب أن هذه البلدة تختلف عن غيرها، وما كانت ثمة تقسيمات عمودية قاسية، مثل تلك التي يتحدثون بها هذه الأيام، تقيم حدوداً بين الأهل والجيران على قاعدة التقسيم المذهبي. كانت السياسة كفعل إنساني مرتبطة بالجبلة الإنسانية المكونة، تجعل من أهل المنطقة وحدة اجتماعية، عادة ما يعبر عنها في الأبحاث الأكاديمية، والدراسات السياسية، والمقالات الصحافية، بأهل البقاع الشمالي، أو منطقة بعلبك – الهرمل.
بلدة عرسال كانت جزءاً أساسياً ومعتبراً من الاجتماع السياسي في هذه المنطقة. وكان أهلها مكوناً أساسياً في التركيبة الاجتماعية، وفي شبكة التقاليد والأعراف والعلاقات السائدة داخل المجتمع الأهلي، وكانت حال هذه البلدة، في السلسلة الشرقية حال جيرانها على السفوح القريبة للجرد الشرقي، وعليه فإن ركون الإنسان في المكان، كان يقوم على الشعور بالأمان، في المكافحة الفاعلة عن المصالح والقيم في سهل حفره الانهدام الجيولوجي الواقع بين سلسلتين، جبال لبنان الغربية والجبال الشرقية والمفتوحة على الداخل السوري وحواضر وادي العاصي، وكانت هاتان السلسلتان جناحي الطيران الآمن، لإثبات الوجود، حيث العزة عند أهلها في رؤوس القمم...
وعليه، ما كان خلاف بين أهل يعيشون بأمان داخل هذه الطبيعة المتينة البناء الجغرافي، والآخذة العبرة من التجارب التاريخية، حيث كانت جموع الغزاة، تنفذ إلى مدخل وادي البقاع من أعماق البادية لتحمل الناس على مقاومتهم. وكانت الأنشودة الدائمة للرجال في مواجهة الصعاب، العزة في رؤوس القمم.
لقد اكتشفت الجغرافيا أسس الدفاع عن نفسها قبل الخبراء العسكريين. وقد يعرف كثيرون أن هذا السهل مع حاضرته في وادي العاصي كان مسرحاً لحروب عديدة، وغزوات متعاقبة. منطقة تحدها القلاع، وتحميها الجبال، من تدمر إلى قلعة الحصن إلى قلعة بعلبك، من قرنة موسى في القلمون إلى القرنة السوداء، وقمة الرجال العشرة في جبل المكمل.
تمثل مساحة عرسال مع جردها ربع مساحة منطقة بعلبك – الهرمل، ويعود هذا التوسع في الجرد العرسالي إلى اعتباره من ملحقات الأقضية الأربعة على جبل لبنان، أو دولة لبنان الصغير، ولأن الهرمل ومناطق سفوح جبل المكمل وهضابها الممتدة من منابع العاصي إلى منابع الليطاني (شمسطار وتمنين التحتا)، كانت عامرة بالسكان من المسلمين الشيعة وكانت مشاعات هذه البلدات في جبال السلسلة الغربية.
هذا التوزع للأراضي على السكان والبلدات المستفاد من قانون الطابو العثماني، المرتبط بشكل أساسي بنظام الملل والنحل، خلق توازنات تقيمها الحياة نفسها والتي لم تمنع أن تكون في سهل البقاع وجناحيه الجبال الغربية والشرقية ووادي العاصي، منطقة شهدت بزوغ أرض الحضارات النهرية الناشئة على حواضر منابع الماء، والعاملة في الزراعة والرعي، وهي على خلاف مع الطبيعة المجاورة للبدو الرحل، من الرعاة الذين لا يطيقون العمل في الأرض ولا الاستقرار المدني فيها. وعليه فإن حركة هذه القبائل من البدو الرحل كانت تحصل في غزوات موسمية وعادة ما كانت موظفة من قبل سلطة الحكومات المركزية من خلال الاستعانة بجنود الانكشارية وعصبيات البدو، لإعادة السيطرة على مناطق تعمر بالبنيان، والاستقرار وزراعة الأرض ورعاية الماشية وحراستها.
لا يمكن فهم ما يجري الآن في الحرب مع الحركات الإرهابية التكفيرية من دون العودة إلى مرحلة تشكل القوى الاجتماعية، في هذه البيئة الحضارية المميزة. وهذه الناحية اشتغل عليها في رواية منصرف إلى كتابتها وعنوانها «شمس الأورنت».
كانت عرسال جزءاً أساسياً من التكون الحضاري ــــ المدني في هذه البيئة، وهي تطلّ على منابع العاصي في اللبوة، وتمتد حركتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، في نطاق الحركة المستقرة للاجتماع الإنساني في بيئتها، وعليه فقد برزت أدوارها في مراحل، كانت تتسم بالصراع الداخلي لموقعها الاستراتيجي، وظروفها الاجتماعية، والاقتصادية، وسنعود إلى تفاصيلها في مسار المقال.
توجد سمات مشتركة بين أهالي عرسال وأبناء بعلبك – الهرمل من حيث الاشتغال في الزراعة والرعي والتجارة الحدودية (التهريب)، وما تستلزمه هذه الأعمال من قدرة على الحماية الذاتية، والأرزاق وفتح العلاقات المتعددة مع الجهات السياسية والسلطات الرسمية في كل من لبنان وسوريا.
وكانت المنطقة الممتدة بين حمص ودمشق/ الشام مروراً ببلدات السفح السوري من جبال القلمون، مسرحاً لحركة أبناء بعلبك والهرمل، ويحدث أهل المنطقة عن المستشفى المركزي في النبك، وعن مدارس حمص، فيما كان يذهب أهل النبي شيت مشياً إلى دمشق عن طريق الزبداني لتمضية سهرة فيها، وكانت مركز التداول الاجتماعي والاقتصادي والثقافي قبل ازدهار حركة النزوح من ريف البقاع إلى ضواحي العاصمة بيروت.
كيف نضجت أحوال عرسال في مراحل القتال؟
تقدم دور عرسال وظهر متصالحاً أو متخاصماً مع واقعه الاجتماعي، في الأحداث التي شهدت أعمال عنف وصراعاً مسلّحاً، ولفت هذا الدور القوى السياسية والسلطات الرسمية، في لبنان وسوريا، وبدأ هذا المشوار الصعب للبلدة المقيمة على سفوح الجبل الشرقي في محطات المراحل التالية:
1) الثورة الشعبية عام 1958 وقد وقف أكثر أبناء عرسال وعائلاتها إلى جانب المقاومة الشعبية التي كان الرئيس صبري حمادة يقودها بالتحالف مع الرئيس صائب سلام، والزعيم الاشتراكي كمال جنبلاط وكانت سوريا داعمة إقليمية لهذه الثورة. ولعبت عرسال دوراً رئيسياً في المعارك الصغيرة، على جرد النبي عثمان ورأس بعلبك والقاع في مواجهة مع الحزب السوري القومي الاجتماعي صاحب النفوذ القوي في المنطقة. لم تكن العائلات العرسالية مشاركة في قيادة الثورة الشعبية، وإن كانت اشتباكات التلال فيها تشبه الصراع بين البلدات تبعاً للنفوذ السياسي للقوى المتحاربة.
2) شارك أهل عرسال في دعم المقاومة الفلسطينية، وانتفاضة المخيمات، وفي المعارك الداخلية من الهجوم على بلدة القاع وكذلك البلدات المسيحية في سفوح السلسلة الغربية: دير الأحمر، شليفا والقدّام وغيرها، كما شاركوا من خلال الأحزاب السياسية خاصة حزب البعث العربي الاشتراكي، والحزب الشيوعي اللبناني، ومنظمة العمل الشيوعي، والحركة الناصرية في معارك عيون السيمان، والكرك والمعلقة وزحلة، ومرتفعات صنين وفي محاور بيروت، وبعضهم شارك من خلال المقاومة الفلسطينية – حركة فتح والقوى اليسارية الشيوعية في معارك الجنوب مع العدو الصهيوني. وقد برز من عرسال في الحرب قادة ميدانيون خاصة في الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي.
تراجع الدور العرسالي مع تراجع حركة المقاومة عند الأحزاب اليسارية اللبنانية، وخروج القوات الفلسطينية من لبنان، وتوقف الحرب الأهلية، وانصرف أبناء البلدة إلى أعمالهم المعتادة مع بروز متغيرين أساسيين هما:
1) اكتشاف ثروة الصخور العرسالية أو ما يعرف بالحجر العرسالي وانتشار ورش الحفارات في الجبال حول البلدة وفي محيطها، وأصبح العراسلة خبراء في أعمال الحجر الصخري وما يستلزمه من خبرات في فنون العمارة، ودرّت هذه الثروة الجديدة مصادر دخل محترم للعاملين فيها.
2) أدّت تجارة الحجر العرسالي إلى تمدد أبناء البلدة في الجوار، واستملكوا أراضي واسعة على طريق الفاكهة ــــ رأس بعلبك ــــ الهرمل، وفي الأراضي غير المفروزة في سهل القاع وامتداده إلى الحدود السورية، قرب جوسيه في منطقة القصير.
وما كاد أبناء عرسال وأغنياؤها الجدد، أن يعرفوا طرق العبور للمشاركة في البناء الفوقي للسلطة السياسية الممثلة بشكل أساسي في البرلمان حتى وقعوا من جديد في التوظيف السياسي – الأمني، للصراعات الداخلية بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وتعرف تيار المستقبل إلى البلدة البقاعية شبه المنسيّة.
التطورات السياسية التي حصلت في هذه الفترة، ورافقت مرحلة النمو الاقتصادي بتجارة الحجر، والتوسع في ملكية الأراضي في السهل، مع تفكك القوى السياسية للأحزاب اللبنانية وانتظامها من جديد حصلت وفق ما يلي:
■ الشيوعيون واليسار عموماً دخلوا إلى تيار المستقبل، وبرر بعضهم هذا الدخول أنه لمنع وضع يد التيارات السلفية على إدارة حزب المستقبل والحريرية السياسية، وهذا يتفق مع ما حصل في مناطق أخرى.
■ ازداد نفوذ حزب البعث العربي الاشتراكي، وكذلك مستوى إدارة المخابرات السورية، من مركز قيادتها في محطة رأس بعلبك لكل المجريات المتعلقة بالنمو الاقتصادي وتوسع الملكية في الجرد والسهل، وازدهار عمليات التهريب المنظم، والمشاركة في لعبة الصراعات الداخلية، من خلال توجيهات الأجهزة الأمنيّة.
■ حافظ المنتسبون إلى حركة فتح والحركة الناصرية على مواقفهم ونال الفتحاويون كثيراً من ملاحقات الأمن السوري.
لكن اللافت أن كل الذين اشتغلوا مع الأمن السوري أو أغلبهم وكل الذين انضموا في حزب البعث أو منظمة الصاعقة التحقوا بالثورة السورية في ما بعد، وصاروا بعدها مشاركين فعليين في الحركات الإرهابية من «القاعدة» وأخواتها.
يفسر هذا النفوذ أمر يعتبر دليلاً واقعياً مفاده أن بلدية عرسال ورئيسها وشيخ عرسال وإمام مسجدها (عادة ما يتم انتخابهم وتعيينهم بموافقة من الأجهزة الأمنية الفاعلة) أصبحوا جميعاً قادة فعليين يمسكون بالوضع الجديد، وتحدث رئيس البلدية في لحظة أخذته فيها العزة في الإثم، وغرور القوة، عن سيطرته على جمهورية واسعة بين لبنان وسوريا مساحتها لا تقل عن نصف مساحة بلاد الأرز...
وعليه فقد عاد الدور العرسالي ليبرز من جديد في ميدان العنف وأضحت عرسال مثل طرابلس – الشام، وكأنها مدينة سورية منتفضة على النظام، واستقبلت آلاف النازحين، وكانت معبراً للسلاح والمال والرجال إلى الداخل السوري، وشكلت قاعدة لوجستية، ومقر إدارة وقيادة عسكرياً ولوجستياً للمعارضة السورية في البداية، ومن بعدها لكل من النصرة وداعش وأخواتهما، فيما حافظ الفتحاويون والناصريون على علاقة جيدة مع المقاومة الإسلامية وحزب الله. حصلت هذه المتغيرات في حركة تراكمية وانقلبت عرسال على محيطها وعلى الجيش اللبناني، وتخاصمت مع تاريخها، لتكون أحوالها في ما لا نقبله لها من الأحوال.
ما المتحصل في أحوال عرسال على المستويين الاجتماعي والسياسي؟
ما خلا المتغيرين المذكورين على المستوى الإنمائي، تجارة الحجر العرسالي وتمدد الملكية والسكن إلى السهل، لم تعرف عرسال حركة تنمية ناهضة، كبقية البلدات البقاعية. لكن أضيف إلى المتغيرين المذكورين ازدياد تجارة التهريب وإضافة سوق جديدة إلى ميدانها في سوق الحرب، فازدهرت بحكم الواقع الجديد تجارة السلاح والمواد الغذائية ونقل العتاد والرجال، والسيارات المفخخة كما صدرت بعض الانتحاريين، وذهبت بعيداً في خصومة محيطها، الذي لا حياة هانئة لها من دونه.
ما الذي عرفته أحوال عرسال وما الذي حصلته على المستوى السياسي؟
يذهب الناظر في أحوال عرسال إلى أن ما عرفته البلدة من أدوار في المراحل المتعاقبة من الثورات والانتفاضات المحلية، والصراعات الإقليمية، قد مكّن الناس من المشاركة الفاعلة في الحياة السياسية. ولكن الوقائع تثبت أن أهل عرسال كانوا يزرعون، فيما يحصد غيرهم مواسم الحقل، ومرات على حساب بيدرهم التنموي والسياسي.
لقد ظلت عرسال، طيلة تقلبات أحوالها تابعة من الناحية السياسية إلى القيادات والعائلات الإسلامية السنية، البعلبكية، في البقاع، والزعامات السنية في العاصمة بيروت، ويكشف التاريخ السياسي للبلدة عن الوقائع الحقيقية التالية:
■ لفت الدور العرسالي في الثورة الشعبية عموماً 1958 نظر الشهابية والأجهزة الأمنية إلى عرسال، فأثمرت هذه الالتفاتة دخولاً كثيفاً لأبناء البلدة في الجيش اللبناني، لكن ما يلزم ذكره هنا أن الدخول إلى الجيش اقتصر على الجنود ولم يرافقه دخول إلى نادي الضباط وصف الضباط، ولم نعرف ضابطاً مشهوراً من آل الحجيري أو الفليطي. أهل عرسال جنود في الجيش، وضباط الجيش من العائلات السنية والمسيحية في الفاكهة ورأس بعلبك، (من آل سكرية وكلاس في الفاكهة وآل منصور في رأس بعلبك)، ظاهرة ملفتة للباحث في أحوال المدن والبلدات وأهلها، تجذبه لمعرفة أسبابها.
■ حاول الرئيس صبري حمادة أن يستفيد من القوة الانتخابية لعرسال لأن صناديقها كانت تصب أخواتها على الطريقة الحريرية (زي ما هي) وتفسير ذلك أنها تعطي أسماء اللائحة كاملة. ولكن اعترضته عقبات من داخل السنية السياسية المركزية، فأبقى التمثيل موقوفاً على سياد آل الرفاعي في بعلبك وآل سكرية في الفاكهة وفي واحدة من الدورات الانتخابيّة فرضت الشعبة الثانية (المخابرات) تسمية الرئيس تقي الدين الصلح عن المقعد السني في بعلبك – الهرمل وكان وزيراً للداخليّة، واستمرت المحافظة على إلحاق عرسال بآل السكرية والرفاعي، ومن اللافت أيضاً أنه حتى حزب البعث العربي الاشتراكي، المطلوب أن تكون قيادته من الفلاحين نظرياً، اختار سهيل السكرية عضواً في القيادة القومية إلى جانب رفيقه عاصم قانصوه من بعلبك – الهرمل، ممثلاً للعائلات والعشائر...
■ حزب المستقبل والحريرية السياسية نفسها لم تجد في عرسال إلّا القوة المقاتلة، أما في التمثيل السياسي فقد ذهبت إلى اختيارات من العائلات نفسها التي اختارتها الطبقة السياسية.
■ كان حزب الله الوحيد بين القوى السياسية الذي احترم مكانة عرسال، ووجد لها محلاً في البرلمان، وعليه فقد أوصل نائبين من عرسال إلى الندوة البرلمانية، منير الحجيري عام 1992 ومسعود الحجيري عام 2000، قبل أن يذهب، لأسباب عدة تتعلق باختلاف وجهات النظر مع قوى أخرى حليفة، إلى اختيار اسماعيل سكرية أولاً ثم أخيه العميد الوليد سكرية الذي يجمع بين الخبرة العسكرية، وفعالية العائلة السياسية.
■ ولذلك فإن أحوال عرسال من الناحية السياسية استمرت على حالها في استغلال الوضع الجغرافي والديموغرافي لهذه البلدة من أجل إنشاء قوة عسكرية مقاتلة لصالح مشاريع مركزية تابعة لسلطة الحكومات أو لأجهزة المخابرات أو مؤسسات الطوائف، ولم تنل البلدة أي دور مشارك في القرار السياسي. ولا يزال هذا الانفصام بين القوة الواقعية وتمثيلها السياسي حاصلاً على وجه دقيق في أحوال بلدة عرسال.
وعليه فإنني أعتقد أن أول ما سيفعله حزب الله بعد تحرير جرد عرسال من التكفيريين الإرهابيين يكون مطالبته الواقعية بتمثيل البلدة، في الإدارة السياسية المحلية، وكذلك في الندوة البرلمانية، والسعي لبرنامج إنماء حقيقي كما هي الحاجة إليه في مناطق بعلبك – الهرمل وعكار والقرى الجنوبية على حدود فلسطين المحتلة والبقاع الغربي وجبل لبنان وغيره من المناطق النائية، التي تحتاج إلى الأمن المستقر وإلى التنمية المستدامة.
آخر المقال في أحوال عرسال أن أخاطب أبناء هذه البلدة العزيزة ليقدموا مصلحة وحدة المسلمين السنة والشيعة على التكفيريين الإرهابيين لأن لا حياة كريمة وممكنة مع هؤلاء القتلة، ولأن عرسال جزء أساسي من البقاع وقلب جرد الجبل الشرقي الجناح القوي لحماية سهل البقاع وحضارة وادي العاصي، من منابع النهر في اللبوة، والهرمل إلى مصبه في أنطاكية.
خطاب من القلب، يعرفون أنه صادق، وأن الوعد الصادق، حاصلٌ على الوجه اليقين.
* كاتب، وزير لبناني سابق