أقام الاستعمار لدى إزالته الرموز الشكلية لحكمه العسكري في العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين ثلاثة نماذج من الدول - التي لا تتأهل حقيقة لوصف الدولة الحديثة بمفهومها الماركسي. الكيانات الوظيفية بقيت مفيدة إلى اليوم، ودول تحالف العصابات لا تشكل خطورة تذكر، لكن الشكل الثالث (الدولة العميقة على النسق النابليوني) أثبت عدة مرات أنه قد يتحول إلى مصدر قلق لمصالح الرأسمال العالمي عند نشوء نزعات طموح إقليمي. سوريا، بوصفها آخر الدول الوطنية العميقة في المشرق العربي تواجه خطر السقوط إلى نموذج دولة تحالف العصابات وصمودها قد يمثل آخر أمل لشعوب المنطقة في إمكان تطور دولة حديثة غداً عند نضوج الظروف الموضوعية لذلك.يقوم مفهوم الدولة الحديثة في العالم الغربي من وجهة النظر الماركسية - بوصفها تعبيراً مادياً عن تحالف الطبقة البرجوازية الحديثة في شكلها السياسي ــ الاقتصادي، وما يستتبعه ذلك من بنى فوقية قانونية وثقافية واجتماعية قد تختلف في شكلها باختلاف التجارب الإقليمية والمحلية. من دون «الدولة» - يقول أنطونيو غرامشي-، فإن الطبقة البرجوازية لا يمكنها بحال تجاوز تناقضاتها الداخلية وحل التنافسات بين قطاعاتها المختلفة والتفاوض - النظري - مع الطبقات الأخرى لإبقاء منظومة الهيمنة الاقتصادية والثقافية قائمة بشكل أو بآخر. بالطبع فإن الأحزاب البرجوازية تتنافس فيما بينها على تولي الشكل التنفيذي الإجرائي للحكم وفق نظام تداول للسلطات يعكس توازن القوى - البرجوازية حصراً - وتحولاته، لكن السلطة تبقى حصراً في يد البرجوازية الحديثة.
بالطبع فإن هذا الشكل الحديث للدولة كان نتاجاً خالصاً للنظام الرأسمالي، وارتبط منذ اليوم الأول بنضوج الطبقة البرجوازية الذي أصبح شرطاً لا بد منه لقيام «الدولة الحديثة». ولهذا فإن نقاشات تأسيسية سجلت بين الثوريين الروس في نهاية القرن التاسع عشر، وبعد ثورتهم في ١٩١٧ عن معنى الثورة على الدولة المتخلفة (روسيا القيصريّة) التي لم تصبح دولة «حديثة» بعد. ومهما يكن من أمر فإن كل الدول الحديثة تقريباً بعد أن استكملت قيام مؤسساتها الفوقية الأساسية، وأحكمت قيام تحالف طبقتها البرجوازية، انطلقت بحكم تفوقها التكنولوجي وبسبب من بنية النظام الرأسمالي الساعي أبداً إلى تعظيم الرّبح، في توسعات إمبريالية عبر قارات العالم وعلى حساب الشعوب التي كانت لا تزال تعيش المراحل السابقة للتاريخ.
الاستعمار الإمبريالي استوعب أوضاع الأمم والشعوب - المتخلفة سياسياً وفق مفهوم الدولة الحديثة - وأعاد صياغتها في وحدات سياسية وجغرافية مرتبطة بنظريته الاستراتيجية لضمان ديمومة الهيمنة وهو من أجل ذلك، أقام إدارات عسكريّة للتحكم والسيطرة، حوّلت عند نضوج الظروف الموضوعيّة والتاريخيّة والعمليّة إلى ما سمي اصطلاحاً بدول مستقلة. هذه الدول - دون استثناء تقريباً - كانت مجرد تلفيقات اجتماعية وسياسية مهزوزة، غير قادرة على ممارسة سيادة الدولة - بالمفهوم الحديث -، وإنما تتولى تصريف الأمور في المستعمرات السابقة - على نحو أو آخر - مع ضمان مصالح الدول - الدول (يسميها البعض الدول الكبرى).
هذه الإدارات - ولنركز في وحدة التحليل لأغراض هذه المقالة على العالم العربي - أخذت واحداً من ثلاثة نماذج للدولة المتخلفة إذا كان لا بد من الاستمرار في تسميتها بالدولة من حيث الأساس. النموذج الأول كان الدولة ـ المزرعة، والثاني الدولة العميقة، أما الثالث فدولة تحالف العصابات. كل أشكال الدول (غير الحديثة) إنما تندرج بشكل أو بآخر تحت واحد من هذه النماذج.
الدولة المزرعة كيان وظيفي محض دون جذور حضاريّة أو تاريخية عميقة، يتمحور حول تقديم دور محدد في إطار الإقليم لخدمة المصالح الجيواستراتيجية والاقتصادية الطويلة المدى لدول الرأسمال. ويتلخص هذا الشكل بتمكين عدد محدود من الأفراد البارزين - المرتبطين دوماً برابطة الدم - في نطاق كتل شعبية شديدة التخلف من الاستفراد بالحكم وفق شرعيّة ملفّقة يسندها اعتراف الدول الكبرى بها فحسب، دون وجود أي مقومات لقيام دولة حقيقية لا في المدى القصير ولا حتى على المدى الطويل، وذلك لضعف بنيوي لا يمكن تعويضه في البنية الاقتصادية أو الاجتماعية أو حتى الجغرافية للدولة ــ المزرعة. تُطلق يد مجموعة الأفراد هذه بإدارة شؤون البلاد كمزرعة خاصة - حتى ولو كانت أراضيها صحراء قاحلة بالطبع!- شريطة الاستمرار في كل وقت بأداء الدور الوظيفي للكيان دون أي تردد. يتولى هؤلاء الأفراد من خلال تحالفات وتوازنات يقيمونها في «مزرعتهم»، تختلف باختلاف الظروف الموضوعية لكل كيان. تبدأ هذه الكيانات مع مرور الوقت بتشكيل سرديتها الخاصة وتاريخها الذاتي المتخيّل وتندفع جماهيرها إلى الاقتناع بتاريخية هذا التكوين من دون النظر إلى أنه ليس أكثر من خيمة ملونة ممسوكة بخيوط شفافة غير مرئية، يمسك بها الخارج ويمكن أن يتركها لتنهار في أية لحظة. الجدير بالذكر هنا أن الطبقة البرجوازية في هذه الكيانات تبقى دائماً في إطار البرجوازية الرثة أو في بشكل اقتصادات هامشية غير منتجة - مهما أصابت من ثراء - معتمدة حصرياً على الامتيازات والهوامش الممنوحة من أسياد المزرعة والتشبيكات من خلالهم في تشكيلات التجارة العالمية ودون أن تتحول مطلقاً إلى برجوازية حديثة.
النموذج الثاني كان الدولة العميقة. هنا حقائق الجغرافيا والتاريخ جعلت من السكان المحليين لنقل أقل تخلفاً من المجموعات الأخرى التي رُكّبت في كيانات وظيفية، فكان لا بدّ لضمان استمرارية الهيمنة في مرحلة ما بعد الحكم الإمبريالي العسكري المباشر من تكوين شكل دولة يبدو من الخارج وكأنه دولة حديثة فيها دساتير وتداول سلطات وأحزاب ربما ولكنها في الحقيقة محكومة باستبداد شديد من قبل مجموعة محدودة من الأفراد - القادمين أساساً من خلفيات عسكرية وأمنية محترفة -، وتضمن دائماً ولاء الطبقات جميعاً بما فيها البرجوازية الرثة وتلك الطفيلية من خلال العنف أو التهديد به، مع تكوين سردية شرعيّة قائمة على هوية وطنية أو قومية على نسق الدولة الفرنسية في عهد نابليون أو الدولة الإيطالية في مطلع القرن العشرين. توظف الدولة العميقة هنا الدين في خدمة سرديتها، وتدعم مؤسساته ويستمر التداخل بين شؤون الدين والدولة قائماً دون أي مساواة حقيقية بين الأديان، وتقوم كل مؤسسات الدولة الشكلية وحتى الأهلية على توازنات محلية تافهة دون أي مساس بالخطوط العريضة لهيمنة المجموعة المستبدة.
النموذج الثالث هو نموذج تحالف العصابات. هذا النموذج طبّق في الكيانات الضعيفة المصطنعة القائمة أساساً على تقاطع مجموعات عرقية أو طائفية متنافسة دون هيمنة نهائية لطرف منها على الآخر بسبب إمساك كل طرف منها بجزء ما من أجزاء معادلة العيش «المشترك» أو هو الشكل الذي تنتهي إليه الدولة العميقة عندما تسقط بتدخل عسكري خارجي أو من خلال الانقلاب غير المدعوم من دول كبرى. هنا تكون الدولة المركزية شديدة الضعف لمصلحة المناطق التي يتحكم بها زعماء محليون، يبني كل منهم كياناً محلياً كما اتفق بالعنف المادي أو الاقتصادي أو الثقافي (غالباً من خلال سردية دينية أو قبائلية)، ويتفاوض باسم الخاضعين له على حصة من كعكة الدولة المركزية بعد فترة من اقتتال داخلي أو حروب أهلية، مستفيدين من دعم قوى إقليمية وخارجية.
هذه النماذج الثلاث وصيرورتها في فضاء ما بعد الإمبريالية في النصف الثاني من القرن العشرين مقدمة ضرورية لفهم نتائج التحولات القاسية التي أفرزتها الأحداث في العالم العربي بداية القرن الحادي والعشرين وانتهاء بالهجمة على الدولة السورية.
نقطة البداية عندي أن هذه الأشكال الثلاثة للدولة «المتخلفة» مصطنعة، غير متزنة ومرتبطة بالخارج (الذي هو بدوره يعيش تحولاته وتطوراته) وستبقى دائماً عرضة للسقوط. لكن على العموم فإن الدول الكبرى لم تكن تواجه أية مشاكل تذكر مع هذه الدول - المزارع ما دامت قادرة تنفيذ دورها الوظيفي المحض، وخلق توازناتها الداخلية من خلال التفاوض مع القطاعات المختلفة على تبادل مصالح يرضى كل الأطراف بشكل ما. وهكذا لم يحدث ربيع عربي مزعوم في أي من هذه الدول، والقلاقل الهزيلة التي حدثت في بعضها بسبب التأثر الجانبي بهزات الإقليم تم استيعابها بسرعة من خلال تفاوضات داخلية جديدة بين الأطراف المستفيدة من بقاء هذه الكيانات. أيضاً لا توجد مشكلة كبيرة في تعايش الدول الكبرى مع كيانات تحالفات العصابات، ما دامت كل الأطراف غير قادرة على تحقيق انتصار كلي أو إنجاز تحول باتجاه نموذج «الدولة العميقة» الأعلى نسبياً. وحين كانت بعض المجموعات المحلية تخرج لممارسة العنف خارج حدود الكيان، كانت تقمع وبشدة من القوى الكبرى وبالتعاون مع الكيانات الوظيفية في الإقليم.
الدولة المزرعة كيان
وظيفي محض دون جذور
تاريخية عميقة

التصادم الذي كان لا بد منه بين مصالح الدول الكبرى وشعوب المنطقة حدث في إطار نموذج الدولة العميقة حصراً. الدولة العميقة أساساً منتج استعماري - ولو كانت دوافع بعض الأفراد فيها وطنية أو قومية - وهي مقبولة ويستمر التعايش معها من وجهة نظر الدول الكبرى ما دامت منكفئة على ذاتها ومكتفية بإدارة الكتل الشعبية بصيغة ما دون المساس بالخطوط العريضة لمصالح الرأسمال العالمي. لكن هذه الدول - مستندة إلى سردية لها جذور حضارية وتاريخية قوية، وثروات مادية أو بشرية - تبدو وكأنها تبدأ بعد فترات استقرار وفورة نمو في تكوين طموحات إقليمية وأحلام استقلال فعلي أو أنها لا تعود قادرة على التفاوض الفعال لإدامة التوازن في ظل صعود قوى داخليّة جديدة. عندئذ، تستشعر الدول الكبرى الخطر، وتتدخل بشكل مباشر (وفق شكل الحرب السائد في حينه).
الدولة الوطنية العميقة تنتهي نتيجة تدخل الدول الكبرى إلى أحد وضعين: إما إلى استيعاب الصدمة ولملمة الموقف من قبل المنظومة المستبدة والعودة للانكفاء مقابل البقاء في الحكم وتمديد عمر الدولة مؤقتاً ربما مع تغييب بعض الوجوه (مصر وتونس والجزائر) أو تنتهي بسقوط هيكل الدولة المركزية لمصلحة صعود نموذج دولة تحالف العصابات (العراق وليبيا والصومال). وفق هذا التحليل فإن سوريا بوصفها إحدى الدول التي تشكلت فيها منظومة دولة وطنية عميقة، تبدو وكأنها بحكم تقاطعات القوى العالمية والإقليمية نجحت بشكل ما في بناء طموح إقليمي وفق سردية أكبر دوماً من حدود دمشق (قومية عربية أو قومية سورية لا فرق) وفي مواجهة مباشرة مع الكيانات الوظيفية المجاورة كلها التي تركها الاستعمار الإمبريالي (والتي ما زالت مفيدة ولم يحن بعد وقت التخلص منها). دولة سوريا العميقة (والتي فيها بالطبع عيوب كل دولة عميقة من التلفيق الطبقي والاجتماعي والديني والرداءة وكونها أساساً نتاج العملية الاستعمارية) شكلت بطموحها المحمي بنفوذ روسيا الصاعدة وإيران الطامحة إخلالاً بالخطوط العريضة لتحالف الدول الكبرى، فكان لا بد من تدخل مباشر. السوري وبحكم الهامش الذي منحته إياه تحالفاته، تجرأ فيما يبدو على رفض الانكفاء والاكتفاء بإدارة التفاوضات الداخلية الدائمة بين الكتل ومصالح القوى المتصارعة، وهكذا كان القرار بتدمير الدولة الوطنية السورية لمصلحة نشوء دولة تحالف عصابات جديدة - على النسق العراقي - وذلك من خلال شن حرب مباشرة (بطريقة ما بعد الحداثة التي تأخذ شكل ميليشيات المجاهدين وتمت تجربتها بنجاح باهر في أفغانستان بالتعاون الوثيق مع الدول الوظيفية والعميقة المنكفئة في الإقليم).
صمود سوريا المفاجئ لكل الأطراف - الحلفاء قبل الأعداء - قد يكون نتاج تداخل عدة عوامل منها وعي وطني متجذر في قطاعات هامة من الشعب، مختلط بمناقبية عسكرية ممتازة للجيش وقيادة ذات رؤية استراتيجية يدعمها غطاء روسي وإيراني وتحالف مع قوى لبنانية لها رؤية أوسع من حدود صراع العصابات المحلي في لبنان. لكن مهما كانت أسباب هذا الصمود، فإنه أعطى الشعوب في هذه المنطقة لحظة تاريخية تمددت إلى ست سنوات حتى الآن - لمنع سقوط الدولة العربية الوطنية الأخيرة في الإقليم - ليس دفاعاً عن الدولة العميقة بحد ذاتها، وليس خوفاً فقط من السقوط إلى نموذج دولة تحالف العصابات البائس وإنما لأن هذه الدولة تبقى أملنا الوحيد في الشرق العربي لأن تكون نواة يمكن العمل من خلالها - وعند نضوج الظروف الموضوعية - للتحول يوماً إلى دولة حديثة يكون لها مكان تحت الشمس إلى جوار الدول الكبرى. الدفاع عن الدولة في سوريا، دفاع عن أمل أخير بغد أفضل - ما زال ممكناً نظرياً.
* باحث عربي في الشؤون الأوروبية