قرأتُ كثيراً عن الحضارات القديمة وزرت بعضها، لكنني لم أشعر بالعيش المشترك مع من أسسوها وشيّدوا أركانها، لم أتعرف إليهم، ولم أرَ ملامحهم. اليوم فقط... انتقلت من القرن الواحد والعشرين إلى ما قبل الميلاد، بل إلى ما قبله بقرون عديدة. صافحتُ أخناتون، التقطتُ صورة تذكارية مع نفرتيتي، أصغيت لأسعد الكامل وهو يخطب لحراس مملكته الحمْيرية، تاهت نظراتي وسط اسوارة الملكة بلقيس، وجدتُ نفسي فجأة في قبرٍ فرعوني مترامي الأطراف، بينما روحي كانت تتسكّع في قمّة عمود روماني، يبدو أنه قد صُلب عليه الكثير من الرهبان والقادة. عينٌ في تدمر، وعيني الأخرى في الموصل، قدمٌ في مأرب، وقدمٌ أخرى في غدامس، يدٌ تتحسس فخار أمازيغي، ويد أخرى تحفر الأرض بريش نعامة خشية أن تصيب أثراً ما بأذى.ذهبتُ إلى أبعد نقطة في التاريخ، تعرفت إلى أعظم ملك وأعظم مملكة. وفي لحظةٍ ما، طمرتني الحكومات العربية تحت التراب، خشية العبث بنا، وعدم القدرة على الحفاظ علينا، وفجأة سمعت اللصوص يحفرون التراب فوقنا بلا رحمة، يسابقون الزمن ويتحدون القوانين، كانت فؤوسهم تحطمنا ونحن لا نقوى على الحراك، ولم نستطع حتى أن نفتح شفاهنا لنقول «النجدة». حملوني على ظهورهم، ونسوا بعض أجزائي في المقبرة القديمة، تقاسموني واختلفوا من يأخذ النصيب الأكبر، وقبل الفجر باعوني لسمسار آثار بأبخس الأثمان، لأجد نفسي مُشرّحاً في متحف اللوفر. اجتمع حولي الأطباء والخبراء، احتووني برعايتهم الفائقة. وضعوني بعد ذلك في قفصٍ زجاجي ضد الرصاص، لكنني لم أشعر بالأمان ولا بالراحة، لقد صرت غريباً في بلادٍ غريبة، رغم أنني وجدت الكثير من الأهل والأصدقاء الذين تغيّرت ملامحهم وألوانهم تحت سقف هذا المتحف.
كانت تصلنا الوفود كل يوم وليلة والخوف يملأ عينيها، عندما كنا نسألها عن سبب تواجدها، كان أغلبها يفيد بأنه سُرق، ولكن لكل سرقة حكايتها الخاصة. هناك من تمت سرقته بهدوء واحتراف، وهناك من تم تدمير مدنه وتدميره ونهب ما تبقى منه، وهناك أيضاً من أوتي به للعلاج وجبر الكسور ولم تتم إعادته.
يجب قطع الطريق أمام سماسرة التاريخ ولصوص الحضارة

كان المتحف يعجّ بالزوار يومياً، وفي أعينهم كانت الدهشة تفتح عينيها، وكان الكل يعتبرنا «حضارته» -بنسب متباينة طبعاً- وبينما كنتُ كذلك... (تمثال حمْيري، على صدري سلسلة غليظة مصنوعة من الرخام والغرانيت القديم، وفي فواصلها أفصاص من العقيق المعتّق، كان في كل فص منها صورة حيوان برّي، ولكل حيوان عينان جميلتان مُحدّقتان، وعلى يميني كانت اسوارة مطوية خمس طيات بشكل أفعى، وفي يساري عصا رأسها رأس غزال...)، بينما كنتُ بهذا الشكل وبهذه الهيئة؛ فجأة تحرك رمش عيني، وعدتُ إلى الواقع، لأجد نفسي مرميّاً على مكتبي. لم أكن أحلم، بل كنت أرسم ملامح فيلم وثائقي، يستعرض «حضارتنا»، تاريخها، حاضرها، ومستقبلها. يكشف أساليب الهدم، والتدمير، والتهريب، ولأنني لا أمتلك الإمكانيات والأدوات الكافية لإنتاجه؛ كتبت هذه السطور.
لقد عشتُ ما عاشته الآثار قديماً وحديثاً، ومن خلال هذا السرد الذي اعتمد على عدّة دراسات سابقة، تعرفتُ على الكواليس التي تعيش خلف كل أثر، وكيف يتم التعامل معها. فالآثار تعني الحضارة، الهوية، الانتماء، التاريخ، الجذور، الذاكرة الجماعية، والمجد... وغيرها من المفاهيم، أكثر ممّا يصوّرها البعض ويحصرها بمفهوم الاقتصاد والمردود المادي للسياحة، إذ أنها -أي الآثار- قيمة تاريخية، وجدانية، انتمائية، أكثر من كونها مادية، ومفهوم الحضارة يختلف ويتباين من حيث الانتماء لها أو عدمه، فالحضارة بمفهومها العام تخص الإنسانية جمعاء، بينما «حضارتنا» تعنينا نحن، ومن هنا يكون انتماؤنا لها وعلاقتنا بها وثيقين وعميقين.
الآثار هي في حكم الميّت الذي لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، وإذا لم يجد من يحميه ويذود عنه فإنه يزول ويتلاشى كما حدث مع مدينة تدمر والموصل، وأحياناً قد يُطمر بقرار رئاسي كما حدث مع مدينة «أرتوزيا» حين أصدرت الحكومة اللبنانية قراراً بطمرها.
إن استهداف حضارات الشعوب، يأتي بهدف فصلها عن ماضيها، وتفتيت إرثها الجمعي، وانتمائها المشترك، ليسهل بعد ذلك السيطرة عليها وإعادة رسم ملامح هويتها الجديدة، وبالتالي ينشأ جيل جديد مفصول عن التاريخ والحضارة تماماً، وتصبح هويته هويّة فردية.
السؤال الذي يطرح نفسه؛ لماذا قام «التحالف العربي» بقصف وتدمير الآثار والمعالم التاريخية في اليمن، ولماذا لم يلقَ ذلك اهتمام المجتمع العربي والإقليمي والدولي. حيث يبلغ ما تم تدميره منذ بدء الحرب 57 موقعاً أثرياً بحسب الإحصائية الأخيرة الصادرة عن المركز القانوني للحقوق والتنمية اليمني لعام 2015 والتي كان أبرزها مدينة صنعاء، وسد مأرب، ومدينة زبيد، وقلعة القاهرة، وقلعة صيرة، ومؤخراً حصن كوكبان، أغلبها -طبعاً- يعود إلى ما قبل الميلاد، وهذا يعد خرقاً واضحاً لكل المعاهدات والمواثيق الدولية، التي كان أولها اتفاقية لاهاي عام 1907م. ما يعني بأن على المجتمع الدولي ممثلاً بالأمم المتحدة ومجلس الأمن أن يتحمل مسؤولياته، وأن يسعى لإيقاف هذه الحرب العبثية، والدفع قُدماً لإنجاح مفاوضات السلام، حتى يتم قطع الطريق أمام سماسرة التاريخ ولصوص الحضارة.
* كاتب يمني