في نقاشٍ منذ أشهر، امتعض منّي المفكّر والناشط الأميركي ديفيد بارساميان حين أخبرته، مازحاً، أنّني لا أمانع وصول شخصٍ كدونالد ترامب الى السّلطة، باعتبار أنه قد يضمن تحطيم الامبراطورية الأميركية وإنهاءها. انتقدني بارساميان بلطف، موضحاً أنّ هذا الخطاب يشبه كلام أولئك الذين فرحوا ــــ سرّاً ــــ بوصول أدولف هتلر الى الحكم، معتبرين أن وجود شخصٍ غير عقلاني على رأس السلطة لن يشكّل خطراً، بل هو كفيلٌ بتشتيت وتحطيم القوة الألمانية (ولأنه أخذ الموضوع على محمل الجدّ، لم أجبه بأن هتلر قد قام، بالفعل، بتحطيم القوة الألمانية). الربط بين دونالد ترامب وبين الفاشية ليس أمراً مستغرباً أو جديداً، فأنا لم أعرف انتخابات أميركية ــــ منذ أيام بوش الإبن ــــ لم يتمّ اتهام أحد أطرافها بالتحضير للفاشية والتوتاليتارية، أو أنّه يمثّل مخططاً سرياً (أجنبياً في حالة أوباما) للسيطرة على أميركا وتغييرها. التخويف من مرشّح الخصم وتصويره على أنّه هتلر القادم صار من الوسائل "الاعتيادية" لحشد المناصرين والنفخ في حماسهم، وإشعارهم بالأهمية القصوى للتصويت في يوم الانتخابات. عن ترامب، مثالاً، يكتب آدم كوغنيك في "ذا نيويوركر"، بلهجة من يبوح بنبوءة تاريخية، وبعد مقدمة درامية تشرح كيفية صعود هتلر والنازيين في المانيا: "تجد الجمهورية الأميركية نفسها، للمرة الأولى في تاريخها، تحت تهديد أوّل زعيمٍ لحزبٍ كبير يعادي الديمقراطية علناً ــــ شخصية سلطوية لا تملك أي معرفة بالتاريخ أو تحكّمٍ بنزواتها".الّا أنّه هناك، هذه المرّة، شيءٌ مختلف؛ فعلى المحللين الذين يحذّرون من ترامب و"الترامبية" أن يفسّروا، أوّلاً، كيف تمكّن هذا المرشّح ــــ "التافه، الزائف، الكاذب، العنصري، الفاشي، الخ..." ــــ من حيازة غالبية أصوات الحزب الجمهوري، وكيف خالف توقّعاتهم هم، الذين كانوا يعلنون ــــ اسبوعياً ــــ عن قرب نهايته، ويصرّون على أنّ هذا المرشّح لا يمثّل الّا الأقلية الجاهلة العنصرية المنغلقة، التي لا يمكن أن تمثّل اميركا أو أن تفوز في انتخابات. هكذا، تحوّلت التحليلات بشكلٍ دراماتيكي من "لماذا سيفشل ترامب" الى "لماذا ينجح ترامب"، وكلٌّ يقدّم نظريّته. في الـ"غارديان"، يُعلن جوناثان فريدلاند: "مرحباً بكم في عصر ترامب"، وتقول لنا مجلّة "أتلانتيك" ومات طيبي في "رولينغ ستون" إنّه "غير قابلٍ للإيقاف"، فيما كرّس مارك دانر ــــ في "نيويورك ريفيو اوف بوكس" ــــ مقاله لشرح "السحر الذي يمارسه دونالد ترامب". اللطيف في الموضوع هو أنّ ترامب نفسه، بحسب مارك دانر، لم يكن يتوقّع أن يصل الى هنا. قبل أن يطلق الملياردير ترشيحه رسمياً، بحسب أحد مدراء حملته، عقد اجتماعاً في "برج ترامب" لفريقه شرح فيه أن هدفه وسقف طموحه يتمثّل في حيازة المركز الثاني بين المرشّحين الجمهوريين، وأن ينال أكثر من عشرة في المئة من الأصوات، فيكون "مرشّح اعتراض" عابر ويحظى بدعاية وشهرةٍ وظهورٍ على التلفزيون، ثمّ يعود في وقتٍ مناسب لتصوير الموسم القادم من مسلسله "المتدرّب". ترامب اليوم هو المرشّح المفترض للحزب الجمهوري، وسيواجه هيلاري كلينتون في تشرين الثاني المقبل للمنافسة على قيادة أقوى دولة في العالم ــــ وتتوقع "نيويوركر" أن الأشهر الفاصلة بين تبنّي الحزبين لمرشحيهما، في أواخر تموز، وبين الانتخابات ستشهد "أقبح" الحملات في تاريخ الرئاسة الأميركية.
في الوقت ذاته، وُضِعت "ديموغرافيا ترامب"، الجماهير التي تصوّت له وتحضر خطبه بالآلاف وعشرات الآلاف، تحت مجهر التحليل؛ وبدلاً من تقريعها والاستخفاف بها كما في السابق، صار المعلّقون يودّون "فهمها" و"تفهّمها" والنّظر الى هؤلاء "الرجال البيض الغاضبين" كضحايا مضلّلة، خذلها النّظام والحزب والإقتصاد، فتجمّعت حول ترامب لتكون مرآةً لكلّ "خطايا" السنوات الماضية. لهجة الـ"ميا كولبا" هذه تطغى على التحليلات: دانر يلوم الإعلام، الذي لا تهمّه الّا نسب المشاهدة والعائدات؛ فالمرشّحون في اميركا، يقول الكاتب، هم سعاةٌ مهمتهم نقل المال من المتبرّعين الأثرياء الى الشبكات الإعلامية، حيث تُصرف هذه التبرّعات على شكل إعلانات. هذا الإعلام أعطى ترامب ــــ الجاذب الأكبر للمشاهدين والمعلنين هذه الأيام ــــ وقتاً تلفزيونياً مجانياً بقيمة ملياري دولار خلال السنة الماضية (الرسالة المبطنة هنا هي أن الإعلام كان يجب أن يتجاهل ترامب ويقصيه عن التغطية، وأن يعلّم الجمهور الأميركي كيف يحبّ جيب بوش أو ماركو روبيو). أما فريدلاند في الـ"غارديان" فهو يلوم كلّ تحوّلات السنوات الماضية، من الاقتصاد الى الثقافة، وفشل المؤسسات التي تمثّل العمود الفقري للديمقراطية الليبرالية (البرلمان، الجامعة، والإعلام) وفقدانها لثقة الجمهور. فيما مات طيبي يسخر من أندرو سلفان الذي كتب مقالاً تأبينياً للديمقراطية الأميركية يدّعي فيه، فعلياً، أن ترامب هو نتيجة "كثير من الديمقراطية" في اميركا (أما عن طيبي نفسه، فـ"نظريته" هي أن اللوم يقع على مثقفي الحزب الجمهوري الذين خدعوا جمهورهم وماشوا قيادتهم في تحولاتها وخضوعها للشركات والرساميل، بدلاً من لعب دورهم النقدي المفترض).
في خلفية كلّ هذا الكلام توافقٌ على أنّ المسبّب الأساسي لـ"الغضب الأبيض"، الذي قد يحمل ترامب الى الرئاسة، هو اقتصاديّ. الطبقة العاملة البيضاء عانت من انحدارٍ مستمرٍّ في دخلها وفي موقعها الاجتماعي؛ وصارت مجبرة على التنافس مع اليد العاملة الرخيصة في المكسيك وآسيا، وتجد نفسها تعاني من آثار كلّ أزمة اقتصادية فيما النخب والأثرياء يخرجون منها رابحين. بل أنّ القادة الجمهوريين أنفسهم قد خدعوا هذه الفئة وضللوها طوال سنواتٍ بخطابٍ عن الدين والقيم والأخلاق، فيما هم يوقّعون اتفاقات التجارة الحرّة ويكتبون نعي الطبقة العاملة. الطريف هنا هو كيف يتحوّل المعلّقون الليبراليّون، ما أن تواجههم الأزمة أو حالٌ يصعب تفسيرها، الى ماركسيين ملتزمين بالتحليل الطبقي، مؤكدين أن العنصرية البيضاء ما هي الّا "وعي زائف"، وإحباطٌ سببه عمل المنظومة الرأسمالية، وقد تمّ استثماره عبر مرشّحٍ شعبويٍّ وفاشيّ كدونالد ترامب. الّا أنّ نتائج هذا الخطاب، كما سنرى، لا تتوافق مع مقدّماته، ولا تؤشّر على نشوء "وعيٍ طبقي" ولغةٍ جديدة في السياسة الأميركية بل هي، على العكس تماماً، مثالٌ على قبول النخب الليبرالية بفرضيات تقدمية فقط من أجل نفي تأثيرها وتلافيه، وهي في هذه الحالة تحليلات معسكرٍ ناشىء يمكن تسميته بـ"ماركسيّين من أجل هيلاري". (يتبع)