ريشارد لابيفيير *
أكد وزير الخارجية الفرنسية فيليب دوست بلازي، بعد معلومات وردته من تلامذته، أن «مجلس الأمن قرر وقف الحرب»، مضيفاً بجدية فائقة أنه «بفضل العمل الدؤوب الذي قمنا به نحن والأميركيون، قد أُعيد ترسيخ الديموقراطية في لبنان». ويخلص إلى أنه «من المستحيل التشكيك بهذه الحقيقة». من دون تعليق..... الكثير يمكن أن يُقال عن عمل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وهيكليته، الذي من الأكيد أنه لا يقرر سوى ما يتفق عليه أعضاؤه الأكثر نفوذاً. ليس خافياً على أحد أن مجلس الأمن «قرر وقف الحرب» في الحادي عشر من آب، ولكن بعد مرور حوالى الشهر على بدء العمليات العدائية المفتوحة، وبعد سقوط أكثر من ألف ضحية مدنية لبنانية (بين قتيل وجريح)، وبعد تدمير البنية التحتية للبلد الذي قُدّرت الأضرار فيه بأكثر من عشرة مليارات دولار، وبعد التسبّب بمدٍّ بحري ملوث (تلوث بالفيول) من المؤكد أن هذا التلوث سيصيب شواطئ البحر المتوسط لفترة طويلة جداً، وبعد دمار تجاوز ــ بفعل الغارات والقصف المتواصلين طوال شهر كامل ــ ذلك الدمار الذي خلّفته الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت خمس عشرة سنة. وبالطبع فإن المصادقة على القرار 1701 الذي ساهم حتى الآن في وقف العمليات العدائية وانسحاب الجيش الإسرائيلي من الأرض اللبنانية، تعود بشكل رئيسي إلىالدبلوماسية الفرنسية بعد الكثير من اللف والدوران. غير أن نص القرار ظل غير منصف لأنه يحمّل مسؤولية النزاع إلى حزب الله على الرغم من أن الصحافة الأميركية تعترف الآن بأن العدوان الإسرائيلي على لبنان كان مخططاً له قبل عدة أشهر. والقرار يطلب من جهة، من حزب الله وقف «الهجمات»، ويدعو من جهة أخرى إسرائيل إلى وقف عملياتها العسكرية «الهجومية» بما يشير ضمنياً إلى أن القرار يستثني العمليات «الدفاعية» كأن ما من دولة أخرى في المنطقة غير إسرائيل لها الحق في الدفاع المشروع عن نفسها. قبل الوصول إلى هذه التسوية المصغّرة، عمد جاك شيراك، مثلما فعل شركاؤه في الدول الصناعية الكبرى (قمة الثماني في 15 تموز في بطرسبورغ) إلى منح إسرائيل «كارت بلانش» في عدوانها على لبنان الذي كان هدفه المتوقع والمخطط له بدقة وعناية: القضاء على مقاومة حزب الله مثلما هو هدف تل أبيب إنهاء المقاومة الفلسطينية أيضاً. ثلاثة عوامل أدت إلى هذا الاصطفاف: أولاً سوء تقدير تداعيات عمليات التدمير التي تنفذها القوات الإسرائيلية. ثانياً الاستخفاف بأهمية مقاومة حزب الله والشعب اللبناني، أما العامل الثالث فهو الفخ الرئيسي الذي تضمّنه القرار 1559 (الذي صادق عليه مجلس الأمن في 2 أيلول 2004)، وهذا الفخ هو المسؤول جزئياً عن اندلاع هذه الحرب الجديدة. وبذلك ارتضى الرئيس الفرنسي ما كان يرفضه بشدة سلفه فرانسوا ميتران، علماً بأن مجموعة الثماني ــ «نادي الأغنياء» كما يسمّيه فلاديمير بوتين ــ باتت تفرض نفسها «مجلس إدارة» للعالم وتحلّ شيئاً فشيئاً مكان منظمة الأمم المتحدة. في 17 تموز الماضي، خلال زيارة له إلى بيروت، بقي رئيس الوزراء الفرنسي دومينيك دوفيلبان على النهج عينه مطالباً بـ«إطلاق الأسرى الإسرائيليين من دون قيد أو شرط»، من دون الإشارة حتى إلى أي وقف لإطلاق النار، ولا الالتفات إلى التدمير الذي لحق بلبنان. وفي 26 تموز، خلال مؤتمر روما الدولي، بدأت باريس، التي كانت ترأس مجلس الأمن خلال شهر تموز، تعديل موقفها قليلاً. وفي تعارض مع رغبة واشنطن، طلب الطرف الفرنسي «وقف العمليات العدائية». وقد وُزّع مشروع أولي لقرار فرنسي على أعضاء مجلس الأمن، مشروع قرار كان موضوع نقاش رسمي في 31 تموز. علماً بأن هذه المبادرة كانت ترمي إلى معارضة اقتراح أميركي ــ بريطاني بإرسال قوة «استقرار» دولية يرأسها حلف شمال الأطلسي، مهمتها فرض السلام وفقاً للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. لكن هذا الوضع لم يدم طويلاً. فقد قرر الدبلوماسيون الفرنسيون والأميركيون التنسيق في ما بينهم تماماً مثلما حصل عشية تبنّي القرار 1559. وعلى مسمع من الجنرالات الإسرائيليين، لعبت واشنطن على مسألة الوقت وربحت أياماً، أملاً منها في أن يتمكن الجيش الإسرائيلي من إحراز نصر على الأرض، نصر إذا لم يكن حاسماً يكون على الأقل رمزياً. لكن بما أن هذا النصر لم يتحقق، اضطرت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس إلى حسم الأمر والعمل على وقف العمليات العدائية. وقد وافقت على نص مشترك مع الفرنسيين، أُعلن عنه في 4 آب. لكن للأسف، غياب أي ذكر لانسحاب القوات الإسرائيلية عن مشروع القرار جعله غير مقبول لدى اللبنانيين والدول العربية أيضاً.
عادت الدبلوماسية الفرنسية إلى موقع أكثر اتزاناً عبر المطالبة بالأخذ بالنقاط الرئيسية التي طرحتها الحكومة اللبنانية في روما. وقد حاولت باريس إقناع نظيرتها الأميركية بأن قوة الدولة اللبنانية وصلابتها أساسيتان لأمن إسرائيل. لذلك فقد طغت الحجج الفرنسية على روحية القرار 1559، وخصوصاً ما يتعلق بالمطالبة بنزع سلاح كل المجموعات المسلحة في لبنان. وفي خطوة لا تصبّ في مصلحة إسرائيل، تقرّر أن تنتشر قوات اليونيفيل بمؤازرة الجيش اللبناني في جنوب لبنان.
وفي 11 آب 2006، أجمعت الدول الـ15 في مجلس الأمن على القرار 1701. ولكن هذا القرار جاء نتيجة لجوء بعض الأطراف داخل الإدارة الأميركية إلى سياسة القبضة الحديدية بما اضطر صقورها، المؤيدين لتوسيع النزاع ليشمل كلاً من سوريا وإيران، إلى تأجيل خططهم الحربية. وجاء القرار الجديد نتيجة الفشل العسكري للجيش الإسرائيلي وخصوصاً نتيجة مقاومة حزب الله وصمود الشعب اللبناني الذي تخطى كل التوقعات الأميركية والإسرائيلية. في أي حال، ما زالت الخطيئة الأصلية في القرار 1559 تكمن في: محاولة فصل لبنان عن محيطه الإقليمي، عن مركز الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي الذي يبقى أصل أزمة الشرق الأدنى والأوسط. ولا يمكن للدكتور شيراك والسيد دوست بلازي أن يتجاهلا حقيقة أن «إحياء الديموقراطية اللبنانية من جديد» بات أمراً صعب المنال ما لم يُتوصّل إلى سلام عادل ومنصف، إقليمي وشامل بين إسرائيل وفلسطين.
* باحث سياسي فرنسي